حظيت الدراما التركية بشهرة واسعة على مستوى العالم، فلقد استطاعت أن تشعر جمهورها بالارتباط الوثيق بينهم وبين قصصها، إذ دخلت إلى أكثر من 130 بلدًا، بدءًا من الجمهور المحلي ودول البلقان، ومرورًا بالمنطقة العربية، وحتى دول أمريكا اللاتينية، وحققت أرباحًا عالية تصل إلى 350 مليون دولار، بعد أن كانت الحلقة الواحدة تباع بمبلغ يتراوح بين 1000 و1500 دولار، وحاليًا لا يقل سعرها عن 250 ألف دولار، وقد يصل في أحيان أخرى إلى 500 ألف دولار.
هذا التفاوت بين أسعار الحلقات في التسعينيات والوقت الحاليّ دليل واضح على النجاح الذي حققته الدراما التركية التي أدركت كيف تصل إلى المجتمعات المختلفة عبر عاداتها وتقاليدها التي جذبت انتباه الشريحة المحافظة والمنفتحة في الوقت ذاته، مثيرة الجدل والاهتمام بشأن عدة زوايا محورية في المجتمع التركي وتركيبته وتاريخه، وهذا بفضل التنوع الذي تتميز به الثقافة التركية.
على مر السنوات الماضية، اشتهرت هذه المسلسلات بعرضها لقضايا اجتماعية مختلفة، حققت بواسطة أحداثها وممثليها مشاهدات عالية، إلا أن نهج الدراما التركية اختلف بشكل واضح وبوقت قصير وتزامنًا مع التحولات السياسية التي عاصرتها البلاد في الآونة الأخيرة، وأصبحت تميل إلى الموضوعات التاريخية والوطنية، فما سر الاهتمام بهذا النوع من الإنتاجات التليفزيونية؟ وما قصة الأعمال التركية التاريخية والوطنية التي تعرضها الشاشات التليفزيونية؟
ما الغاية من انتشار المسلسلات التركية التاريخية؟
بدأت هذه الموجة من الأعمال التاريخية بداية من مسلسل حريم السلطان أو القرن العظيم الذي تحدث عن حياة السلطان عبد الحميد، واستمرت عند عرض الشاشات مسلسل فيلتنا وأرطغرل وأنت وطني، الأعمال التي وثقت جميعها قصصًا وأحداثًا واقعية من زمن حكم الدولة العثمانية، وجاءت لتروي هذا التاريخ من جديد، لأهداف شبه واضحة ومخططة.
ولا يخفي على أحد أن لكل من الحكومة التركية والأحزاب المعارضة نفوذًا واسعًا في المؤسسات الإعلامية، بمعنى أن السياسة تتدخل بشكل أو بآخر في الأعمال التي يتم عرضها، ويكون أحد الطرفين مسؤول عن الرسائل والأفكار التي تصدرها هذه المسلسلات للجمهور المشاهد، وهذا بالتوافق مع توجهاتهم السياسية والفكرية بالطبع.
يعتبر مسلسل أرطغرل من أكثر الأعمال الفنية التي لاقت رواجًا كبيرًا في البلاد، وهذه المتابعة الكبيرة لها أسباب مختلفة، منها دعم الحكومة التركية المباشر له، إذ يذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قام بزيارة موقع تصويره ودعا لمشاهدته باعتبار أنه يسرد التاريخ المبكر لتأسيس الدولة العثمانية ويذكر التحديات التي واجهها أرطغرل والد عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، في مواجهة الروم والمغول ليشهد العالم ولادة الإمبراطورية العثمانية في القرن الثالث عشر.
“مهمة هذه المسلسلات إيقاظ الماضي لفرض الطابع الإسلامي الذي كان سائدًا آنذاك على المجتمع التركي، وهذا يعني تبادل للأدوار بين العلمانية والفكر الإسلامي الذي حاول أجدادنا العثمانيون توريثنا إياه لكننا فقدناه بحكم السياسات المختلفة”
إذ قال عنه الرئيس أردوغان: “يحظى في الآونة الأخيرة باهتمام وإعجاب الجميع صغارًا وكبارًا، وأفراد أسرتي أيضًا يتابعونه عن كثب، فهو بمثابة رد على أولئك الذين يستخفون بقدرات تركيا وشعبها”، وجاءت هذه الإشادة على شكل دعوة تأمل من خلالها الحكومة أن تبني جسرًا بين الماضي والحاضر، لإضافة الطابع المحافظ على تاريخ الأراضي والمواطنين الأتراك، ولتذكرهم بأصولهم الإسلامية وبهويتهم التي تزعزت، إلى حد ما، مع انهيار الدولة العثمانية، ولكن على ما يبدو فإن الحكومة تسعى إلى إعادة طرح القيم والأفكار التي كانت رائجة في ذاك الوقت، وبالتالي التخلص من الصبغات والمفاهيم المنافية لها الموجودة في الفكر التركي.
ولقياس مدى فهم المجتمع المحلي لهذا التحول في قطاع صناعة الدراما التركية، حاور “نون بوست” طالبة الإعلام في جامعة إسطنبول ديران جينتش التي علقت قائلة: “المسلسلات التي تركز على قضايا تاريخية لها أبعاد متعددة وبعيدة عن التعريف أو التذكير فقط بتاريخ الدولة العثمانية وإنجازاتها، من الواضح أن هناك محاولات لاجتذاب وسحب الجماهير العامة إلى هذا الماضي، فهي تولد لدى الناس شعورًا بالحنين نحو الزمن الذي حكمنا فيه بلاد شاسعة في العالم، ففي كل زاوية هناك جامع أو جسر يحمل اسم سلطان معين، ورغم أنها كانت فترة اعتزاز وفخر لنا، فإن هذا يعني إلغاء للمبادئ العلمانية التي نشأت عليها الأجيال الشابة الحاليّة”.
وتكمل “مهمة هذه المسلسلات إيقاظ الماضي لفرض الطابع الإسلامي الذي كان سائدًا آنذاك على المجتمع التركي، وهذا يعني تبادل للأدوار بين العلمانية والفكر الإسلامي الذي حاول أجدادنا العثمانيون توريثنا إياه لكننا فقدناه بحكم السياسات المختلفة التي تصدرت سدة السلطة”.
“تجتهد هذه الأعمال في تشكيل الوعي والفكر العام، فهي تخلق حالة من التوافق الفكري بين الشعب والسلطة الحاكمة، من خلال الأفكار والمفاهيم التي تروج لها هذه المسلسلات”
وبشأن المسلسلات الوطنية التي تعرض بشكل مكثف على مختلف القنوات التليفزيونية، أجابت جنتش “في الوقت الذي نعيش في حالة من عدم الاستقرار الناجم عن حالة الطوارئ وعملية عفرين، تجتهد هذه الأعمال في تشكيل الوعي والفكر العام، فهي تخلق حالة من التوافق الفكري بين الشعب والسلطة الحاكمة، من خلال الأفكار والمفاهيم التي تروج لها هذه المسلسلات، فهي تخبرنا بطريقة ما أن المعارك والحروب والقتال جزء من تاريخنا القديم، ومرحلة من مراحل الانتصار، وضرورة للدفاع عن الحق، وهذه برمجة للأفكار لملائمة الموقف السياسي للحكومة التي تسعى إلى التخفيف من حدة الأصوات المعارضة للمجريات الأخيرة سواء في الشأن الداخلي أو الخارجي”.
وتشير أخيرًا إلى بعض المفاهيم التي نثرت بذورها هذه المسلسلات في العقلية التركية، ومنها الوطنية وحب الوطن والتضحية والانتماء والجهاد والوحدة، والتعريف بالدين الإسلامي ضمن إطار الأخلاق والأفعال الحميدة، وليس في الشعائر والممارسات الدينية، وأبرزها:
كوت العمارة
يحكي عن التاريخ المشترك بين الأتراك والعرب العثمانيين ويوثق أحداث المعارك والانتصارات التي تحققت خلال الحرب العالمية الأولى في 29 من أبريل/نيسان عام 1916 ضد القوات البريطانية في مدينة الكوت جنوب شرقي العاصمة العراقية بغداد، كما اجتمع فيها أعراق وشعوب مختلفة من الأكراد والأرمن والكلدان لدفاع عن بغداد، وهي آخر المعارك التي حاربت فيها هذه الجماعات على جبهة واحدة ضد الطموحات البريطانية، إذ تعتبر هذه الحادثة أكبر ثاني نصر للجيوش العثمانية في الحرب العالمية الأولى بعد معركة جناق قلعة التي انتهت بحصار الجيش البريطاني لمدة 147 يومًا وهزيمتهم فيما بعد.
لا يتردد هذا العمل في إظهار التضحيات والنضالات التي يقوم بها البطل للدفاع عن وطنه، لذلك يعد من أهم المسلسلات التي تصور جانبًا بارزًا من المحطات الرئيسية في تاريخ الدولة العثمانية.
جدير بالذكر أن تركيا كانت تطلق على هذا اليوم اسم “عيد كوت” حتى عام 1952، لكن عند دخولها إلى حلف الشمال الأطلسي، ضغطت بريطانيا على السلطات التركية لإزالة هذه الواقعة من كتب التاريخ، وبالفعل استجابت تركيا لرغبة بريطانيا، في محاولة منهما لنسيان الدماء القديمة.
الأسد الباسل
يتناول هذا المسلسل حياة القائد السلجوقي العظيم ألب أرسلان الملقب باسم “سلطان العالم”، لاتساع حكمه وسيطرته على المناطق الممتدة من آسيا الوسطى وأرمينيا وجورجيا وتركستان والشام والعراق، وبسبب كل هذه القوة التي امتلكها استطاع أن يخوض معركة ملاذ كرد التي تعد من أهم المعارك في التاريخ الإسلامي لانتزاعه الأناضول من سيطرة البيزنطيين وترسيخه للحكم الإسلامي فيها وهذا بالتعاون مع وزيره “نظام الملك”.
علي عزت بيغوفيتش
يروي هذا المسلسل قصة حياة المناضل البوسني والرئيس الأول لجمهورية البوسنة والهرسك، علي عزت بيغوفيتش، الذي توفى عام 2003 بعد أن صنع من نفسه رجلاً سياسيًا وفيلسوفًا إسلاميًا له مؤلفات منها “الإسلام بين الشرق والغرب”، هذا ويعرف بيغوفيتش أيضًا بمحاربته لجميع أشكال الظلم والتمييز وخدمته لشعبه، كما حصل هذا المسلسل أيضًا على إشادة الرئيس أردوغان الذي اعتبرة أنسب وسيلة لتعريف الأجيال الناشئة على هذه الشخصية المهمة في التاريخ.
يعرض هذا المسلسل طموح وحياة بيغوفيتش في ست حلقات فقط، إذ يعرض كيف يحكم عليه بالسجن بسبب اتهامه برغبته في تأسيس جمهورية إسلامية في وسط أوروبا، ومن هنا تبدأ أحداث حياته بالتنقل من السجن إلى رئاسة البلاد تدريجيًا، وحتى محاربة الصرب واجتهاده في إنقاذ بلاده من الحرب والدمار.
السلطان محمد الفاتح
عرض هذا المسلسل سابقًا عام 2013، لكنه فشل في جذب أنظار ومشاهدات الجمهور، لذلك تم وقف عرضه في الحلقة الخامسة، لكنه عاد هذا العام بحلة جديدة لينافس الأعمال الأخرى بمقايسس إنتاجية جديدة وغير مسبوقة، ومع ذلك تعرض لانتقادات كثيرة بسبب استخدامه لنفس الاسم السابق.
يحكي المسلسل حكاية السلطان محمد خان ابن السلطان مراد خان، سابع السلاطين العثمانين والملقب بالفاتح وأبي الخيرات الذي عرف بكثرة فتوحاته وتوسعه للدولة الإسلامية في عصره عندما حارب الدولة البيزنطية، وغير من مجريات التاريخ بفتوحاته لبلدان مختلفة مثل البوسنة وجزر اليونان وآسيا الصغرى وألبانيا، ومن المرجح أن ينافس هذا العمل مسلسل أرطغرل الذي نال مشاهدة عالية ونجومية كبيرة في الأوساط المختلفة.
هذه مجموعة من المسلسلات التي تسعى إلى جذب أنظار المواطن التركي والأجنبي لمشاهدتها في ظل الأحداث والصراعات التي تعيشها الدول المختلفة، لتعطيه الجانب الذي تريده من التاريخ وبمنهج معين لا يكون مناقض لأسلوبها في التفكير والتحليل.