تمكننا دراسة ظاهرة “مفارقة السلطة” من تفسير الكثير من الأحداث السياسية التي قد حدثت وما زالت تحدث في منطقتنا، حيث يقدم داتشر كيلتنر في كتابه مفارقة السلطة “The power parado” طرحًا جديدًا لمفهوم القوة يقوم من خلاله بإعادة تعريف كل المفاهيم التي تفسر السلطة والقدرة على التأثير.
بدايةً لا بد لنا من فهم النظرة التقليدية للسلطة كما يُعرفها الواقعيون من أمثال نيكولو ميكافيلي الذي يقول في كتابه “الأمير” أنه من الأكثر أمانًا أن يكون ممارس السلطة مُهابًا من أن يكون محبوبًا، وعلى الرغم من انقضاء ما يقارب خمسة قرون على وفاة ميكافيلي إلا أن تأثيره لا يزال يطغى على الكثيرين من منظري المدرسة السياسية الواقعية كما رجال السياسة على حد سواء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يظهر تأثير ميكافيللي في مؤلفات روبرت غرين وأهمها القوانين الثمانية والأربعين للسلطة، فيمكن أن نلاحظ أن معظم تلك القوانين تنتهج الفلسفة الميكافيلية: القانون الثالث (اخف نواياك)، القانون الثاني عشر (استخدم الصدق الانتقائي والكرم لتنزع أسلحة ضحاياك)، القانون الخامس عشر (دمر عدوك بشكل تام)، القانون الثامن عشر (ابق الآخرين تحت تأثير الإرهاب المعلق).
إن هذا التطور التاريخي لمفهوم السلطة في المدرسة الواقعية يجعل معظمنا يقبل بأن الحالة السلطوية تتطلب مثل تلك الإجراءات التي تشرعن استخدام القوة المفرطة والتلاعب والخداع في سبيل تحقيق الاستقرار السياسي والاحتفاظ بالسلطة.
وعلى النقيض يرى كيلتنر أن استبدال تلك الممارسات البراغماتية واللاأخلاقية بأخرى تعتمد على الذكاء الاجتماعي يحمل نتائج مذهلة فيما يتعلق بالاحتفاظ بالسلطة وممارستها.
مفارقة السلطة ليست حكرًا على الدول غير الديمقراطية، بل على العكس يمكن أن تحدث تلك المفارقة في أكثر المجتمعات ديمقراطيةً
كما ويركز كيلتنر على فكرة أن الأشخاص يتغيرون بمجرد وصولهم إلى السلطة ليصبحوا أكثر أنانية وعدوانية، ليفقدوا في النهاية القدرة على رؤية العالم من وجهة نظر الآخرين، وهذا ما يقودنا إلى ما يسمى مفارقة السلطة، فالكفاءت التي تقود الأشخاص للوصول إلى مواقع قيادية ومراكز سلطوية هي أول الكفاءات التي يفقدها هؤلاء الأشخاص بمجرد وصولهم لتلك المراكز.
إن هذه المفارقة تحديدًا هي التي تخلق قادة ديكتاتوريين وأنظمة شمولية، حيث إن التسامح مع الطرق الميكافيلية في ممارسة السلطة يحمل تأثيرًا تراكميًا يمكنه تحويل الشخص الموجود في مركز السلطة إلى عملاق لا يمكن السيطرة عليه، لذلك فإن تعزيز نمط جديد من السلطة هو المخرج الأكثر أمانًا من تلك المعضلة، فطرق الوصول للسلطة اعتمادًا على الذكاء الاجتماعي والمشاركة والحوكمة يمكن أن تنتج منظومةً تبقي المجتمعات والقيادات بمأمن من تأثير مفارقة السلطة.
ومع أن عنوان هذا المقال يشير بشكل صريح إلى منطقة الشرق الأوسط، ولكن يجدر الإشارة إلى أن مفارقة السلطة ليست حكرًا على الدول غير الديمقراطية، بل على العكس يمكن أن تحدث تلك المفارقة في أكثر المجتمعات ديمقراطية، كما أنها يمكن أن تحكم العلاقات بين الدول، خاصةً في ظل نظام دولي أحادي القطب أو قليل الأقطاب.
لدراسة مفارقة السلطة وكيفية الحد من آثارها لا بد لنا من الاطلاع على المحاولات التي قام بها كيلتنر لدحض ما أطلق عليه اسم “أساطير السلطة” وكيفية الخروج منها.
الأسطورة الأولى: السلطة تساوي المال والأصوات والعضلات
كما سبق وذكرنا فإن تطور مفهوم القوة جعل معظمنا ينظر لمفهومي السلطة والقوة من خلال مكافآتها المادية كالقدرة المالية، والقدرة على حشد الأصوات الانتخابية (في الأنظمة الأكثر ديمقراطية)، والقدرات العسكرية (في الأنظمة الأكثر شمولية أو بين الدول).
في واقع الأمر إن تلك النظرة قد تحول دون إبصارنا للوجه الآخر للسلطة، حيث تعرف أبحاث علم النفس الحديثة السلطة على أنها المقدرة على التأثير بالآخرين من خلال تغيير حالتهم الذهنية وظروفهم المعيشية أو كليهما معًا ولا يمكن اعتبار محاولات السيطرة والتحكم وفقًا لهذا التعريف كوجه من أوجه القوة.
عملية المشاركة لإحداث التوازن لا تقتصر على العلاقة بين الجنسين بل يمكن أن يتم تعميمها لتشمل أنظمة الحكم، حيث يشارك صناع القرار جزءًا من سلطتهم بغرض النجاة من تأثيرات مفارقة السلطة
يضرب كيلتنر مثالًا السلطة التي تمكن الأطفال من التأثير في قرارات ذويهم، دونما السعي للحصول على السيطرة أو التحكم، أو قدرة رجال الدين على ممارسة السلطة ضمن أماكن العبادة، وهذا ما يطرح تعريفًا معنويًا جديدًا للسلطة بمعزل عن المكافآت المادية.
كما يتطرق إلى موضوع المساواة بين المرأة والرجل، حيث إنه يعتبر أن إحداث المساواة يمكن أن يتم فهمه كعملية مشاركة طوعية بغرض إحداث توازن في السلطة وليس كما يفهمه المعترضون تخلي الرجل عن سلطته للمرأة.
في الواقع إن عملية المشاركة لإحداث التوازن لا تقتصر على العلاقة بين الجنسين بل يمكن أن يتم تعميمها لتشمل أنظمة الحكم، حيث يشارك صناع القرار جزءًا من سلطتهم بغرض النجاة من تأثيرات مفارقة السلطة.
وفي نفس السياق يمكن أن يتم تعميم المفهوم أبعد من ذلك ليشمل العلاقات بين الدول، فقيام الدول العظمى بمشاركة جزء من سلطتها مع نظيراتها الإقليمية ومع الدول الأصغر يمكن أن يحدث سلامًا أكثر ديمومة بين الدول، ولا يمكن فهم هذا المفهوم بكل حال من الأحوال إلا بعد التخلي عن النظرة الضيقة التي تراعي اعتبارات المصلحة القومية فقط مقابل تبني منهج أكثر أممية وأكثر مراعاة للمصلحة العالمية.
الأسطورة الثانية: الميكافيليون يربحون دائمًا في لعبة السلطة
يظهر كل من التاريخ والعلوم الاجتماعية أن معظم الذين ينتهجون النهج الواقعي (الميكافللي) في الوصول إلى السلطة غالبًا ما ينتهون إلى فقدانها بعكس الذين ينتهجون منهجًا يعتمد على الذكاء الاجتماعي، هذا ما ظهر جليًا مؤخرًا في التعاطي مع أحداث ما سُمي بالربيع العربي، فالحكومات التي أظهرت مستوى أعلى من التفهم للأمور تمكنت من احتواء الأزمة ولو بشكل جزئي.
انتهاج المنهج الميكافيللي يمكن أن يؤدي إلى الحصول على السلطة قسرًا بانتهاج المناهج العنفية ولكن تلك السلطة تبقى لحظية وظرفية
وهنا يشير كيلتنر إلى نقطة مهمة، حيث تبين التجارب في المجموعات الصغيرة أيضًا أن الأفراد القادرين على التفاوض والتخفيف من حدة التوترات الاجتماعية والتوفيق بين الأطراف المتنازعة يتمكنون من الحفاظ عل السلطة أكثر من أولئك الذين يعتمدون على الداروينية الاجتماعية (نظرة البقاء للأقوى)، فأفراد المجموعة يرون في سعي الأشخاص الميكافيليين لتحقيق مصالحهم الشخصية تهديدًا لمصالح المجموعة ككل، وبالتالي يقومون بوسمهم بصفة الخطر الذي يحتاج إلى الإزالة.
الأسطورة الثالثة: السلطة شيء يتم الاستحواذ عليه إستراتيجيًا ولا يمكن الحصول عليها طوعًا
نظرة الأشخاص الميكافيليين التي تدعي أن المهارات الإستراتيجية الشخصية كافية للاستحواذ على السلطة هي نظرة ضيقة الأفق، لأنها تهمل قدرة أفراد المجموعة على التحالف ضد السلطة بغرض إزاحتها، فالسلطة ليست ممتلك شخصي يحصل عليه الممارس، بل إنها تمثل حالة اجتماعية يختار أفراد المجموعة بموجبها تفويض فرد أو أكثر للقيادة، كما ويختلف حجم وديمومة السلطة بحسب رغبة هؤلاء الأفراد.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن انتهاج المنهج الميكافيللي يمكن أن يؤدي إلى الحصول على السلطة قسرًا بانتهاج المناهج العنفية ولكن تلك السلطة تبقى لحظية وظرفية وترتهن إلى ثبات التوازنات وهو الأمر الذي لا يمكن أن يدوم طويلًا، بعكس منهج الذكاء الاجتماعي الذي يُمكن صاحبه من الحصول على قاعدة جماهيرية واسعة يمكنها دعمه في حالة تغير الظروف أو تدهور توازنات القوى.
ما السبيل للخروج من تأثيرات مفارقة السلطة؟
إن إحدى النقاط التي يشترك فيها كيلتنر مع الميكافيليين، هي وجود تأثير سلبي للسلطة على ممارسها، فالطبيعة السيكولوجية للبشر إضافة لتطور تراكمهم المعرفي والثقافي أدى لنشوء ذلك الأثر، ولا يمكننا أن ننكر أن طبيعة السلطة تجعل الأشخاص ميالين لاستخدامها بشكل سيء، وتبقى تجربة سجن ستانفورد هي أكبر دليل على ذلك.
حيث قام عالم النفس فيليب زيمباردو الأستاذ في جامعة ستانفورد بخلق بيئة تحاكي السجن وقسم الطلاب بشكل عشوائي لقسمين “المساجين والسجانين”، ومن ثم اضطر لإيقافها قبل المدة المحددة نظرًا لخروجها عن السيطرة بسبب سوء استخدام السلطة من السجانين الذين نسوا بشكل كللي أنهم كانوا طلابًا وبادروا بإيذاء المجموعة الأخرى جسديًا ونفسيًا.
على الصعيد الدولي تمكننا نظرية مفارقة السلطة من فهم دوافع المدارس النقدية في العلاقات الدولية، خاصة تلك التي تدعو إلى إحداث تكافؤ ومشاركة بين الدول
إذًا يجب علينا أن نسلم بأن السلطة تغوي ممارسها ولذلك فإن السبيل إلى تجنب تأثير مفارقة السلطة يكمن في خلق مشاركة حقيقية للسلطة من خلال اعتماد اللامركزية وإنشاء آلية صنع قرار تسمح بتعارض إيجابي بين السلطات المختلفة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بحيث يتم تطبيق مبدأ الفصل العضوي بين السلطات مع تمكين آليات الرقابة الحوكمية التي تسهل فض الاشتباك بين أقطاب السلطة.
إن دراسة نظرية مفارقة السلطة تمكننا أيضًا من فهم الخلافات التي شهدناها ولم نزل نشهدها (الصراع الديني العلماني) و(الصراع العسكري المدني) و(صراع أفراد الأسر الحاكمة) التي كما ذكر سابقًا تبقى نتائجها رهنًا للظروف والتوازنات القوى ويبقى المنتصرون فيها عرضةً للإزاحة في أي وقت من الأوقات.
وعلى الصعيد الدولي تمكننا نظرية مفارقة السلطة من فهم دوافع المدارس النقدية في العلاقات الدولية، خاصة تلك التي تدعو إلى إحداث تكافؤ ومشاركة بين الدول وإيجاد أجندة تركز على تحقيق الأهداف العالمية على حساب تحقيق المصالح القومية للدول الأقوى لأجل تحقيق السلام المستدام والتخلص من حالة تضارب المصالح التي تؤدي لنشوء الحروب والتطرف وغيرها من الظواهر العنيفة.