وضع رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في أبريل/نيسان 2010 حجر الأساس لمشروع ميناء الفاو الكبير، وكان مبرمجًا أن ينافس أهم موانئ المنطقة، ويتحول العراق من خلاله إلى قبلة للتجارة والنقل العالميين.
أراد مسؤولو العراق أن يقصّر الميناء الجديد المسافة التي تربط بلادهم بموانئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ويكون رقمًا صعبًا في خريطة التجارة العالمية، لكن بعد 10 سنوات من هذا الحدث لم ينجز سوى كواسر الأمواج التي دخلت موسوعة غينيس كأطول كاسر أمواج في العالم.
فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة في إتمام المشروع إلا أن الحلم العراقي بتحول بلادهم إلى نقطة لنقل بضائع العالم “ترانزيت” من الجنوب إلى الشمال، ما زال موجودًا، ويخطط العراق حاليًا لإقامة مشروع جديد تحت اسم “طريق التنمية” وفي القلب منه ميناء الفاو.
سنتعرف في هذا التقرير ضمن ملف “بوابات النفوذ” إلى الخطط العراقية لإقامة مشروع “طريق التنمية” والأهداف المرجوة منه، فضلًا عن الدول المساندة والرافضة له، مع إبراز العراقيل المنتظرة.
نقطة اتصال في طرق التجارة قديمًا
من المهم العودة للوراء والحديث عن مكانة بلاد الرافدين في طرق التجارة قديمًا، إذ لعبت البلاد عبر تاريخها الطويل دورًا مهمًا في الحياة التجارية بمنطقة الشرق القديم، لوجودها على خطوط المواصلات البرية التي تصل بين الشمال الشرقي والجنوب الغربي.
احتلت بلاد الرافدين منذ القدم موقعًا جغرافيًا وسطيًا مميزًا، فمثلت بذلك نقطة اتصال رئيسية بحركة التبادل التجاري بين بلاد الأناضول وبلدان البحر المتوسط من جهة، وبين الأقسام الوسطى والجنوبية من الجزيرة العربية من جهة أخرى، حيث تمر عبرها طرق المواصلات التجارية التي كانت تصل ما بين المتوسط والخليج العربي وبحر العرب، ومن الغرب باتجاه الهند وبالعكس.
وساهمت الحضارات المتعاقبة على البلاد في إنشاء المراكز التجارية وتهيئة الطرق التي امتدت حتى غرب آسيا الصغرى وغرب المتوسط، وكانت القوافل التجارية التي تسير على طول تلك الطرق واصلة ببضائعها شواطئ آسيا الصغرى وعائدة بالعديد مثلها، ما ساهم في نهضة المنطقة الاقتصادية والعمرانية.
تداول التجار عبر طرق العراق وموانيه التجارية الذهب والفضة والأحجار الكريمة والنحاس والأخشاب والتمور والحمضيات وبعض الفواكه، وسهر حكام البلاد على حماية القوافل وطرقها بالدرجة الأولى، فكانت بذلك مركزًا حضاريًا نشطًا، تفاعل منذ القدم مع مراكز الحضارة المجاورة في منطقة الشرق الأدنى.
ولما كانت التجارة عماد نهضة مدنيات العالم القديم، فقد تمكنت بلاد الرافدين بفضلها من إرساء دعائمها وأداء رسالتها الحضارية على امتداد تاريخها الطويل، وانعكس ذلك على مكانتها في المنطقة إذ كان لها دور حيوي بارز في التشكيل الحضاري الذي نقل المنطقة إلى الأدوار التاريخية، وساهم في نمو وازدهار مدنيات العالم القديم.
طريق التنمية
في السنوات الأخيرة ظهرت رغبة عراقية كبيرة في العودة إلى ساحة الفعل الجيوسياسي من خلال الممرات التجارية، فرأت الحكومات العراقية ضرورة بناء ميناء جديد يكون حجر الأساس لهذه الخطط الاستراتيجية.
تعهدت حكومة المالكي سنة 2010 ببناء ميناء في مدينة الفاو المطلة على سواحل الخليج العربي خلال أربع إلى خمس سنوات بتكلفة تقدر بـ4.6 مليارات دولار، على أن تتمكن البلاد من تغطية هذه الكلفة خلال ثلاث أو أربع سنوات فقط من افتتاح المشروع الذي فاز بصفقة إنشائه آنذاك تحالف تقوده شركة إيطالية.
يقع الميناء تحديدًا عند مصب شط العرب، حيث يلتقي نهرا الفرات ودجلة قبل أن يصبا في البحر، وخُصّصت له مساحة 54 كيلومترًا مربعًا على أن تبلغ طاقته الاستيعابية 90 مرسى، أما “حاجز الأمواج” التابع للميناء فيبلغ طوله 14.5 كيلومتر، وهو الأطول في العالم، ومهمته حماية السفن القادمة إلى العراق من الأمواج العاتية.
لم يتم إنجاز المشروع في وقته المحدد لأسباب يطول شرحها منها الداخلية وفيها الخارجية، لكن النية كانت متجهة لاستكمال خطط الإنشاء حتى يكون هذا الميناء المرتقب حجر الزاوية لمكانة عراقية مميزة على خريطة التجارة العالمية.
ركن مشروع بناء الميناء إلى الدرج لسنوات، إلى أن تم إحياؤه مجددًا لرغبة مسؤولي العراق في النهوض باقتصادهم، لكن هذه المرة سيكون ضمن مشروع أكبر يحمل اسم “طريق التنمية” أو ما يُعرف محليًا “بالقناة الجافة”.
في هذا السياق، وقّع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أبريل/نيسان الماضي على مذكرة تفاهم رباعية إلى جانب كل من الإمارات وقطر للتعاون في تنفيذ مشروع “طريق التنمية”، الذي يبدأ من ميناء الفاو الكبير.
تتمثل تفاصيل المشروع الجديد في استكمال بناء ميناء الفاو بمحافظة البصرة الجنوبية، فضلًا عن سكك حديدية يبلغ طولها 1200 كيلومتر داخل العراق، على أن تنقل قطارات عالية السرعة البضائع والمسافرين بسرعة تصل إلى 300 كيلومتر/ساعة، فيما تتراوح سرعة الخطوط الحالية في العراق بين 60 إلى 70 كيلومترًا/ساعة.
يضم المشروع أيضًا مدّ طرق سريعة لنقل البضائع تمر عبر 10 محافظات عراقية منها الديوانية والنجف وكربلاء وبغداد والموصل، وأنابيب لنقل النفط والغاز تمتد من أقصى الجنوب العراقي وصولًا إلى الحدود العراقية التركية في فيشخابور، وهو ما سيسمح للبضائع القادمة من الصين ودول آسيا الأخرى بالوصول إلى أوروبا بكل سهولة.
وتبلغ تكلفة المشروع التقديرية 17 مليار دولار، على أن يتم الإنجاز على ثلاث مراحل تنتهي الأولى عام 2028، والثانية عام 2033، والثالثة عام 2050، وسيربط “طريق التنمية” ميناء الفاو بتركيا وصولًا إلى القارة الأوروبية.
وتخطط السلطات العراقية أيضًا، لإنشاء مدن صناعية جديدة وأخرى سكنية على جانبي “طريق التنمية” وتجديد البنية التحية المتهالكة في المناطق التي تعبرها الطرق المخطط إنجازها، وتم إسناد المرحلة الأولى من المشروع لشركة “دايو” للهندسة والإنشاءات الكورية الجنوبية.
سيشمل المشروع المرتقب كذلك بناء واحد من أكبر الأنفاق تحت سطح البحر في العالم، يؤدي إلى المنطقة الساحلية بالقرب من الحدود العراقية الكويتية في جنوب البلاد، وأكمل العراق بالفعل في فبراير/شباط الماضي بناء نحو 60% من هذا النفق.
ووفق خطط المشروع، من المتوقع أن يمتد النفق بطول 2444 مترًا على طول الطريق من ميناء الفاو الكبير في البصرة إلى الأردن وتركيا، ويخصص لاستيعاب الحركة الكثيفة للشاحنات المحملة بالحاويات والأوزان العالية جدًا، وسيتم غمره تحت قناة خور الزبير، مع ارتفاع صافى 18 مترًا تقريبًا للسماح بمرور السفن التجارية، وفق مدير عام الموانئ العراقية فرحان الفرطوسي.
أما على الجانب التركي، سيتم بناء 615 كيلومترًا من السكك الحديدية الجديدة و320 كيلومترًا من الطرق السريعة الجديدة لربطها بالشبكة التركية القديمة، بتكلفة تقدر بنحو 8 مليارات دولار، وهو ما سيسهل نقل البضائع من العراق ودول الخليج إلى أوروبا.
من المتوقع أن تبلغ الطاقة القصوى لخط السكة الحديد المخصص لنقل البضائع عبر قطار الشحن خلال المرحلة الأولى للمشروع 3.5 ملايين حاوية و22 مليون طن من البضائع سنويًا، وبعد 10 سنوات ستصل إلى 7.5 ملايين حاوية و33 مليون طن من البضائع، ثم إلى 40 مليون طن من البضائع سنة 2050.
طموح اقتصادي ونفوذ سياسي
يأمل العراق في الاستفادة من موقعه الجغرافي ومنافذه الحدودية مع دول مجاورة عدّة لفتح ممر عبور بديل وآمن وسريع للعالم خاصة إذا تم التغلب على المشكلات الأمنية، وفي حال تحقق ذلك سيصبح العراق مركزًا مهمًّا للتجارة الدولية وممرًّا رئيسًا لنقل السلع.
من شأن المشروع الجديد أن يعزز التجارة داخل البلاد وبين دول المنطقة وبين آسيا وأوروبا أيضًا، أي أنه لن يربط بين العراق وتركيا فقط، وسيقلل بالتالي الفترة الزمنية اللازمة لنقل البضائع بين ميناء شنغهاي الصيني وميناء روتردام الهولندي من 33 يومًا إلى 15 يومًا.
هذا الأمر سينعكس إيجابيًا على اقتصاد البلاد وستزداد وتيرة النمو الاقتصادي، وترى الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني في ممر التنمية وسيلة فعالة لتعزيز روابط العراق بالأسواق العالمية، وتوفير فرص عمل جديدة وزيادة الإنتاج في البلاد والمنطقة.
وتتنزل الرغبة العراقية في تنوع خطوط الإمداد وتعدُّد مسارات الممرات ودعم سلاسل الإمداد العالمية، ضمن استراتيجية البلاد لتنويع مصادر الاقتصاد والتخلص من الاقتصاد القائم على النفط فقط، ويذكر أن قطاع المواد الهيدروكربونية يمثّل مصدر الدخل شبه الوحيد للحكومة العراقية، إذ يسهم بنحو 93% من إجمالي إيرادات الموازنة العامة.
الرغبة العراقية الواضحة للانخراط بشدة ضمن سياسة الممرات العالمية وتحولها إلى مؤثر دولي في خريطة المشروعات اللوجستية العالمية، لن يقتصر تأثيرها على الجانب الاقتصادي فقط، وإنما تمتد إلى الجانب السياسي أيضًا، فمن شأن نجاح هذا الطريق أن يساهم في تحقيق الاستقرار السياسي للبلاد.
كما له انعكاسات جيوسياسية كذلك، فمكانة العراق الجيوسياسية ستتعزز أكثر باعتباره ممرًّا للتجارة العالمية، وستعود له هيبته ويزداد نفوذه في المنطقة، وهو الأمر الذي يطمح إليه غالبية العراقيين منذ عقود طويلة إلا أن الحرب والانقسام والتدخلات الأجنبية حالت دون ذلك.
بفضل هذا الممر الحيوي إن نجح أن يعيد للعراق دوره القديم ويعود مجددًا كحلقة وصل يربط بين مدن الشرق والغرب ويعزز التجارة العالمية، ما سينعكس إيجابًا على البلاد والمنطقة ككل.
دول الجوار
تعتبر أنقرة مشروع “طريق التنمية” بمثابة طريق الحرير الجديد، ومن خلاله ستعزز وضعها الاقتصادي والجيوسياسي والعسكري، وسيمهد الطريق لزيادة نفوذ تركيا على المستوى الإقليمي.
وتراهن تركيا بقوة على هذا الممر لتطوير تجارتها مع دول الخليج العربي وباقي دول المنطقة، لذلك أبدى كبار المسؤولين في البلاد دعهم اللامتناهي لهذا المشروع، وسبق أن قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن مشروع “طريق التنمية” مهم لدول المنطقة، خاصة العراق وتركيا، مؤكدًا أن دعم بلاده الكامل للمشروع “سيستمر”.
كما يحظى المشروع بدعم قطر والإمارات اللتين تسعيان منذ سنوات للانتقال لمرحلة ما بعد النفط وتنويع مصادر الاقتصاد، وقد نجحت الدولتان بالفعل في هذا التمشي وأصبح اقتصادهما متنوعًا عكس المملكة العربية السعودية التي تعتمد إلى الآن على النفط.
في نفس السياق يسعى العراق لإقناع السعودية بأهمية الانضمام إلى طريق التنمية، وبيان عدم تعارضه مع خطط السعودية التنموية، ونظرًا لبعض المؤشرات ستشهد الفترة المقبلة انضمام الرياض لهذا الممر لأهميته البالغة.
دولة أخرى تدعم الممر أيضًا وإن لم تنخرط بعد في جهود إنجازه، وهي إيران، ولطهران منافع كثيرة من هذا الممر فيمكن من خلاله الالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة عليها وتدعم اقتصادها المتعثر وتعوض تراجع الاعتماد على الممر الجنوبي لطريق الحرير الصيني.
من شأن هذا الممر إن نجح واكتمل، أن يساهم في الحد من حالة التنافس السلبي والصراع المستمر منذ عقود ويقوي فرص التهدئة وتسوية الخلافات، ويحقّق التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة ويزيد فرص التعاون بينها، ما سينعكس على الاقتصاد العالمي.
عراقيل متعددة
هناك العديد من العراقيل والمطبات أمام حكومة العراق لإتمام خططها، ومنها الجانب المالي، فإلى الآن لم توضح الحكومة العراقية قنوات تمويل المشروع، ومن الصعب أن تجد الحكومة في الوقت الحالي التمويل اللازم نظرًا للصعوبات التي يمر بها اقتصاد البلاد، ويمكن أن تضطر إلى الشراكة مع القطاع الخاص أو الاقتراض.
من العراقيل التي يمكن أن تقف حائلًا أمام إتمام المشروع تضارب القوانين، فضلًا عن الفساد والبيروقراطية الإدارية، وبالنظر إلى هذه المطبات خسر العراق فرصًا استثمارية كبيرة حيث لا يكاد يُرى أي مشروع استثماري أجنبي في البلاد في السنوات الأخيرة، وقد عاينا كيف فشل إلى الآن في الانتهاء من بناء ميناء الفاو رغم مرور 14 سنة على وضع حجر الأساس.
أيضًا انعدام الأمن والاستقرار السياسي في البلاد سيكون حائلًا أمام استكمال هذا المشروع، فرغم الاستقرار النسبي في الفترة الأخيرة، فإن الوضع الأمني مرشح للتأزم في أي لحظة، وعرف العراق في العقدين الأخيرين انفلاتًا أمنيًا كبيرًا لانتشار المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية.
كما أن بعض الأحزاب والشخصيات السياسية ليس من مصلحتها أن تنعم البلاد بالاستقرار ويتحسن الاقتصاد وينمو، ولهذه الفعاليات ارتباطات خارجية، لذلك من المرجح أن تعمل على عرقلة خطط إنجاز المشروع، خدمة لمصالحها ومصالح أولياء نعمتها.
يمكن أن يحوّل طريق التنمية العراق إلى مركز حيوي في مجال النقل والخدمات اللوجستية العالمية، إلا أن على سلطات البلاد أن تزيل العراقيل الموجودة أمامها أولًا وتقنع دول الجوار بضرورة مساندتها ودعمها في برنامجها الحيوي، فكما لهذا المشروع آثار مهمة للعراق له أثر مهم على المنطقة أيضًا.