يتجاوز عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة حاجز الـ37 ألف شهيد و85 ألف مصاب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي أكثر من 262 يومًا من القتل المباشر، فضلًا عن دمار هائل يقدّر حجمه بـ72% من إجمالي مساحة القطاع، ويحتاج 40 مليار دولار و80 عامًا لإعادة إعماره، بينما تجدد وكالة الأونروا تحذيرها من وصول عدد النازحين في القطاع إلى 1.7 مليون شخص يعانون من أوضاع كارثية وظروف أشبه بالمجاعة.
وإذ تواصل عجلة القتل والتجويع الإسرائيلية دورانها لطحن المزيد من الناس، يتابع ملايين السوريين الأحداث في غزة بقلوب مثقلة، تعرف ألم الفقد الرهيب وتخاذل العالم في نصرتها أمام ماكينة القتل الأسدية. ولا يكاد يمرّ مشهد لدمار غزة إلا ويرى السوريون فيه صورة مماثلة لمدنهم وبيوتهم المدمرة من النظام وحلفائه الروس والإيرانيين. كما يعيد تكرار المجزرة مرارة استحالة النيل من الجلادين في أروقة محاكم كأنها وجدت لتبرير جرائمهم لا محاسبتهم، ويفتح عليهم باب ذاكرة ظنوا أنهم نجوا من حتميتها في طريقهم إلى المهجر.
لكن ذلك كله لم ينقص من إصرار بعض الشباب السوريين على إعلان مناصرة غزة والتضامن مع الفلسطينيين، وإن كان في إطار ضيّق يبدأ وينتهي على بعد آلاف الكيلومترات من أرض فلسطين. من خلال توظيف تجربتهم السورية في الاحتجاج والتظاهر السلمي بكل أشكاله الممكنة، في بلاد يبدو أنها منحازة مسبقًا ضد الشعب المحاصر في غزة.
البداية من حلب والنهاية ليست في أمستردام
أكرم (34 عامًا) شاب سوري لاجئ في هولندا منذ 2016 يعمل مع أصدقائه على تنظيم المسيرات والاحتجاجات الرافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة في مدن هولندية مختلفة، مستفيدًا من سنوات خبرته في حراك مدينة حلب بدايات الثورة السورية، الثورة التي يرى أنها توحّد بجوهرها النضال التحرري في منطقتنا بغض النظر عن القوى السياسية التي فرضت نفسها مؤخرًا كطرف في المعادلة، إذ تحاول تلميع صورتها وكسب مكانة لها في ذاكرة الشعوب التاريخية.
يصف أكرم انخراطه في مناصرة القضية الفلسطينية في أوروبا بأنه صار منتظمًا أكثر منذ بدء أحداث حيّ الشيخ جراح عام 2021، ووصل إلى أوجه مع بدء الحرب في القطاع قبل أشهر. إذ يشارك في تنظيم المظاهرات والمسيرات التضامنية مع غزة حيث يقيم في مدينة أمستردام، ويسافر أيضًا للانضمام للوقفات التي تنظمها منظمات حقوقية أمام محاكم العدل الأوروبية.
يشرح أكرم تجربته بقوله: “منذ أن انخرطت بشكل مكثف في دعم القضية الفلسطينية، واطلعت على طبيعة المقاومة السلمية للاجئين الفلسطينيين في المهجر، خلال السنوات القليلة الماضية، أصبحت أعيد النظر في أهمية توريث مطالب الثورة ومبادئها للأجيال السورية القادمة. كما زادت قناعتي بأن المقاومة لا تقتصر على حمل السلاح فقط، بل تتسع لتشمل كل أشكال النضال الحقوقي والسياسي والفني والأكاديمي اليوم وغدًا، داخل سوريا وخارجها”.
يضيف أنه من خلال لقاءاته المستمرة مع الناشطين الحقوقيين الهولنديين والأوروبيين بات يفهم أكثر سبب الاختلاف الحاصل في اهتمام السياسيين الهولنديين تجاه القضية الفلسطينية والمسألة السورية، إذ يعزى سببه إلى أن “الحكومة الهولندية ترى أن الحل في سوريا سيكون بقرار أمريكي، يبدأ بتنحية الأسد عن الحكم ويفتح الباب أمام تغيير حقيقي في أوضاع اللاجئين السوريين. ولا تملك دول أوروبية عدة من بينها هولندا، القدرة على إنهائه. أما بالنسبة للمسألة الفلسطينية فهي تتأثر بشكل دائم ومباشر بقرارات السياسيين الهولنديين. ولهذا تتفاوت نسب المطلعين على القضيتين وبالتالي مدى مشاركتهم في حملات الدعم والتضامن”.
خيمة في مانشستر وأخرى جنوب غزة
من خيمة الإسعافات الأولية في حرم جامعة مانشستر شمال إنجلترا، شاركت زين (22 عامًا) طالبة في كلية الطب من معرة النعمان في إدلب، في اعتصام مفتوح مع زملائها للتعبير عن تضامنهم مع طلاب جامعات غزة، الذين حرموا من استكمال تعليمهم منذ بدء العدوان على القطاع. وتقول إن نشاطها أصبح أكثر تنظيمًا منذ ارتكاب الاحتلال لمجزرة مستشفى المعمداني في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين انتفض الكثير من الطلاب حول العالم للتنديد بالمجزرة.
عرض هذا المنشور على Instagram
تصف عملها التضامني مع القضية الفلسطينية بأنه “متغيّر بشكل دائم حسب الحاجة لوجود أشخاص عرب قادرين على نقل الأحداث المتسارعة في غزة للمشاركين الآخرين. لكنني أتواجد دائمًا في خيمة الإسعافات الأولية ضمن اعتصام الجامعة، وأشارك كمتحدثة وشاعرة من خلال نصوص وقصائد أكتبها في وصف الأحداث في غزة”.
تعد هذه تجربة زين الأولى في التفاعل مع قضايا أخرى غير قضيتها السورية، الذي كان محدودًا بسبب صغر سنها وإقامتها في إنجلترا منذ ولادتها. لكن ذلك لم يكن أبدًا موضع مقارنة بالنسبة لها، فتقول إن الظلم الواقع على الشعب السوري يدفعها إلى رفع سقف التضامن إلى أعلى مستوياته مع أيّ قضية محقة. فضلًا عن أنها ترى في فلسطين قضية إنسانية صرفة لا تحتمل المقارنة، وتستوجب النصرة أمام تعاون الدول الغربية على إبادة سكان غزة.
وترى أنه لن يكون من السهل التأثير على قرارات السياسيين في بريطانيا بما يخص القضية الفلسطينية، بالأخص حين يتعلق الأمر بقطع التمويل والمنح المالية التي تقدمها “إسرائيل” للجامعات والمؤسسات التعليمية. مشيرةً إلى أن تحقيق تغييرات كهذه “يتطلب منا جهودًا مضاعفة ومنظمة، من الفلسطينيين وكل من يدعم تحرر الشعب الفلسطيني، حتى بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة. لأن التغيير الحقيقي يمكن أن يحدث فقط حين يدرك من في السلطة أن ثمن التغاضي عن جرائم إسرائيل بات أكبر مما تقدمه من خدمات”.
التضامن ثقافة ثورية ملحة
ينطلق عبد الله (33 عامًا) في وصف تضامنه مع القضية الفلسطينية، من لحظة استدعائه للتحقيق في أحد أفرع الأمن السوري عام 2006 في مدينة سلمية، بعد تنظيمه مع رفاقه في المدرسة مسيرة شموع تندد بقطع الغاز عن المشافي في قطاع غزة من جانب الاحتلال الإسرائيلي. ويذكر تلك التجربة على أنها كانت المرة الأولى التي “أنتبه فيها لأهمية الانتصار لآلام الآخرين في تكويني الشخصي، ومدى تأثيرها على قناعاتي بضرورة تحقق التحرر الجماعي كجزء من تحرر الشعب السوري” حسبما يقول.
عرض هذا المنشور على Instagram
يشارك عبد الله اليوم من منفاه في مدينة مالمو السويدية في تنظيم المظاهرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كما يساهم بشكل مستمر في تنظيم الفعاليات الثقافية وعرض أفلام تستحضر النكبة الفلسطينية، بالإضافة لإدارة جلسات مناقشة أدب المهجر الفلسطيني. إلى جانب انخراطه في التجمعات التي تسعى للتأثير على رأي صناع القرار السويدي بشكل خاص، من خلال التظاهر عند المباني الحكومية ومنازل السياسيين.
يرى عبد الله أنه “ابن تجربته السورية بالضرورة” وأن ثوريته تتقاطع مع كل قضايا الثائرين في كل أنحاء العالم، ويعبر عن ذلك بقوله: “التضامن مع القضية الفلسطينية بالنسبة لي أمر لا يحتاج لأفكر به كثيرًا. وقد رأيت مدى قوة التضامن والمناصرة التي أقوم بها أنا وكثيرون حول العالم، من خلال مشاهدة القضية الفلسطينية تنقل من ملف المشكلات العالمية الخامدة، إلى ملف القضايا الأخلاقية التي تحتاج حلًا جذريًا، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا عملنا الجماعي بكل أطيافه”.
تخبرنا تجربتنا السورية والإبادة المستمرة في غزة أن للاستبداد والاحتلال أصلًا سياسيًا واحدًا، وهو ما يجعل من تضامننا – كسوريين – مع نضال الشعب الفلسطيني ضرورة ملحة في طريق الخلاص الجماعي. وأنه لا يمكن للعدالة والحرية أن تتحققا في مكان واحد دون الآخر، بالأخص حين تكون المجزرة لا تبعد عن مثيلتها سوى كيلومترات قليلة. وإن كنا لا نريد أن يستمر التطبيع مع المجازر بوصفها أساس لواقع سياسي يفرضه المنتصر بقوة المدفع، كما حصل في سوريا ومصر وليبيا واليمن، فإنه يترتب علينا جميعًا كسوريين وعرب منع استمرار الإبادة في غزة.