يبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بات يدرك جيدًا حجم وقوة تأثير المتغيرات التي تُحيط بالسلطة وحركة “فتح” التي يترأسهما، محليًا وعربيًا ودوليًا، ويعتقد أن “نضجه السياسي” قد يؤهله هذه المرة لتجاوز تلك العقبات والتغلب على الخطر الذي يحيط بكرسيه من كل جانب.
اللقاءات والمؤتمرات الصحفية التي يخطب فيها الرئيس عباس، وطريقة تهديده وعرضه للمخاطر والتهديدات التي تحيط بالقضية الفلسطينية، وهدوئه المتزن في سردها وحرصه على نطق كلمات خطاباته بلغة متقنة ومُشكلة لغويًا، يؤكد وجود احتمالين لا ثالث لهما: إما أن “أبو مازن” فقد الأمل تمامًا من العملية السياسية وبات ينتظر ساعة الصفر للنزول عن كرسي الرئاسة، أو أنه يملك “خطة ولعبة” جديدة يمكن أن تعيد مجده وبريقه بعد أن خفت في ظل الأزمات الداخلية والخارجية التي تحيط به وتفاقمت في عهده.
الخيار الأول (رحيل عباس) رفضه العديد من المحللين والمراقبين واستبعدوه بشكل كامل كون شخصية عباس ترفض الاستسلام والتنازل بسهولة ودون مقابل، فيما اعتبر الخيار الثاني وامتلاكه اللعبة السياسية هو الأرجح، وأن الأيام المقبلة قد تشهد كشف تلك اللعبة وتفاصيلها.
تفاصيل اللعبة
الملفات السياسية الشائكة التي بين يدي الرئيس محمود عباس، لا تزال تراوح مكانها دون أي حراك إيجابي فيها، فعلاقته مع حركة حماس لا تزال متوترة والمصالحة الفلسطينية الداخلية تعيش حالة ثبات مستمر منذ توقيع اتفاق القاهرة في الـ12 من شهر أكتوبر من العام الماضي، وكذلك العقوبات التي فرضها على غزة لا تزال قائمة رغم قرب انفجار القطاع بسبب الحصار والأزمات الاقتصادية التي يعيش فيها.
رغم التصعيد الإسرائيلي القائم بالضفة والقدس وهجماته العسكرية على غزة وسقوط الشهداء من الفلسطينيين، فإن الرئيس عباس لم يغلق كل الأبواب في وجه المحتل، وأبقى باب “التنسيق الأمني” مع “إسرائيل” مواربًا
وهنا تحدثت مصادر خاصة في السلطة لـ”نون بوست”، أن الرئيس عباس لن يرفع العقوبات عن غزة، وسيستخدم هذه الملف للضغط أكثر على حركة حماس، لتسليم قطاع غزة بالكامل للحكومة والسيطرة على سلاح المقاومة بما فيهم سلاح كتائب القسام، وهو الأمر الذي ترفضه الحركة وتعتبره خطًا أحمر.
وكشفت المصادر أن “العقوبات وحصار غزة”، ستكون لعبة الرئيس عباس والورقة التي بيده في التعامل مع حركة حماس في المرحلة المقبلة، خاصة أن الوسيط المصري بملف المصالحة تربطه علاقات متوترة نوعًا ما مع السلطة الفلسطينية ورئيسها على خلفية قضايا كثيرة أبرزها النائب محمد دحلان ورفض وساطة القاهرة لمصالحته.
ويوجد في القاهرة الآن، وفدان رفيعا المستوى من حركتي فتح وحماس في العاصمة المصرية، ويجريان لقاءات منفصلة مع جهاز المخابرات المصري الذي يبحث في كل الطرق والزوايا عن حلول تحفظ وجه مصر من فشل جديد لملف المصالحة الذي تراعه لأكثر من 10 سنوات.
وعلى صعيد العلاقة بين السلطة و”إسرائيل”، فحتى هذه اللحظة ورغم التصعيد الإسرائيلي القائم بالضفة والقدس وهجماته العسكرية على غزة وسقوط الشهداء من الفلسطينيين، ووضع الاحتلال القوانين العنصرية للسيطرة على باقي فلسطين المحتلة، فإن الرئيس عباس لم يغلق كل الأبواب في وجه المحتل، وأبقى باب “التنسيق الأمني” مع “إسرائيل” مواربًا حتى يتمكن من الدخول إلى طاولة المفاوضات من جديد.
ويعتقد الرئيس عباس أن الأمل الأول والأخير بتحقيق سلام عادل مع “الجيران الإسرائيليين” كما يحلو له وصف ذلك، يمر عبر طاولة المفاوضات التي فشلت هي الأخرى طوال السنوات الـ23 الماضية في تحقيق أي تقدم للفلسطينيين، بل أعطت ضوءًا أخضر للمحتل لارتكاب المجازر وتهويد المقدسات وتشريد الفلسطينيين وسرقة حقوقهم، بحسب مراقبين.
وتوقفت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية نهاية أبريل 2014، دون تحقيق أي نتائج تذكر، بعد 9 أشهر من المباحثات برعاية أمريكية وأوروبية؛ بسبب رفض “إسرائيل” وقف الاستيطان وقبول حدود 1967 أساسًا للمفاوضات والإفراج عن معتقلين فلسطينيين قدماء في سجونها.
حذرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من مغبة استمرار القيادة الفلسطينية المتنفذة في أساليب التضليل الشعب الفلسطيني ومحاولاتها المستميتة العودة من الأبواب الخلفية للمفاوضات واللقاءات العبثية مع الاحتلال
الباب المفتوح
وتشير المصادر، أن الرئيس عباس أبلغ دولًا عربية من بينها الأردن والسعودية، بأنه جاهز للعودة لمربع المفاوضات من جديد مع “إسرائيل”، ولكن ضمن ضمانة عربية ووساطة أوروبية بجانب وساطة واشنطن.
وكشفت مصادر لـ”نون بوست”، أن عباس أعطى الضوء الأخضر لعضوي اللجنة المركزية لحركة فتح، صائب عريقات واللواء ماجد فرج، لإجراء لقاءات “سرية” وأولية مع الجانب الإسرائيلي، في عواصم أوروبية وعربية، لوضع الخطوط العريضة لأي جولة تفاوض مقبلة، إرضاءً لرغبة واشنطن وعدم المواجهة معها.
والجدير ذكره أنه في الـ6 ديسمبر الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسميًا الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لـ”إسرائيل”، والبدء بنقل سفارة بلاده إلى المدينة المقدسة، مما أثار موجة احتجاجات وغضب اجتاحت العالم.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قد أعلن الشهر الماضي أن السلطة لن تقبل أي خطة سلام أمريكية مقترحة، ووصف واشنطن بأنها لم تعد وسيطًا أمينًا في عملية السلام بين “إسرائيل” والفلسطينيين.
وهنا حذرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من “مغبة استمرار القيادة الفلسطينية المتنفذة في أساليب التضليل لشعبنا ومحاولاتها المستميتة العودة من الأبواب الخلفية للمفاوضات واللقاءات العبثية مع الاحتلال رغم قرارها فك الارتباط معه، واعترافها بفشل نهج التسوية”.
واعتبرت الجبهة أن “استمرار هذه القيادة بتجاوز القرارات الوطنية وعدم وضعها موضع التنفيذ هو إمعان في سياسة التهرب من الاستحقاقات المطلوبة لمواجهة خطورة المرحلة الحاليّة والمحاولات المستميتة لتمرير مشاريع مشبوهة”.
نائب الوزير الإسرائيلي للشؤون الدبلوماسية مايكل أورن: عباس سيفعل كل شيء من أجل القضاء على قادة حماس، والنتيجة المثالية التي يطمح إليها هي قيام “إسرائيل” بهذه المهمة نيابة عنه
وأوضحت الجبهة بأن الاستمرار بهذه السياسة المدمرة سيؤدي إلى استفراد الاحتلال بشعبنا، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خصوصًا في قطاع غزة المحاصر، الذي ينتظر من هذه القيادة الإعلان الواضح والصريح عن وقف كامل للإجراءات العقابية المفروضة عليه، وتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية الملقاة على عاتقها لمواجهة الأزمات الخطيرة التي تواجه القطاع.
الخاسر والرابح
وعلى الجانب الآخر، قال نائب الوزير الإسرائيلي للشؤون الدبلوماسية مايكل أورن إن “عباس مستعد للقتال ضد حركة حماس حتى آخر جندي إسرائيلي، ثم يتهم “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب ليبدو بطلاً بنظر الفلسطينيين”.
ويرى أورن في مقال له بصحيفة “يسرائيل هيوم” أنه مع كل الكراهية التي يكنها عباس لـ”إسرائيل” وقادتها، فإنه يتخوف بشكل أكبر من حركة حماس، لأنه في حين تعارض “إسرائيل” سياسته، فإن حركة حماس تهدد حياته.
ويعتقد الوزير الإسرائيلي أن عباس “سيفعل كل شيء من أجل القضاء على قادة حركة حماس، والنتيجة المثالية التي يطمح إليها هي قيام “إسرائيل” بهذه المهمة نيابة عنه، في حين سيتم اتهامها بارتكاب جرائم حرب”.
ويضيف: “على غرار مراقب الدولة وجنرالات الجيش الإسرائيلي، يفهم أبو مازن، أن الوضع الإنساني في غزة آخذ في التدهور، وتهدف هذه التدابير اللاإنسانية إلى زيادة المعاناة، إذا قامت حركة حماس بفتح النار مرة أخرى، فإنه لن يتبقى أمام “إسرائيل” أي خيار سوى الدفاع عن نفسها”.
ويشير أورن: “ستكون هذه الحرب مختلفة تمامًا عن المعارك السابقة التي انتهت من دون حسم، لأن الجمهور الإسرائيلي غير مستعد للتسامح مع جولة أخرى”، ويلفت الانتباه إلى أنه سيتم اتهام “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب، ومن سيقوم بالاتهام سيكون أبو مازن نفسه.
أعاد أرون التذكير بما حدث خلال حرب 2008: “أبو مازن يدفع “إسرائيل” إلى الحرب، ومن ثم يستدعي تقرير غولدستون، ولكن هذه المرة يمكن أن يتحول السيناريو إلى فيلم رعب يجب علينا أن نمنع عرضه
ويفسر أرون موقف عباس هذا بأنه “سيكسب مرتين: أولاً من خلال توجيه الضربة القاضية لحركة حماس، وثانيًا باعتباره بطلاً يدافع عن الفلسطينيين ضد الصهاينة”، ويبين أن “رؤية أبو مازن هي العودة إلى السيطرة الحصرية على الضفة الغربية وقطاع غزة على حافة الحرب الإسرائيلية الملطخة بالدم الفلسطيني”.
وتساءل عن كيفية منع مثل هذا السيناريو؟ مجيبًا: “الأجوبة ليست بسيطة، لكن الخيار الأكثر منطقية هو توسيع نقل البضائع الحيوية إلى غزة، خاصة الغذاء والدواء، وطرح فتح معبر إضافي للبضائع في شمال قطاع غزة وربطه بالقطار إلى ميناء أسدود، مع زيادة إمدادات الكهرباء”. وطالب أورن “إسرائيل” بضرورة أن تتصرف فورًا للتعامل مع الأزمة الإنسانية، إن لم يكن لمنع الحرب، فعلى الأقل لتزويدنا بدرع واقٍ دبلوماسي وقانوني للوقت المناسب.
وأعاد التذكير بما حدث خلال حرب 2008: “أبو مازن يدفع “إسرائيل” إلى الحرب، ومن ثم يستدعي تقرير غولدستون، ولكن هذه المرة يمكن أن يتحول السيناريو إلى فيلم رعب ويجب علينا أن نمنع عرضه”. وشدد على أنه “إذا كان علينا أن ندافع عن أنفسنا من حركة حماس، فسنفعل ذلك ليس من أجل إشباع شهوة أبو مازن، وإنما فقط دفاعًا عن المصالح الحيوية الإسرائيلية”.