عادة وقت المعارك العسكرية في قطاع غزة، يتخذ الصحفيون من المستشفيات مقارًا لهم داخل خيمة مخصصة يتوافر فيها الإنترنت، وذلك لسهولة تغطية الأحداث ورفع موادهم الصحافية إلى الوكالات التي يعملون بها، بديلًا من العمل في البيت والوقوع في فخ قطع التيار الكهربائي فجأة، وغالبًا كانوا يعودون ليلًا إلى بيوتهم.
هذه المرة، في طوفان الأقصى، كل شيء مختلف، فلم يعد للصحفيين في الجنوب سوى خيمتين – مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح والثانية بالمستشفى الكويتي في رفح – يتنقلون بينهما “للعمل والنوم” طيلة أيام الحرب بعدما قصفت بيوتهم وأماكن عملهم، ولرفض عوائلهم استقبالهم في مراكز النزوح.
صحفيو الجنوب “محظوظون” أكثر من زملائهم في شمال القطاع، حيث لا خيام تتوافر فيها خدمات الإنترنت ولا سيارات تنقلهم للحدث، فقط يقطعون مسافات طويلة لتغطية الأحداث، والمحظوظ منهم يتخذ من “عربة الحمار” وسيلة لنقله، ويرفعون أعمالهم الصحفية في أقرب نقطة إنترنت حتى لو كانت خطرة، وكلهم لا يتجاوز عددهم الـ10 ما بين مراسل ومصور، وذلك بعدما نزح غالبيتهم للمناطق الجنوبية.
وطيلة فترة الحرب استهدفت “إسرائيل” الصحفيين بشكل مباشر، فقتلت حتى كتابة التقرير 151 صحفيًا وهم على رأس عملهم وفي بيوتهم، بعد تهديدات عدة وصلتهم بالتوقف عن العمل، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل شهرت بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومارست انتهاكات أخرى كسحب جوائز دولية حصلوا عليها بعدما فضحوها عبر القصص التي توثق إرهابهم.
هذه المرة ينصت “نون بوست” عبر تقرير، لعدد من الصحفيين بشأن تجربة العمل الخطرة في الحرب وكيف يواجهون المخاطر الإسرائيلية ويتغلبون على ضعف الإمكانات لنقل الأحداث إلى العالم.
قصف بيوت الصحفيين وسحب جائزة مها الحسيني
لم تتوقف الصحفية مها الحسيني عن العمل منذ بداية حرب غزة، رغم نزوحها من مدينة غزة رفقة عائلتها إلى الجنوب القطاع، تحكي لـ”نون بوست” أنها نزحت 13 مرة وكل مكان يهدد ويتعرض للقصف تنجو وعائلتها ثم تنزح لمكان آخر لاستكمال عملها في توثيق قصص الضحايا.
كانت الحسيني تغير مكان عملها حسب وفرة الإنترنت، رغم محاولات عائلتها ثنيها عن العمل، خوفًا على حياتها، خاصة بعد الاستهداف المُركز ضد الصحفيين، تقول الحسيني: “لا أستطيع التوقف (..) أنا الناقل والضحية”، مشيرة إلى أنه عرض عليها السفر والنجاة، لكنها كانت ترفض وفضلت البقاء لمواصلة توثيقها معاناة الناس.
وتؤكد أنه لا أحد يمكنه نقل المعاناة وهو لم يعشها بتفاصيلها في قطاع غزة، حيث كانت تقنع عائلتها بأهمية عملها الذي كان يؤثر كثيرًا في المحافل الدولية، خاصة حين استندت دولة جنوب إفريقيا إلى تقرير أعدته عن الإعدامات الميدانية واستخدم كدليل لمحاسبة “إسرائيل”.
وحصلت الحسيني على جائزة “الشجاعة في الصحافة” من المؤسسة الإعلامية النسائية الدولية (IWMF) وهي تُمنح للصحفيات اللواتي يواجهن المخاطر ويقمن بتغطية الحروب، إلا أن المؤسسة سحبت الجائزة، بفعل الضغوط الإسرائيلية.
تعلق الحسيني على ما جرى بتهكم “تأخروا في سحب الجائزة، كنت أدرك أنهم لن يسكتوا على منحي الجائزة وسيقومون بحملة تحريضية لدرجة حين علمت بالأمر لم أستغرب”، متابعة: “ليست المرة الأولى التي أتعرض لحملة تحريض، فقد حصلت في عام 2020 على جائزة من منظمة Rory Peck Trust البريطانية، وأطلقت مؤسسات إعلامية إسرائيلية حملة اتهمتني بمعاداة السامية، لكن المنظمة لم تستجب في ذلك الوقت للضغوط الإسرائيلية”.
وعن الصورة العالقة في ذاكرتها رغم تكدس مشاهد الحرب، ذكرت أنها كانت لأم تبحث عن جثة ابنها في المستشفى الأوروبي بخانيونس بعد خروج جنود الاحتلال، استغربت وقتها أن جميع الجثث ممحية الملامح لكن الأم أصرت على البحث فهي تعرف ابنها من نابه، تقول الأم لحسيني “ابني له ناب فوق السن”.
سألت الحسيني الأم، ما الذي يجبرك على البحث وسط الروائح التي تخرج من الجثث، فكان ردها “أريد التعرف على جثة ابني لدفنه”.
وبالقرب منها وتحديدًا في مستشفى شهداء الأقصى، يقف مراسل قناة العربي، عبد الله مقداد – 39 عامًا – أمام الكاميرا يعلق وينقل الحدث – من حين لآخر – ثم يعود إلى مقعده في الخيمة لينال قسطًا من الراحة، وسرعان ما يأتي عدد من الشهداء، فيعود لكاميرته التي أصبحت في الفترة الأخيرة وسيلة لطمأنه عائلته التي وصلت مصر، أنه بخير.
لم يلتق بعائلته طيلة شهور الحرب سوى مرات قليلة كان يذهب للسلام عليهم، ثم تطلب منه والدته المغادرة، خاصة أن “الجارات” كن ينزعجن عند وصوله فهن يدركن أن “صحافة يعني قصف”.
في الأيام الأولى قصفت شقته، فاضطر لنقل عائلته وزوجته وأطفاله الـ3 إلى مكان أكثر أمنًا، فنجوا مرة ومرتين و3 مرات من الموت كما يقول، حتى قرر إخراجهم إلى مصر، أما هو فيقول “لا أستطيع هذه رسالتي ويجب تأديتها إلى النهاية”.
ويتهرب مقداد كما يخبر “نون بوست” من أسئلة الصغار النازحين في الخيام الموجودة بالمستشفى حين يقولون “عمو متى رح تخلص الحرب”، معلقًا: “أتمنى أن أجد إجابة لأخبرهم”.
هل يخشى مقداد الاستهداف بعدما فقد عددًا من زملائه الصحفيين؟ يقول: “كلنا معرضون للخطر، لكن نحمي أنفسنا بأبسط الإمكانيات المتوافرة، ولا بد أن نوصل رسالتنا حتى النهاية”، مشيرًا إلى أنه وفريق القناة التي يغطي بها يعملون بأدوات بسيطة بعدما فقدوا الكثير من المعدات تحت القصف.
ماذا يتمنى؟ أمنياته بسيطة فهو يتنظر اللحظة التي يخلع فيها درعه الصحفي وينام دون سماع صوت الزنانة، وألا يعتاد مشاهد الدم والشهداء.
معدات بسيطة وخوف المواطنين من الصحافة
ينهي مقداد تغطيته ليتسلم في ذات المحطة الإخبارية زميله إسلام بدر – 36 عامًا – بقية التغطية من شمال قطاع غزة، حيث يولي الأخير وجهه صوب كاميرا الموبايل التي يحملها المصور ليوثق الحدث.
يذكر أنه يعمل بأبسط أدوات الصوت والكاميرات في الشمال، ما يتسبب في مصاعب عند توثيق جرائم الاحتلال في شوارع مدينة غزة وشمالها.
ويقيم مراسل العربي رفقة عدد قليل من زملائه الصحفيين في أماكن معينة، كونهم يتبادلون المعدات الصحفية وقت التغطية المباشرة.
يقول لـ”نون بوست” إنه لم ينم في بيته منذ بداية الحرب وبالكاد يلتقي بمن تبقى من أفراد عائلته في الشمال، فهو طيلة الوقت بعيد عن مكان البيت المتضرر بفعل القذائف الحربية، عدا عن أن وجوده يزعج الجيران لأنه صحفي.
لماذا بقيت في الشمال؟ يجيب “لم أقتنع بأوامر الاحتلال بالنزوح، ولو غادر كل الصحفيين سيكون الشمال منطقة معتمة وسيتمادى الاحتلال في جرائمه، ومن باب مسؤوليتي المهنية آثرت البقاء دون عائلتي”.
أما عن تعامل المواطنين فور الاقتراب منهم لتغطية حدث ما، يذكر أنه لا يلومهم بسبب الابتعاد وذلك بفعل الاستهداف الممنهج من الاحتلال للصحفيين، مشيرًا إلى أن الأمر لا يقتصر على الصحفيين بل وعوائلهم الذين عانوا كثيرًا لإيجاد مكان آمن وقت النزوح، فالمواطنون يخافون ويعلقون “لا نريد بجانبنا صحافة أو أهل صحافيين”.
ويشير إلى أن كل الأماكن خطيرة، ومهما حاول الصحفي الحفاظ على نفسه واتباع معايير السلامة المهنية، فجميعها اختلف في الحرب بفعل اختراق الاحتلال كل الخطوط الحمراء.
وعن أبرز المشاهد العالقة في ذاكرته، يؤكد بدر أنها كثيرة ولعل أبرزها وقت المطر كان رجل يحمل كفنًا لصغير ويسير وسط بركة من المياه محاولًا دفنه رغم القصف الشديد حوله، ومشهد آخر لرجال الإسعاف وهم يكفنون سيدة على عجالة رغم أنها على قيد الحياة، لكن إصابتها شديدة ولا أمل في نجاتها، فالطواقم الطبية تتجهز للخروج من المستشفى.
ويصف أن التغطية في الشمال مرهقة على جميع الأصعدة، فهو كحال المواطنين هناك يشعر بالجوع، لكنه يقوي نفسه بالعمل لنقل الصورة، وكل يوم يهيء نفسه للوقوف أمام الكاميرا، معلنًا انتهاء الحرب كي يلتقي بزوجته وأطفاله.
وقريبًا منه يراقب مراسل الجزيرة أنس الشريف – 27 عامًا – وصول عدد من الشهداء إلى مستشفى كمال عدوان، يخرج على الهواء مباشرة ليغطي الحدث، ثم يساعد زميلًا له في محطة أخرى ببعض ما يمتلكه من معدات بسيطة.
يحكي الشريف لـ”نون بوست” أنه فضل البقاء في شمال غزة لنقل الصورة، خاصة أن المنطقة كانت من بدايات الحرب تتعرض لقصف شديدة ولا يوجد من يغطي الأحداث، فأصبحت الصورة مهمة في نقلها للعالم خاصة عبر قناة الجزيرة التي يتابعها الملايين من حول العالم.
ويذكر أن بيته تعرض للقصف مرتين واستشهد والده، وكان بعد القصف بدقائق قليلة يخرج على الهواء لينقل الأخبار وما يجري من مجازر، مشيرًا إلى أن عدد الصحفيين في الشمال قليل مقارنة بحجم التغطية، وغياب أي صحفي موجود حاليًا يترك فجوة كبيرة.
ولفت الشريف إلى أن إعداد التقرير وإرساله يحتاج ساعات طويلة بسبب ضعف الإنترنت، عدا عن ظروف العمل القاسية وسط المجاعة التي يعيشها الشمال، فالصحفي هو أيضًا مواطن ولديه عائلة ويسعى للبحث عن طعام يسد جوعهم.
وفي ذات الوقت تحدث كبقية زملائه عن تعامل المواطنين معه، فهو يلمس تعاملًا إيجابيًا منهم ويشعر بتقديرهم لعمله الصحفي، خاصة وقت تغطية المجازر الكبيرة، وفي ذات الوقت هناك أشخاص ولا يمكن لومهم يرفضون الاقتراب من ذوي الصحفيين أيضًا.
تغطية حرب الشوارع ومعاناة الجوع
“لأول مرة أغطي حرب الشوارع” هذا ما عبر عنه عبد الله شهوان – 24 عامًا – مصور “الجزيرة مباشر” من شمال القطاع، في إشارة منه وقت اجتياح مخيم جباليا أنه كان يصور مشهدًا وصفه بالمهيب، حيث كانت المواجهة على الأرض بين المقاومة وجنود الاحتلال، وأهالي المقاومين يبعدون عنهم أمتارًا يشجعون أبناءهم.
يقول لـ”نون بوست” وهو بالأساس يعمل في مجال التصميم والمونتاج إنه اضطر لتصوير الأحداث من شمال غزة، بعدما نزح غالبية الصحفيين، رفض النزوح وبقي يتنقل رفقة المراسل مشيًا على الأقدام من منطقة لأخرى في الشمال لتوثيق الأحداث.
ويذكر أنه في إحدى المرات اضطر لإرسال مواد مصورة عند صديق يمتلك الإنترنت، وحين هم بالمغادرة وجد الدبابات أمام المبنى وحوصر يومين، وقتها كان يخشى الاعتقال كحال بقية الشباب، خاصة أنه يعمل في المجال الصحفي.
كما يقول إنه قضى أيامًا طويلة في الشارع رفقة عدد من زملائه الصحفيين بالقرب من مستشفى الشفاء ينتظرون خروج دبابات الاحتلال، لتغطية الحدث، مضيفًا: وصلنا هناك وأصيب عدد منا بالدوار من شدة الروائح الكريهة”.
ويتابع: “نحن مواطنون قبل أن نكون صحفيين نعاني كحال أهل الشمال، أتعبنا الهزال من قلة الأكل، نعمل ونبحث عن الطعام في الأسواق لنطعم عوائلنا”.
ويشير إلى أن حياة الصحفيين في شمال القطاع معرضة للخطر بشكل مستمر، فعدة مرات تلحق بهم طائرة كواد كابتر في محاول لقنصهم، لكنهم يهربون، فالدرع الذي يرتدونه مصنوع من الإسفنج لا يقيهم من الرصاص، موضحًا أنهم لا يخاطرون بحياتهم لكنهم يحاولون نقل صورة الشمال حيث المجازر والمجاعة.
وفي ذات الوقت يذكر المصور شهوان أنهم يعتبرون عملهم رغم خطورته واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، فجرائم الاحتلال يجب أن يشاهدها العالم.
أما عن أدواته الصحافية، أشار إلى أنه يعاني كثيرًا، حيث يضطر في كثير من الأوقات إلى انتظار زميل لينهي عمله ثم يستلف منه ليكمل هو.
ويتمنى أن تنتهي الحرب ويعود لعائلته، فهو لم يزرهم منذ فترة طويلة رغم أنهم يتواجدون في الشمال، فوجوده هناك “غير مفضل” كونه صحفيًا، فالجيران وأقاربه يرفضون عمله وقت الحرب.
يؤكد على كلامه، زميله عمر القطاع – 34 عامًا – أب لطفلين وهو يعمل مصور فوتوغرافي لعدد من الوكالات الأجنبية، يقول: “لا نستطيع التوقف عن العمل، فلدينا عائلة بحاجة إلى أدنى مقومات الحياة، نغامر ونذهب إلى أماكن خطرة لتوثيق الأحداث”.
ويشير القطاع إلى أن استهداف زملائه لا يثنيه عن مواصلة عمله لاعتبارات مهنية، وكذلك لديه عائلة وأطفال يريد إطعامهم عبر مواصلته العمل، ويوضح أنه في أثناء عمله يلتقط الصورة، ثم يبحث بين البسطات عن علبة حليب لصغيره الذي أكمل السنة خلال الحرب، مبينًا أن المجاعة أثرت بشكل كبير على حياته ودفعته للعمل بشكل متواصل للحصول على المال.
وتطرق القطاع لمعاناة الصحفيين في الحرب عند حصولهم على أجورهم، أنهم ضحية الفوضى في الشمال، فحين يصل راتبه إلى مكتب صرافة يأخذ صاحب المكتب 30% من قيمة الراتب، ويضطر هو للقبول بذلك للحصول على سيولة تجعله يجلب لصغاره ما هو متوافر لسد رمقهم.
ويذكر لـ”نون بوست” أنه ولأول مرة يعمل بأدنى الإمكانيات ويخاطر للحصول على صورة، عدا عن انعدام المواصلات، حيث يقطع مسافات طويلة ترهقه بسبب حمله للكاميرا وبعض المعدات.
وينتظر القطاع لحظة انتهاء الحرب وعودة النازحين، فهو يتجهز لشكل الصورة التي سيلتقطها عند استقبالهم، فهو أيضًا يوثق ويصور لهم اليوم بيوتهم وما أصابها من دمار.
لم يخف صحفيو الشمال جوعهم، وتعرضهم للإغماء عدة مرات، لكنهم يشدون من أزر بعضهم لمواصلة العمل، فملامح غالبية الصحفيين من الشمال للجنوب تبدلت، خسروا أوزانهم وباتت وجوههم شاحبة، في حين نأى عدد كبير منهم بنفسه بعيدًا عن عالم الصحافة رغم كفاءتهم المهنية وفضلوا فتح بسطة لبيع المعلبات أو القهوة، فالمهم هو السلامة والنجاة.