ترجمة وتحرير: نون بوست
نال الفيلم الوثائقي الذي يصور حرب الفيتنام المكون من عشرة أجزاء، لمخرج الأفلام الوثائقية كين بيرنز، والمنتجة لاين نوفيك، استحسان الكثير من المؤرخين ونقاد السينما؛ خاصة أنه يروي قصة أكثر الحروب التي لم تحظ بشعبية في التاريخ الأمريكي. وقد كان الفيلم بمثابة تحقيق عصري شمل الكثير من المجالات المتعلقة بهذا النزاع، بدءا من الجندي العادي الذي جُند في الجيش من ميزوري، وصولا إلى المتظاهر المناهض للحرب الذي شن حملة تهدف إلى إنهاء مشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب.
لكن في الحقيقة، كان هذا العمل رائعا لسبب وجيه آخر، يتمثل في نجاح فيلم بيرنز ونوفيك في تسليط الضوء على الجحيم الحقيقي الذي قاتل في خضمه الجنود على أرض الميدان، الذي يتعارض مع التقييم المتفائل والمضلل الذي تقدمه القيادة العسكرية الأمريكية العليا للشعب الأمريكي. وفي كثير من الأحيان، كان الأمر كما لو أن السياسيين الذين يبيعون الحرب في واشنطن والجنرالات في القيادة العسكرية في الفيتنام يعيشون في عالم مختلف تماما عن جحيم الجنود المشاة، والقباطنة، والملاحين الذين كانوا يخاطرون بحياتهم (ويموتون) في أدغال جنوب شرق آسيا.
في الواقع، عندما أجرى الجنرال وليام ويستمورلاند مقابلة في النادي الوطني للصحافة، في تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 1967، تحدث عن الحرب التي كانت تسير ببطء ولصالح الولايات المتحدة. وبينما كان المقاتلون الفيتناميون الشماليون (الفييتكونغ) يتعرضون للضربات جراء العمليات العسكرية الأمريكية والفيتنامية الجنوبية، كان الفيتناميون السوفياتيون يقومون بعمليات نشر ميدانية لجيش أكثر تخصصا. ومن جانب آخر، كان العدو يخسر معركة الاستنزاف، لذلك توقع ويستمورلاند أن النزاع من المحتمل أن يصل إلى نقطة “تبدأ فيها النهاية في الظهور”.
كأن الأمريكيين يعيدون تاريخ منتصف أو أواخر الستينيات، عندما أرسل الآلاف من الأمريكيين إلى ساحة المعركة للتصدي لعدو يتمتع بميزة القتال على أرضه
بطبيعة الحال، أثبت التاريخ أن توقعات ويستمورلاند كانت خاطئة. فبعد ذلك بشهرين، شن الفييتكونغ هجوما كبيرا عبر عواصم المقاطعات الفيتنامية الجنوبية خلال “عيد تت”، ما تسبب في حالة من الفوضى في مدينة سايغون، فضلا عن أن تلك الحادثة كشفت للرأي العام الأمريكي مدى خطأ توقعات القادة العسكريين، والبنتاغون، والبيت الأبيض.
أما بعد خمسين سنة، ظهرت فجوة مماثلة في أفغانستان بين التقييمات الوردية التي قدمها القادة الأمريكيون والتقارير الإعلامية بشأن أفغانستان، التي تظهر العنف واليأس في العاصمة، وتوسُع نفوذ حركة طالبان في حوالي 44 بالمائة من مقاطعات البلاد، فضلا عن وجود حكومة وحدة وطنية ليست موحدة أو بالأحرى ليست وطنية.
كأن الأمريكيين يعيدون تاريخ منتصف أو أواخر الستينيات، عندما أرسل الآلاف من الأمريكيين إلى ساحة المعركة للتصدي لعدو يتمتع بميزة القتال على أرضه. وتكمن الاختلافات الملحوظة الوحيدة بين تجربة الولايات المتحدة في الفيتنام وخبرتها الحالية في أفغانستان (بالنسبة لغير المؤرخين على الأقل) في طول فترة الحرب التي انخرط فيها الجنود الأمريكيون، والطابع السياسي والديني للعدو، والبلد الذي تدور فيه الحرب.
حيال هذا الشأن، اسأل مسؤولا رفيع المستوى في الإدارة، أو متحدثا باسم الشؤون العامة للتحالف الأمريكي أو حلف شمال الأطلسي، أو الجنرالات الذين ينفذون خطة الحرب كيف تسير الحرب في أفغانستان، ولن تفاجئك الإجابة: “إن الأمور تسير على ما يرام”.
أما فيما يتعلق بمسألة ما إذا كانت أفغانستان تتحرك في الاتجاه الصحيح، أجاب الجنرال جون نيكولسون بالإيجاب. وفي الواقع، إجابته تشبه إلى حد كبير إجابة ويستمورلاند سنة 1967 حين قال “أعتقد أن الأوضاع تبشر بالنجاح. الرئيس غني قال إننا نمر بمنعطف وأنا أوافقه في ذلك”.
يمكنك قتل الكثير من المتمردين، والدفاع عن الكثير من الناس، وبناء الكثير من السدود، لكن في حال استطاع العدو عبور الحدود المجاورة والانتظار إلي حين بداية الموسم الجديد من القتال، لن يكون حينها بوسع الجيش الأمريكي فعل أي شيء
في المقابل، استخدم وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، لغة أقل تفاؤلا، لكن موقفه بشأن سياسة إدارة ترامب في جنوب آسيا كان مشابها إلى حد كبير. وفي هذا السياق، قال تيلرسون للصحافيين في شهر آب/ اغسطس الماضي، “نعتقد أننا قادرون على تعويض الخسائر التي تكبدناها خلال العام ونصف العام الماضيين وعلى الأقل ستشهد الأوضاع استقرارا ونأمل أن نحقق بعض الانتصارات”.
مما لا شك فيه، ليس هناك مجال للسلبية في الرتب. كما أشار الجنرل، الذي كان يقود قوات المارينز في ولاية هلمند، إلى أن قوات الأمن الأفغانية قد ازدادت ثقتهم في قدراتهم على هزم طالبان والاستحواذ والاحتفاظ بالمزيد من الأراضي. وفي الواقع، لقد سمع الأمريكيون بذلك مسبقا.
ففي نفس المحافظة، قبل حوالي ثماني سنوات، وفي فترة زيادة عدد القوات الأمريكية، وصف الجنرال ستانلي مكريستال الإستراتيجية بأنها في تطور ملحوظ؛ الأمر الذي أسفر عن مقتل أعداد كبيرة من عناصر طالبان وإبعاد المتمردين بعيدا عن المراكز السكانية ومصادر التمويل. وقيل للأمريكيين أنه مع مرور الوقت، وبالتحلي بالصبر والالتزام المقيد بالشروط بالإمكان إنقاذ أفغانستان.
لكن، تبين أن مكريستال، على غرار أسلافه، كان مخطئا. ففي الحقيقة، يمكنك قتل الكثير من المتمردين، والدفاع عن الكثير من الناس، وبناء الكثير من السدود، لكن في حال استطاع العدو عبور الحدود المجاورة والانتظار إلي حين بداية الموسم الجديد من القتال، لن يكون حينها بوسع الجيش الأمريكي فعل أي شيء. ودعنا نلقي نظرة على التقارير الإخبارية الحالية والتقييمات التي أجراها المفتش العام الخاص بعمليات إعادة إعمار أفغانستان. وبناء عليها، سؤال واحد يطرح: ما هي الأرقام التي يتطلع نيكولسون وبقية قادته لتحقيقها.
في الوقت الذي يتباهى فيه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بعجز طالبان عن تحقيق أهداف الحرب التي وُضعت العام الماضي، قدم مسؤولون مجهولون في وزارة الدفاع تقديرات تشير إلى زيادة الحركة في القوى العاملة. فخلال سنة 2014، كان عدد مقاتلي الحركة يقارب 20 ألفا أما الآن فالعدد قد قارب 60 ألف مقاتل.
يطلق سكان كابول على العاصمة “منطقة حرب”، رغم مرور ستة عشر عاما، ومنح 74 مليار دولار من تمويل دافعي الضرائب الأمريكي لقوات الأمن الأفغانية، وانفاق مئات المليارات من الدولارات الإضافية على بناء المؤسسات
في الأثناء، استكملت هيئة الإذاعة البريطانية تحقيقا استمر شهرا، حيث جاب الصحافيون كل أرجاء البلاد وتوصلوا إلى حقيقة أن حركة طالبان تنشط في 70 في المائة من مناطق أفغانستان. كما أكدت هيئة الإذاعة البريطانية أن “حوالى 15 مليون شخص، أي نصف عدد السكان، يعيشون في مناطق تسيطر عليها حركة طالبان أو تحاصرها وتنتشر فيها بانتظام”.
من جهته، اتخذ الائتلاف موقفا من أرقام هيئة الإذاعة البريطانية، قائلين إن طالبان تتعرض لضغوط من الضربات الجوية الأمريكية التي يتعين عليها توجيهها بسبب الهجمات التي تشن في الريف، بيد أن الأمر لا يتعلق فقط بالريف وإنما بالمدن أيضا.
أما في كابول، مقر الوزارات الحكومية الأفغانية، والمؤسسات المالية، وقيادة الجيش، والقصر الرئاسي، والمنظمات غير الحكومية الدولية، والسفارات، قُتل مئات الأفغانيين في هجمات انتحارية خلال العام الماضي، وكان كل هجوم يقع أكثر دموية من الذي سبقه. وتجدر الإشارة إلى أنه في أيار/ مايو الماضي، شهد الأفغان أعنف تفجير انتحاري، عندما انفجرت شاحنة مياه في الحي الدبلوماسي في كابول، ما أسفر عن مقتل 150 شخصا على الأقل. وخلال فترة قصيرة أسبوعين من كانون الثاني/ يناير، وقعت ثلاث هجمات منفصلة، منها حصار دام خمسة عشر ساعة على أشهر فنادق كابول الدولية، حيث قتل 128 شخصا.
حاليا، يطلق سكان كابول على العاصمة “منطقة حرب”، رغم مرور ستة عشر عاما، ومنح 74 مليار دولار من تمويل دافعي الضرائب الأمريكي لقوات الأمن الأفغانية، وانفاق مئات المليارات من الدولارات الإضافية على بناء المؤسسات، ودعم الميزانية، والقروض، وإعادة الإعمار، ومكافحة المخدرات ومدفوعات مكافحة الإرهاب لباكستان.
في يوم من الأيام، بعد عشرين أو ثلاثين عاما، سيحوز مخرج آخر جائزة على غرار كين بيرنز، لإخراجه فيلما وثائقيا يحقق في أسباب قضاء الولايات المتحدة لعقد ونصف من الزمن في أفغانستان بين كر وفر لتبوأ جميع محاولاتها بالفشل. لكن، لا تتفاجأ إذا كانت الشهادات والمقابلات والاستنتاجات من الفيلمين الوثائقيين متطابقة تقريبا.
المصدر: ناشيونال إنترست