مرة أخرى يعود الجدل بخصوص موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى الواجهة في تونس، بعد تعطل وصول مشروع قانون يجرم التطبيع تقدمت به مجموعة من الكتل النيابية إلى جلسة عامة ببرلمان البلاد لمناقشته، مما جعل تونسيين يتساءلون عن سبب هذا التعطيل الذي يعتبره البعض منهم متعمدًا من الأغلبية الحاكمة.
تفاصيل مشروع القانون
كان من المنتظر أن يناقش برلمان تونس، غدًا الثلاثاء، مشروع قانون يجرم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ويصوت عليه، إلا أن رئاسة المجلس أجلت ذلك إلى موعد لاحق لم يحدد بعد، قرار التأجيل اعتبرته المعارضة التونسية، محاولة “فاشلة” من الأغلبية الحاكمة في البرلمان الغاية منها التخلي عن مشروع القانون الذي يطالب به عدد كبير من شعب تونس.
ومشروع هذا القانون كانت قد تقدمت به الجبهة الشعبية اليسارية في عام 2015، لكنه لم يُحل إلى جدول أعمال لجنة التشريع العام وبقي في الرف مثله مثل مشروع القانون الذي تقدمت به حركة وفاء بقيادة المحامي عبد الرؤوف العيادي للمجلس الوطني التأسيسي سنة 2012.
يتضمن مشروع قانون تجريم التطبيع ستة فصول تجرم جميع المعاملات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع الكيان الإسرائيلي
غير أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي بتحويل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس الشريف، حرك الرأي العام في تونس وخلق ضغطًا سياسيًا وشعبيًا أحرج مكتب البرلمان ليعلن بعدها برمجة جلسة عامة في شهر فبراير/شباط لمناقشة مشروع القانون.
وتُعرف الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ”إسرائيل” “باكبيPACBI ” التطبيع بأنه “المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أم مؤسسات)، ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني”.
البرلمان التونسي يحتضن علم فلسطين
أحيل مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى جدول أعمال لجنة التشريع العام داخل البرلمان التونسي من أجل مناقشته وتعديله قبل تمريره إلى جلسة عامة للتصويت عليه في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وذلك بعدما دفن طويلاً داخل رفوف البرلمان.
ويتضمن مشروع قانون تجريم التطبيع ستة فصول تجرم جميع المعاملات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع الكيان الإسرائيلي، ويعاقب المطبعون بالسجن من سنتين لخمس سنوات وغرامة من عشرة آلاف دينار إلى مئة ألف دينار (من أربعة آلاف إلى أربعين ألف دولار).
الأطراف الحاكمة
تأجيل النظر في مشروع هذا القانون، أثار تساؤلات عديد من التونسيين عن وجود إرادة سياسية حقيقية للسلطة الحاكمة لرفض تجريم التطبيع، ويحمل نواب المعارضة رئيس البرلمان محمد الناصر مسؤولية تعطيل النظر في مشروع هذا القانون.
في هذا الإطار، اتهم النائب عن الجبهة الشعبية عمار عمروسية رئيس البرلمان محمد الناصر بتعطيل جلسات لجنة الحقوق والحريات من خلال رفضه إرسال دعوات رسمية لرئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية للحضور لمناقشة مشروع هذا القانون و”لرفع الحرج عنهم”، حسب قوله.
تحتاج المصادقة على مشروع القانون الأساسي لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى أغلبية مطلقة من الأصوات
واتهم عمروسية، محمد الناصر والائتلاف الحاكم بـ”العمالة والعار والخزي” لعدم تمرير قانون تجريم التطبيع، قائلاً في جلسة عامة في البرلمان” “إذا كان التمسك بعدم تمرير القانون بهدف البقاء في الحكم فأقول لكم أنتم عملاء، وسأبقى شوكة في حلوقكم”.
وخلال جلسة ثانية للجنة الحقوق والحريات بالبرلمان، انعقدت الجمعة 9 من فبراير الحاليّ؛ لمناقشة مشروع هذا القانون، لم يحضر ممثلون من الرئاسة التونسية ووزارة الخارجية، بسبب تعمد رئيس البرلمان محمد الناصر، تعطيل جلسات اللجنة “لرفع الحرج عنهم”، وفق قول النائب عن الجبهة الشعبية، عمار عمروسية.
https://www.youtube.com/watch?v=jsqCBal8JIw&feature=youtu.be
هذا وتحتاج المصادقة على مشروع القانون الأساسي لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى أغلبية مطلقة من الأصوات أي 109 أصوات من جملة المقاعد 217 في البرلمان التونسي، وحسابيًا لا يمكن تمرير هذا القانون من دون موافقة “الأغلبية الحاكمة”.
ضغوط غربية وعربية
في مقابل ذلك، يؤكد متابعون للشأن التونسي، وجود ضغوطات على السلطات التونسية لعدم إقرار هذا القانون، ويرى مراقبون أن قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني فتح أبواب ضغوط اقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة على تونس بعد الثورة، حيث بلغ سيل الضغط من قوى اقتصادية ومالية غربية، حد التهديد بحجب المساعدات في وقت تعيش فيه البلاد ظرفًا ماليًا واقتصاديًا صعبًا.
هذه الضغوطات الممارسة ضد تونس لم تكن حكرًا على الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل صدرت أيضًا من دول عربية، وذلك لإثنائها عن المضي في خيار تجريم التطبيع لما في ذلك من إحراج لهذه الدول العربية مع شعوبها ومواطنيها.
دستور تونس من بين الدساتير القليلة في العالم، الذي نص صراحة على مناصرة القضية الفلسطينية
أثيرت مسألة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي عقب الثورة التونسية بعد تذبذب موقف حركة النهضة الإسلامية وحكومة الترويكا تجاه هذه القضية، وعدم التنصيص في الدستور على قانون تجريم التطبيع واستقبال تونس لسياح إسرائيليين واتهام بعض الوزراء بـ”التطبيع مع الكيان الصهيوني”، وبتسهيل دخول سياح إسرائيليين إلى تونس التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب”.
وأوضح وقتها الوزير المكلف بالأمن في حكومة مهدي جمعة، رضا صفر، أن السلطات تكتفي بمنح السياح الإسرائيليين الذين يزورون تونس “رخص مرور دخولًا وخروجًا”، في إجراء معمول به منذ سنوات، وأشار الوزير المكلف بالأمن إلى أن تونس تمنح منذ سنوات “رخص المرور” للإسرائيليين الذين يحجون سنويًا إلى كنيس الغريبة اليهودي في جزيرة جربة” الواقعة في جنوب شرق البلاد.
امتصاص غضب الشارع التونسي
يرى نواب في المعارضة التونسية، أن الموافقة على مناقشة قانون تجريم التطبيع لم يكن إلا أداة لامتصاص غضب الشارع التونسي إبان إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
وتعرف تونس من وقت إلى آخر تحركات احتجاجية للمطابة بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، آخرها أمس الأحد، حيث تظاهر المئات من التونسيين مطالبين السلطات بتجريم التطبيع، وردد المحتجون هتافات منها: “الشعب يريد تجريم التطبيع” و”التطبيع انتهاك للسيادة” و”مقاومة مقاومة لا صلح ولا مساومة” و”لا تراجع عن القضية.. فلسطين عربية”.
تحركات شعبية رفضًا للتطبيع
وتعتبر القضية الفلسطينية من أهم قضايا الشعب التونسي على الرغم من تقلص حجم المظاهرات الشعبية المساندة لها، فتونس استقبلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وآلاف المقاتلين الفلسطينيين، عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كما كانت تونس مقرًا بين 1982 و1994 لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وللرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
هذا ما دفع سلاح الجو الإسرائيلي إلى الإغارة على حمام الشط جنوب العاصمة تونس في أكتوبر 1985، حيث كان مقر منظمة التحرير الفلسطينية وقتها، وقتل في الاعتداء 68 تونسيًا وفلسطينيًا، كما اغتالت “إسرائيل” في 1988 بتونس خليل الوزير (أبو جهاد) المسؤول الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية.
ويعتبر دستور تونس الذي ساهمت حركة النهضة بشكل كبير في كتابته والمصادقة عليه، من بين الدساتير القليلة في العالم الذي نص صراحة على مناصرة القضية الفلسطينية ووجوب مساندتها، حيث نص في توطئته على ضرورة “الانتصار للمظلومين في كل مكان ولحق الشعوب في تقرير مصيرها ولحركات التحرر العادلة وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطيني ومناهضة لكل أشكال الاحتلال والعنصرية”.