قدم رئيس وزراء إثيوبيا هايلي مريم ديسالين، استقالته الخميس 15 من فبراير/شباط الحاليّ، على خلفية الاضطرابات التي تشهدها بلاده منذ عدة أيام، خاصة في إقليمي أورومو وأمهرا وسقط فيها الكثير من الضحايا، وذلك للمطالبة بالإفراج عن المزيد من قيادات المعارضة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لبقية الأطياف العرقية في المجتمع الإثيوبي.
الاستقالة التي تعد الأولى من نوعها في تاريخ إثيوبيا، وصفها بعض المحللين بأنها محاولة لتسهيل إجراء حزمة من الإصلاحات في محاولة لترميم الشروخات التي أحدثتها موجات الفوضى العنيفة التي هددت سيطرة الائتلاف الحاكم (الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية) على ثاني أكبر دولة إفريقية سكانًا.
حالة من الترقب تفرض نفسها على المراقبين للمشهد الإثيوبي، من الداخل والخارج على حد سواء، خاصة فيما يتعلق بالتداعيات الناجمة عن هذا القرار “الاستقالة” على عدد من الملفات، بعضها داخلي لا سيما مسألة إمكانية تأثر النظام الحاكم بهذه الموجة العاتية وتهديدها لبقائه في السلطة، والآخر خارجي، على رأسها ملف سد النهضة.
1000 قتيل خلال عامين من الاضطرابات
شهدت إثيوبيا خلال العامين الأخيرين، عددًا من الاحتجاجات هي الأعنف منذ ما يقرب من ربع قرن تقريبًا، عمت مناطق متفرقة من البلاد، خاصة تلك التي وقعت في المناطق الحدودية بين إقليم الصومال الإثيوبي وإقليم أورومو، وتسببت في سقوط ما يقرب من ألف قتيل ونزوح عشرات الآلاف.
تعددت مظاهر الاحتجاج بين تظاهرات سلمية وأخرى شابها بعض مظاهر التمرد على سياسات النظام الحاكم ضد الجماعات والحركات المعارضة، حيث أغلق الشباب الطرق المؤدية إلى العاصمة أديس أبابا، بالصخور، وأحرقوا إطارات السيارات وعطلوا شبكات النقل العام، كما أُغلقت الشركات في جميع أنحاء منطقة أورومو الشاسعة كجزء من الإضراب.
وأصبحت إثيوبيا دولة فيدرالية تحت حكم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية التي استطاعت السيطرة على الحكم عام 1991 بعد أن طردت النظام العسكري، وأعطت الحكم الذاتي لعدد من الأقليات الموجودة بها، وخلال السنوات الأخيرة تصاعدت وتيرة الخلافات العرقية والقبلية بداخلها، حيث طالبت بعض العرقيات على رأسها شعب الأورومو مثلاً الذي يمثل قرابة 40% من عدد السكان بإعادة نظر في توجهات النظام حياله، خاصة أنه يعد أحد أفقر الطوائف مقارنة ببعض القبائل الأخرى كالتيجراي وغيرها؛ وهو ما دفع إقليمي أروميا والأمهرا لأن يتصدرا المشهد الاحتجاجي داخل إثيوبيا، مما أدى إلى تعطيل الحياة العامة وإصابتها بحالة من الشلل التام أجبر على إثرها رئيس الوزراء الإثيوبي هيلا ميريام ديسالين البالغ من العمر 53 عامًا، إلى تقديم استقالته، سواء من الحكومة أو رئاسة الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية الحاكمة.
هناك من حذر القاهرة من إبداء أي دعم وتأييد لأي مرشح من “التيجرايان” والتزام الحياد حيال التطورات الأخيرة، حتى لا تؤدي خيارات السلطات المصرية إلى إغضاب الشعب الإثيوبي
ديسالين يستقيل
التحديات التي تواجهها أديس أبابا وفي مقدمتها الاضطرابات الأخيرة التي تشهدها البلاد كانت الدافع القوي وراء استقالة ديسالين – الذي انتخب في أغسطس/آب 2012 خلفًا لرئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي، وأعيد انتخابه إثر فوز الائتلاف الحاكم في انتخابات مايو/أيار 2015 – حسبما قال المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية نيقيري لينشو الذي أشار إلى دراسة الحزب الحاكم للأسباب التي أدت إلى تلك الاحتجاجات التي بدأت عام 2015 وأوقعت نحو ألف قتيل، وأن رئيس الوزراء “قدم استقالته لرغبته في أن يكون جزءًا من الحلول للتحديات الراهنة التي تواجهها البلاد”.
لينشو في تصريحات له أضاف أن “إثيوبيا دولة ديمقراطية ومن أسرع الدول نموًا اقتصاديًا” وتابع “لا نريد لأي سبب كان أن يتم إجهاض هذه المكاسب، لذلك قدم رئيس الوزراء استقالته وتحمّل المسؤولية”، لافتًا إلى أن “الائتلاف الحاكم سينتخب رئيسًا جديدًا له، وأن البرلمان سيصادق على رئيس الوزراء الذي يتم انتخابه من اللجنة المركزية للائتلاف”، كاشفًا أن هذه الخطوة تعد رسالة للشعب بأن الائتلاف الحاكم يتجاوب مع مطالب الشعب، ويرغب في توسيع المشاركة الديمقراطية، فيما سيبقى في منصبه حتى يتم نقل السلطة إلى رئيس وزراء جديد حسبما أشارت الإذاعية الحكومية الإثيوبية.
وفي إطار تهدئة الأوضاع الاحتجاجية في الداخل الإثيوبي، أفرجت حكومة أديس أبابا، الأربعاء الماضي، عن 746 معتقلاً سياسيًّا، منهم معارضون بارزون وإسلاميون من قومية الأورومو، بينما طالبت السلطات المحتجين الغاضبين بإقليم أوروميا بالتهدئة بعد سقوط عدد من القتلى جراء العنف.
كما بث التليفزيون الرسمي الإثيوبي مقتطفات من عمليات الإفراج التي شملت الأمين العام لحزب “مؤتمر أورومو الاتحادي”، بيكيلي جيربا، الذي تحدث أمام آلاف من مؤيديه في مدينة “أداما”، وحثهم على مواصلة احتجاجاتهم السلمية حتى يتم إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين.
شهدت إثيوبيا خلال العامين الأخيرين، عددًا من الاحتجاجات، هي الأعنف منذ ما يقرب من ربع قرن تقريبًا، عمت مناطق متفرقة من البلاد
أديس أبابا بين خيارين
“الحزب الحاكم في تلك الدولة الإفريقية يواجه خيارًا صعبًا الآن، تعيين أحد المتشددين لإنهاء أشهر من المعارضة، أو استبداله بشخص ما يسمح بمزيد من الحرية السياسية”، بهذه الكلمات سلطت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية الضوء على الوضع في إثيوبيا بعد استقالة رئيس وزرائها، مؤكدة أن أديس أبابا تواجه نقطة فاصلة في تاريخها.
القرار الذي تتخذه إثيوبيا خلال المرحلة الحاليّة سوف يحدد مصير إحدى أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا، وما إذا كان سيبلغ مرحلة الاستقرار والتوازن أو التدهور الذي قد يصل حال تطور الأحداث إلى حرب أهلية وحمامات من الدماء خاصة في الأقاليم التي تعاني من تمييز مجتمعي وفقر مدقع.
ومن المسائل التي تزيد الوضع تأزمًا وتضع النظام الحاكم في موقف حرج ما يواجهه حزب “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية” من انقسامات داخلية وتشتت بين أطيافه على خلفية المظاهرات العنيفة في أنحاء البلاد منذ 2015، خاصة بعد فشل حالة الطوارئ المفروضة حينها في إنهاء موجات العنف المتتالية.
وتمثل استقالة رئيس الحكومة أهمية رمزية كبيرة للمجتمع الإثيوبي، لكن آثارها على الاقتصاد السياسي تعتمد على من سيحل محله وتحت أي شروط، ولن يكون الانتقال كاملًا من دون إصلاح سياسات صنع القرار الاقتصادي وتحرير المجال السياسي، حسبما نقلت الوكالة الأمريكية عن المحلل الإثيوبي هاليلوجا لولي.
أفرجت حكومة أديس أبابا، الأربعاء الماضي، عن 746 معتقلاً سياسيًّا، منهم معارضون بارزون وإسلاميون من قومية الأورومو، بينما طالبت السلطات المحتجين الغاضبين بإقليم أوروميا بالتهدئة بعد سقوط عدد من القتلى جراء العنف
أما عن المرشحين لخلافة ديسالين، فيتنافس على المنصب كلاً من ليما ميجيرسا ووركنيه جيبيهو، وكلاهما عضو في منظمة أورومو الشعبية الديمقراطية، فإن كانت الاستقالة بهدف إفساح المجال لتعيين أحد رموز “الأورورمو” في منصب رئيس الحكومة فقد تؤدي هذه الخطوة إلى تقليص التوترات، أو على الأقل اختيار شخص مقرب من المنظمة وإن لم يكن منها، قادر على فتح قنوات اتصال معهم مع إعطائهم حصصًا في التشكيل الوزاري الجديد.
وفي المقابل إن كان إبعاد ديسالين عن رئاسة الحكومة بهدف استبداله بأحد متشددي جماعة “تيجرايان” الذي يتوقع أن يعيد العمل بالقوانين العرفية وتشديد حالة الطوارئ، فإن هذا سيؤدي إلى انفجار الأوضاع واحتمالية دخولها في مستنقع الحرب الأهلية.
مصير سد النهضة
تداعيات الاضطرابات التي تواجهها إثيوبيا واستقالة ديسالين الذي كان في زيارة للقاهرة مؤخرًا أعقبها لقاء على هامش القمة الإفريقية التي احتضنتها أديس أبابا قبل أيام، لا شك أنها ستنعكس على ملف سد النهضة ومسار العملية التفاوضية به.
مراقبون يذهبون إلى أن استقالة رئيس الوزراء الإثيوبي ربما تعطي مرونة في عملية التفاوض بملف سد النهضة، حسبما جاء على لسان هاني رسلان، رئيس بحوث السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والذي قال إن هذه الخطوة “سيكون لها انعكاس غير مباشر على ملف مفاوضات سد النهضة؛ لأن هذه الفترة تشهد تركيزًا على الداخل وتثبيت السلطة الجديدة التي تخلف ديسالين، ومن المتوقع أن يؤدي هذا إلى مرونة أكثر في المفاوضات مع مصر، خاصة أن المطالب المصرية ليست كبيرة”.
رسلان وخلال لقائه على فضائية “الغد” ألمح إلى ضرورة دعم القاهرة لمن سيخلف ديسالين الذي من المتوقع أن يكون أحد أفراد حزب التيجرايان، وفقه توقعاته، كونه يملك النفوذ الحقيقي مقارنة برئيس الوزراء المستقبل الذي كان ينتمي للإقليم الجنوبي الذي لا يمتلك نفوذًا قويًا.
وعلى الناحية الأخرى، هناك من حذر القاهرة من إبداء أي دعم وتأييد لأي مرشح من “التيجرايان” والتزام الحياد حيال التطورات الأخيرة، حتى لا تؤدي خيارات السلطات المصرية إلى إغضاب الشعب الإثيوبي المعارض لهذه الجبهة المسيطرة على القرار السيادي في البلاد، وعليه فإن الموقف بصورته الحاليّة ربما يشكل فرصة كبيرة لمصر للتوصل لحل مسألة سد النهضة، بشرط ألا يتدخل النظام المصري لمساندة النظام الساقط في إثيوبيا.
وفي النهاية فإن المفاوضات مع إثيوبيا في ملف السد من الممكن أن تتأثر سلبًا أو إيجابًا، لكن بشكل طفيف، وفقًا للشخص الذي سيخلف رئيس الوزراء المستقيل، خاصة أن الاستقالة لن تؤثر بالصورة الجذرية على النظام الحاكم الذي يتمتع بالمركزية الشديدة وتغليظ قوته الأمنية، وهذا ما ستكشفه الأيام القليلة المقبلة.