عرفت الجزائر التي كانت تعرف قديمًا باسم “المغرب الأوسط”، منذ الفتح الإسلامي الأول للمنطقة تعاقب عديد من الحضارات الإسلامية على حكمها، من ذلك الدولة الزيانية التي حكمت البلاد لأكثر من ثلاثة قرون، اتخذت خلالها تلمسان عاصمة لها، وعرفت فيها الجزائر ازدهارًا كبيرًا شمل العديد من المجالات رغم الحروب التي ميّزت فترة حكمها.
الدولة الزيانية.. بداية الحكم
يرجع أصل الدولة الزيانية أو بنو زيان، أو كما يطلق عليهم أيضًا بنو عبد الواد إلى قبيلة زناتة وهي إحدى أكبر القبائل العرقية ذات الأصول الأمازيغية التي سكنت في بلاد المغرب، وأصل تسميتهم عائد إلى جدّهم عبد الواد، وهم من ولد يادين بن محمد بن رزجيك بن أسين بن ورسيك بن زناتة.
قبل استقرارهم بتلمسان، كان بنو عبد الواد عبارة عن قبائل رحل يجوبون صحراء المغرب الأوسط بحثًا عن المراعي المناسبة لدوابهم بين سجلماسة ومنطقة الزاب بإفريقية، ومع بداية الفتح الإسلامي ساند بنو عبد الواد عقبة بن نافع الفهري، وشكلوا فرقة من جيشه تابعت معه فتوحاته غربًا.
استغل يغمراسن تراجع الدولة الموحدية وتداعي حكمها لتوسيع حدوده على حساب أقاليمها
بين سنة 1229 و1235 ميلاديًا، عرفت تلمسان والمنطقة التي يقيم بها بنو عبد الواد، أحداث عنف وفوضى، وخلالها حاول والي المنطقة أبو سعيد عثمان القضاء على وجود بني عبد الواد والتخلص منهم وإلقاء القبض على مشايخهم، بعد أن اتسعت رقعة حكمهم في المنطقة.
استغل بنو عبد الواد حالة التخبط والصراع على الحكم في إقليم تلمسان ورغبة الموحدين في تصفية كبار القبيلة لإضعاف قوتها وإخضاعها لدولتهم، في الصعود إلى الحكم والإمساك بزمام الأمور في المنطقة سنة 1235 ميلاديًا.
أول حكام الزيانيين كان يغمراسن بن زيان، فقد وصل إلى سدة الحكم على إقليم تلسمان بعد أن كتب إليه الخيفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن المأمون بالعهد بتولي الحكم على ولاية المغرب الأوسط وعاصمتها تلمسان.
بعد فترة وجيزة من بداية حكمه، استغل يغمراسن تراجع الدولة الموحدية وتداعي حكمها لتوسيع حدوده على حساب أقاليمها، ثم ألغى سلطة الموحدين على تلمسان واستقل بها مع إبقائه على الدعاء والخطبة للخليفة الموحدي وذكر اسمه في السكة، واتخذ الوزراء والكتاب والقضاة، واستمر عهده حتى سنة 1282ميلاديًا، مما مكنه من توطيد ملكه وتأسيس نظم دولة جديدة بالمغرب الأوسط.
بداية صعبة
موقعها وسط الدولة الحفصية (تونس) والدولة المارنية (المغرب)، كلّف دولة بني زيان الكثير وجعلها تعيش فترات صعبة خاصة مع بداية حكمها وبسط سلطانها على المغرب الأوسط، فقد شهدت تلك الفترة حروب عدة بين الزيانيين والحفصيين والمارينيين.
وكان النزاع سيد الموقف في العلاقات بين هذه الدول الثلاثة في الغرب الإسلامي، فكلما سنحت الفرصة لإحدى الدول استغلتها بهدف القضاء على الدولة الخصم، فالسياسة العامة لدول المغرب الإسلامي الثلاثة هي سياسة المحافظة على التوازن وعدم السماح لأي منها بالانفراد بالسيادة والسيطرة على المنطقة، وكل محاولة للخروج عن هذه السياسة سرعان ما تجابه وتصد بتحالف بين الدولتين ضده.
حدود الدولة الزيانية
كثيرًا ما تحالف الحفصون مع المارنين ضد الزيانين، رغم علاقة المصاهرة بين العائلتين الحاكمتين في الدولتين، حيث أقدم الجيش الحفصي على احتلال مدن عديدة على الحدود والسيطرة عليها عندما يكون الجيش الزياني مشغولاً بمحاربة بني مرين، أو تكون الحكومة مشغولة بالقضاء على الاضطرابات الداخلية.
تطوير الدولة
بعد القضاء على الخطر الخارجي والداخلي، تحوّل اهتمام بني زيان إلى تطوير دولتهم فنشطت الزراعة والتجارة والصناعة، ويقول مؤرخون إن الدولة الزيانية اهتمت بترقية الزراعة واتباع طرق علمية في هذا المجال، من ذلك استخراج المياه الجوفية وإقامة السدود وحفر القنوات والجداول للري، كما اعتنوا بتنويع المنتجات الزراعية والإكثار من البساتين والحدائق حول المدن ووسطها.
إلى جانب الزراعة، اعتنى الزيانيـون بالصناعة وأشهرها على الإطلاق، صناعة السفن التجارية والحربية التي كانت الحكومة توليها عناية خاصة وتنفق عليها من مالها الخاص، وصناعة الأدوية التي تدل على مدى تقدم الكيمياء والطب وغيرها من الصناعات الأخرى.
الازدهار الاقتصادي والزراعي والتجاري، أحيا النشاط العلمي والفكري في البلاد
فضلاً عن انتشار صناعة النسيج على اختلافه والسجاد والزرابي التي اشتهرت بهما تلمسان والأوراس، وصناعة الأحذية والأثاث الرفيع وصناعة التطريز والأسلحة، وقد توفرت لها اليد العاملة الماهرة التي هاجرت الأندلس وبعض عواصم المشرق العربي.
كما ازدهرت التجارة في المنطقة في عهد الزيانيين، فقد نظّم الزيانيون تجارتهم مع دول شمال البحر الأبيض المتوسط (دول أوروبا)، ومع دول جنوب الصحراء في القارة الإفريقية وجارتيها تونس والمغرب الأقصى.
إنشاء العديد من المدارس
هذا الازدهار الاقتصادي والزراعي والتجاري، أحيا النشاط العلمي والفكري في البلاد، فقد انتشرت الثقافة والعلوم ونبغ كثير من الفقهاء والأدباء والمؤرخين، فكانت همزة وصل بين دول أوروبا وأقطار ما وراء الصحراء الإفريقية وملتقى طلاب العلم من مختلف الأقطار.
وقد استحسن العلامة التونسي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة نظام التعليم في الجزائر فقال: “يغذي الملكة، ويقرب المفهوم، لأن الأبحاث في مختلف العلوم، جارية على القوانين النظرية والاستدلالات العقلية”.
وانتشرت في تلك الفترة المدارس التي وصفها الحسن الوزان بأنها “حسنة جيدة البناء، مزدانة بالفسيفساء وغيرها من الأعمـال الفنية”، ومن أشهر هذه المدارس مدرسة ولدي الإمام التي بنيت في عهد السلطان ابن حمو موسى الأول ويعود سبب بنائها أن الأخوين “ابني الإمام” دخلا تلمسان في عهد هذا السلطان، فأكرمهما وبنى لهما هـذه المدرسة التي سميت باسمهما.
اهتمام كبير بإنشاء المساجد والزوايا
ومن المدارس التي بنيت في العهد الزياني نجد أيضًا “المدرسة التاشفينية” التي بناها عبد الرحمن أبو تاشفين بجانب الجامع الأعظم، وعين بها مدرسين من كبار العلماء من أمثال أبي موسى المشدالي وكانت هذه المدرسة تحفة فنية رائعة.
وبرزت أيضًا المدرسة اليعقوبية التي أسسها السلطان أبو حمو موسى الثاني على ضريح والده يعقوب وعميه: أبي سعيد عثمان وأبي ثابت، وقد أكثر السلطان عليها الأوقاف، وكان الإمام أبو عبد الله الشريف التلمساني واحدًا من أكابر مدرسيـها.
انتشار المساجد
لم يكن التعليم في العهد الزياني حكرًا على المدارس فقط، بل شمل المساجد والزوايا أيضًا على اعتبار أنها مراكز علمية مساعدة ومكملة للمدارس، وعرفت مدن الدولة إنشاء العديد من المساجد وأبرزها مسجد سيدي أبي الحسن الذي أسسه السلطان أبو سعيد عثمان، تخليدًا لذكرى الأمير أبي إبراهيم ابن يحيى يغمراسن بعد وفاته، كما تدل على ذلك الكتابة المنقوشة على لوح من المرمر مثبت على الحائط الغربي لقاعة الصلاة.
مسجد سيدي الحلوي
ومن المساجد الزيانية الباقية إلى الآن مسجد سيدي الحلوي الذي يحمل مميزات العمارة المرينية، فهو ذو تناسق تام ويتخذ شكل مستطيل، يشبه في ذلك مسجد حسان بالرباط وجامع قرطبة، يحيط بالبوابة الكبيرة للمدخل الرئيسي إفريز من الزليج مكون من أشكال نجمية ذات ثماني رؤوس، يعلو هذه الأخيرة شريط لزخارف هندسية فوقها نقيشة كتب عليها تاريخ البناء واسم مؤسس المسجد.