بوابة الحزام والطريق: أمل الصين في استعادة أمجاد الماضي

خلال القرن الثاني قبل الميلاد، أرسل الإمبراطور ودي من سلالة الهان الصينية الجنرال زانغ كيان إلى الغرب لعقد تحالفات ضد شعوب غيونغنو، إلا أن الجنرال وقع في الأسر ولم يُفلح في الهرب والعودة إلى الصين إلا بعد 13 سنة.

ما إن رجع إلى موطنه حتى أرسله الإمبراطور في مهمة أخرى نحو شعوب مجاورة للصين لمعرفته الكبيرة بتفاصيل الطرق في المنطقة، وبهذه الطريقة شقّ الجنرال زانغ كيان أول الطرق الممتدة من الصين حتى آسيا الوسطى، والتي وصلت فيما بعد إلى أوروبا.

اشتهرت هذه الطرق -الممتدة من مدينة تشان غان عاصمة الصين إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط- وكثر استعمالها لدوافع كثيرة، منها الدبلوماسية والدينية وطلب العلم والمعرفة والتجارة ونقل البضائع أيضًا، من الشاي الصيني إلى الورق والبارود والعطور والبخور وغيرها.

وكان الحرير أبرز البضائع الصينية المصدرة إلى الخارج عبر هذا الطريق، لهذا أطلق عليه العالم الجيولوجي الألماني البارون فرديناند فون ريشتهوفن في أواسط القرن التاسع عشر اسم “دي سيدينستراس”، أي طريق الحرير بالألمانية.

استطاعت الصين بفضل هذه الطرق البرية والبحرية الممتدة بطول 12 ألف كيلومتر، أن تقوّي تجارتها وتصدّر ثقافتها وتغزو العالم القديم تجاريًا وثقافيًا، وكان لهذه الطرق فضل كبير في تنامي نفوذ الإمبراطورية الصينية، وبلغ استخدام الطريق ذروته خلال الألفية الأولى، تحت قيادة الإمبراطوريتَين الرومانية ثم البيزنطية، وأسرة تانغ (618-907م) في الصين.

مع اكتشاف طرق تجارية جديدة تربط بين آسيا وأوروبا وتوسُّع الحروب الصليبية، فضلًا عن التقدم الذي أحرزه المغول في آسيا الوسطى وانعزال دول آسيا الوسطى اقتصاديًا عن بعضها، أُضعفت التجارة، وبدأت مكانة طرق الحرير على خارطة التجارة العالمية تتراجع شيئًا فشيئًا، لكن مع رغبة الحزب الشيوعي الصيني الحالي في الهيمنة واكتساب نفوذ ومكانة عالمية أكبر ظهرت محاولات جادّة لإحياء هذا الماضي.

أولى المحاولات

في تسعينيات القرن الماضي، تحولت الصين من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم، نتيجة اعتمادها سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية قادها الزعيم دنغ شياوبينغ، منها فتح الطرق التجارية والسماح بالاستثمارات ومنح المزارعين الحق في استغلال أراضيهم الخاصة.

بلغت نسبة نمو الاقتصاد الصيني حينها مستويات قياسية، وانتشرت السلع الصينية في كل مكان من العالم، وتحسّن مستوى المعيشة بالنسبة إلى الملايين من الصينيين، وخرج عدد كبير منهم من دائرة الفقر وتسارعت مستويات التعليم بشكل هائل.

في ظل هذه المتغيرات الكثيرة، برزت محاولات جدّية لإنشاء طريق الحرير الجديد لتصدير السلع الصينية وزيادة نفوذ بكين في العالم، من بينها ما عُرف بالجسر البرّي الأوروبي الآسيوي، الذى يبدأ من مدينة ليانيونقانغ الصينية شرقًا ويصل إلى مدينة روتردام الهولندية غربًا بسكك حديدية ويمرّ عبر كزاخستان ومنغوليا وروسيا.

رغم أهميته في نقل البضائع الصينية نحو أوروبا إلا أنه لم يكن كافيًا، فبكين ترغب في “غزو” العالم أجمع، وهو ما يفسّر إطلاقها سنة 2013 مبادرة تعرف باسم “استراتيجية الحزام والطريق“، لاقت بسرعة تجاوبًا من نحو 70 دولة مطلّة على هذا الخط.

بعدها بـ 6 سنوات، افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ قمة “طرق الحرير الجديدة”، وقد استمرت يومَين بمشاركة ممثلين عن 150 بلدًا، وهدفت بكين من خلال القمة إلى التسويق للمبادرة التي ستجعلها محورًا للعلاقات الاقتصادية العالمية.

تفاصيل المشروع

تهدف المبادرة الصينية إلى ربط نصف سكان الأرض تقريبًا ببعضهم بشبكة من الطرق البرية السريعة والسكك الحديدية وخطوط الطيران والموانئ البحرية، فضلًا عن أنابيب الطاقة والمعابر الحدودية المبسطة، ودمج خُمس الناتج الوطني الاجمالي العالمي من خلال تأسيس ارتباطات تجارية واستثمارية تمتد إلى كل أنحاء الكرة الأرضية.

‪خريطة توضح بعض مسارات طريق الحرير الجديد (الجزيرة)‬.

فضلًا عن ذلك، موّلت الصين مئات المناطق الاقتصادية الخاصة، أو المناطق الصناعية المصمَّمة لخلق فرص العمل، وشجّعت البلدان لاحتضان عروضها التقنية، مثل شبكة الجيل الخامس التي تدعمها شركة هواوي العملاقة للاتصالات.

في بداية إطلاقها، كانت الخطة ذات قسمَين: الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري وطريق الحرير البحري، وتمّت الإشارة إلى الاثنين بشكل جماعي باسم مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، لكنهما أصبحا في نهاية المطاف “مبادرة الحزام والطريق”.

يمتد طريق الحرير البحري من الساحل الصيني عبر سنغافورة والهند باتجاه البحر المتوسط، أما الفرع البري من المبادرة فيشمل 6 ممرات، وهي الجسر البري الأوراسي الجديد وممر الصين-مونغوليا-روسيا، وممر الصين-آسيا الوسطى-آسيا الغربية، وممر الصين-شبه جزيرة الهند الصينية، وممر الصين-باكستان، وممر بنغلاديش-الصين-الهند-ميانمار.

من المهم الإشارة إلى أن الدولة الصينية هي الضامن لهذه المبادرة، من خلال بنوكها الأربعة المملوكة للدولة التي تقدّم القروض للشركات المملوكة للدولة، وتم إقصاء القطاع الخاص من المشاركة في المبادرة، ما جعلها عرضة للانتقادات كثيرة.

استثمارات كبيرة

من أبرز المشاريع التي تم إنشاؤها أو إحياؤها لفائدة هذه المبادرة، نجدُ خط السكك الحديدية الذي يربط الصين بأوروبا، ويصل 62 مدينة صينية بـ 51 مدينة أوروبية متوزعة على 15 دولة، وبداية سنة 2017 وصل إلى لندن أول قطار بضائع يربط مباشرة الصين بالمملكة المتحدة، بعد رحلة استمرت 18 يومًا بلغ طولها 12 ألف كيلومتر عبر 7 دول، وهي كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا، وتساوي أسعار هذه الرحلة نصف أسعار الشحن الجوي، وتختصر أسبوعين من وقت الرحلة عن طريق البحر.

كما شُيّدت في باكستان سلسلة مشاريع بنى تحتية شملت طرقًا وسككًا حديدية ونقاط إنتاج طاقة، لتربط الساحل الجنوبي للبلاد بمدينة كاشغر الصينية، وذلك ضمن “الممر الاقتصادي الصين-باكستان”، وينتظر أيضًا أن يتم تشييد طرق سريعة وسدود كهرمائية وإدخال تعديلات على مرفأ غوادر الباكستاني على بحر العرب.

وفق الأرقام والإحصائيات الصينية، وقعت الصين إلى غاية السنة الماضية أكثر من 200 اتفاقية تعاون تتعلق بمبادرة “الحزام والطريق” مع أكثر من 150 دولة، وأكثر من 30 منظمة دولية، تمثل ثلثي سكان العالم و40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

ووفق السلطات الصينية، أرست المبادرة أُسُس 3 آلاف مشروع تعاون، وحفّزت استثمارات تصل قيمتها إلى تريليون دولار، وبلغت القيمة التراكمية للواردات والصادرات بين الصين والدول الشريكة في مبادرة “الحزام والطريق” في فترة 2013-2022 الـ 19.1 تريليون دولار أمريكي، بمتوسط معدل نمو سنوي 6.4%.

ومنذ سنة 2013، بلغت استثمارات الصين ضمن هذه المبادرة 25 مليار دولار (22 مليار يورو)، طبقًا لإحصاءات معهد ميركاتور للدراسات الصينية، ويرجّح أن تنفق بكين إجمالًا أكثر من تريليون دولار (1000 مليار دولار) على هذا المشروع.

هدفت المشاريع التي تم إطلاقها في البداية إلى ربط شرق آسيا وأوروبا، لكن في السنوات الأخيرة توسع المشروع ليشمل أفريقيا وأوقيانوسيا وأمريكا اللاتينية، ليكون بذلك واحدًا من أكثر مشاريع البنية التحتية طموحًا على الإطلاق.

وضمن هذه المبادرة وقّعت الصين اتفاقيات مع 52 من دول القارة الأفريقية، تتضمن مشاريع متعلقة ببناء الطرق والموانئ والسكك الحديدية، لتتجاوز نسبة الاستثمارات الصينية في أفريقيا سنة 2020 الـ 20% بينما كانت قبل عقدَين لا تتعدى 3%.

ومنحت الصين الدول الأفريقية قروضًا لبناء المطارات والموانئ وإنشاء السكك الحديدية والطرق السيّارة، منها سكة حديد مسماة “طرق الحرير” التي تربط العاصمة الكينية نيروبي بمومباسا التي تحتوي على المرفأ الأبرز في البلد المشرف على المحيط الهندي.

في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وقعت تنزانيا عقدًا بقيمة 2.2 مليار دولار مع شركة صينية لبناء الجزء الأخير من خط لسكك الحديد يهدف إلى ربط الميناء الرئيسي بالدول المجاورة، كما تكفّلت الصين بتحويل مدينة ساحلية صغيرة في تنزانيا إلى ميناء قد يصبح أكبر موانئ القارة الأفريقية، وشُيّدت موانئ في دول مثل ناميبيا ونيجيريا.

أطراف داعمة وأخرى رافضة أو مترددة

تعتبر تركيا من أبرز الدول الداعمة لطريق الحرير الصيني، وترى أنقرة في هذا المشروع فرصة لتعزيز نفوذها التجاري في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط الشرق بالغرب، أما الصين فتسعى للاستفادة من هذا الدعم للوصول إلى أهدافها.

من أبرز الداعمين لهذا المشروع كذلك، روسيا التي سبق أن أكد رئيسها أن مبادرة “الحزام والطريق” “ستعزز التعاون البناء بين الدول الأوراسية، وستضمن التنمية الاقتصادية المستدامة والنمو الاقتصادي في المنطقة”، ومن شأن الدعم الروسي لهذا المشروع أن يعزز المكانة الإقليمية للصين وروسيا، خاصة في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليهما، لكن يمكن أيضًا أن يؤدي إلى حدوث تنافس بين البلدَين على السيطرة على آسيا الوسطى.

فضلًا عن روسيا وتركيا، تعد باكستان من أبرز الداعمين للمشروع الصيني، وتسعى باكستان عبر المشروع لتعزيز نموها القومي، ووفق بعض البيانات الرسمية فقد جلب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني 25 مليار دولار أمريكي من الاستثمارات الصينية المباشرة إلى باكستان وخلق حوالي 240 ألف فرصة عمل في البلاد، بدورها تسعى الصين من وراء هذا التعاون إلى تأمين طريق أكثر سرعة وأمانًا لصادراتها ووارداتها.

وفي الجانب الأوروبي تدعم بريطانيا هذا الطريق، وسبق لوزير المالية البريطاني فيليب هاموند أن أكّد التزام بلاده بالمساعدة على تحقيق إمكانات مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين، وقال هاموند إن على الجميع أن يعمل من أجل أن تصبح المبادرة حقيقة مستدامة، وعرض تقديم الخبرات البريطانية في تمويل المشاريع.

أما الدول الأفريقية فأغلبها أعلنت تبنيها للمشروع الصيني وانخرطت فيه بجدّية، رغبةً منها في جلب الاستثمارات والمحافظة على الحكم، وقد استغلت بكين هذا الأمر لـ”غزو” أفريقيا والسيطرة على مراكز الثروة في الكثير من الدول.

في المقابل هناك دول مترددة، أبرزها إيطاليا التي انضمت في البداية إلى المبادرة الصينية وكانت أول دولة من مجموعة السبع تقدم على هذه الخطوة، إلا أن رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، أشارت قبل أشهر إلى اعتزام بلادها الخروج من المبادرة التي أصبحت اختبارًا لعلاقات إيطاليا مع الولايات المتحدة.

بعيدًا عن هذه الدول، تبرز الولايات المتحدة التي تعدّ أهم معارض للمشروع، وترى واشنطن في المبادرة الصينية تحديًا كبيرًا لمصالحها الاقتصادية والسياسية، خاصة في حال تمّ تشكيل المشروع بشكل مستدام ومسؤول.

ضمن محاولات تصديها للمشروع الصيني، تعمل الولايات المتحدة على السيطرة على قلب آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا، من خلال تعزيز البنية التحتية والتجارة والاتصال في جميع أنحاء هذه المناطق، إلا أنها لم تلبِّ الاحتياجات المتأصّلة للشعوب.

في الإطار نفسه، يتنامى قلق الأوروبيين إزاء المشروع، وسبق أن كشفت وثيقة رسمية من بروكسل عن 70 مشروعًا اقتصاديًا ولوجستيًا لهذا الغرض، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إن أوروبا ستقدّم نحو 300 مليار يورو على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتمويل البنية التحتية في الدول النامية لمواجهة طريق الحرير الجديدة.

بدورها تعمل الهند على إقناع الدول بأن مبادرة “الحزام والطريق” هي خطة للسيطرة على آسيا، محذّرة من سياسة الصين المعتمدة لخنق جيرانها بالديون من أجل السيطرة عليها اقتصاديًا وسياسيًا والتحكم في قرارها السيادي، وفي المقابل تكافح الهند من أجل تقديم نفسها بديلًا عن الصين في المنطقة.

وجدير بالذكر أن الصين تعتمد كثيرًا على باكستان لإنجاح هذا المشروع، وهو ما يشكّل خطرًا على أمن الهند القومي إذ ترى في باكستان عدوًّا لها، كما أن الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني يمرّ بالقرب من منطقة كشمير المتنازع عليها.

أما اليابان فلا تخفي شكوكها بشأن نوايا الصين التوسعية، وقد خصصت أكثر من 300 مليار دولار من التمويل العام والخاص لمشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا للحفاظ على نفوذها ونفوذ الغرب في القارة، كما دخلت في تعاون مع الهند لتطوير ممر النمو الآسيوي الأفريقي، وهي خطة لتطوير وربط الموانئ من ميانمار إلى شرق أفريقيا.

أهداف استراتيجية

أنفقت الصين منذ بداية مبادرة “الحزام والطريق” ما يقدَّر بنحو تريليون دولار، ويتوقع أن تصل نفقات بكين على مدى عمر المبادرة إلى ما يصل إلى 8 تريليونات دولار، ويعود ذلك إلى رغبتها في تعزيز علاقاتها التجارية مع دول العالم.

ويعدّ الإنتاج الصناعي الصيني الفائض أحد أهم الدوافع التي تقف خلف مبادرة “الحزام والطريق”، إذ تنتج الصين نحو 1.1 مليار طن من الفولاذ سنويًا، لكنها لا تستهلك داخليًا إلا 800 مليون طن، ومنذ تسعينيات القرن الماضي تركز الصين على الصناعة والتصدير لتنمية اقتصادها والتحول إلى قوة اقتصادية عالمية.

ولتصدير فائض الإنتاج وتنمية أسواق التصدير، على الصين تطوير روابط تجارية جديدة أكثر أمنًا، وإقامة طرق برية وبحرية وجوية تربطها مع الأسواق العالمية، خاصة أن الغالبية العظمى من التجارة الدولية الصينية تمرّ عن طريق البحر عبر مضيق ملقا قبالة سواحل سنغافورة، وهي حليف رئيسي للولايات المتحدة، وهو ما يفسّر سعيها لإحياء طريق الحرير القديم وإقامة بعض التحسينات عليه للوصول إلى أسواق أكثر.

كما تطمح بكين من خلال هذا المشروع إلى إعادة رسم الخرائط التجارية حول العالم حتى تكون في المركز، ما سينعكس إيجابًا على الدخل الفردي للصينيين ومستوى معيشتهم ويخرجهم من دائرة الفقر التي كانوا فيها.

من شأن هذا الطريق أيضًا أن يضمن للصين إمدادات الطاقة طويلة الأجل من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وهو ما سيضمن نمو الإنتاج الصيني، ذلك أن بكين تعتمد على الطاقة القادمة من خارج حدودها لتنفيذ خططها الإنتاجية.

كما يعدّ طريق الحرير ركيزة مهمة في خطط الصين لإعادة هيكلة اقتصادها، وضمان رفع أجور عمالها، وتوسيع الاستخدام الدولي لعملتها المحلية، واعتمادها كعملة احتياط دولية مثل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني.

فضلًا عن ذلك، تطمح الصين للوصول إلى الثروة المعدنية الهائلة في الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة في دول مثل الكونغو الديمقراطية التي تتميز باحتياطيات وفيرة من النحاس، وتدير بكين أكثر من 80% من مناجم النحاس في هذا البلد الأفريقي.

وعلى نطاق أوسع، فإن القادة الصينيين عازمون من خلال هذا المشروع على أن تصبح الصين قوة عالمية رائدة ومواجهة المحاور التي تروج لها الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن لها دوافع جيوسياسية وراء هذه المبادرة.

ويمنح طريق الحرير الصين إمكانية التمدد العسكري، فقبل سنة أنشأت بكين قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي أول قاعدة عسكرية خارج الحدود، كما أنشأت مشاريع اقتصادية عملاقة بهذه الدولة الأفريقية التي اكتسبت بموقعها الجغرافي مكانًا للتنافس الدولي اقتصاديًا وعسكريًا.

ومن خلال القروض التي تقدمها الصين للدول الفقيرة فإنها توسع نفوذها، خاصة أن غالبية تلك الدول تعجز عن خلاص هذه القروض وبالتالي إن لبكين الحق في امتلاك المشاريع المنجزة بهذه القروض وفق الشروط القاسية المعدّة مسبقًا، كما حصل في سريلانكا إذ تسلمت الصين ميناء هامبانتوتا الاستراتيجي في البلاد بموجب عقد إيجار لمدة 99 عامًا، بعد عجز سريلانكا عن تسديد القروض المستوجبة عليها.

حتى وإن استطاعت الدول خلاص القروض، فإن الصين تضمن ولاء تلك الدول في المحافل الدولية، وتستخدمها أحيانًا لتغليب كفتها في القضايا الصينية الساخنة مثل تايوان أو معاملة الأيغور، ويزيد هذا الأمر من نفوذ الصين الدولي.

مستقبل المبادرة

تسعى الصين من خلال هذه المبادرة إلى فرض نفوذها الجيوسياسي على الدول المشاركة، إلا أن هذا الأمر ليس سهلًا والطريق ليس ممهّدًا له، ذلك أن سياسة تقديم القروض التي اتبعتها انقلبت عليها وأدّت إلى تنامي القلق والرفض الدولي للمشروع.

وتقول الصين إنها تعتمد على استراتيجية شراكة رابح-رابح ضمن مبادرة “الطريق والحزام”، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، فهي تثقل كاهل الدول بالقروض للسيطرة على ثرواتها الباطنية وقرارها السيادي خدمةً لمصالح بيكين العالمية.

وبلغت قيمة عقود البناء الصينية الموقعة مع الشركاء إلى غاية السنة الماضية تريليوني دولار، أي ما يعادل حجم اقتصاد روسيا أو كندا تقريبًا، فيما بلغ حجم المبيعات الفعلي للمقاولين الصينيين 1.3 تريليون دولار، وفق بكين.

وقالت الصين أيضًا إن رصيد القروض لمشاريع مبادرة “الحزام والطريق” من بنك التصدير والاستيراد -أحد الدائنين الرئيسيين لمبادرة “الحزام والطريق”- يبلغ الآن 2.2 تريليون يوان (307.4 مليار دولار أمريكي) ويغطي أكثر من 130 دولة مشاركة، ما يشير إلى أن متوسط ​​الديون لكل دولة يبلغ 2.4 مليار دولار، وفي السنوات الأخيرة طلب عدد من الحكومات الأفريقية المتلقية تأجيل الديون أو تخفيف عبء الديون من الصين.

وأدّت المشاريع الصينية المقامة في الدول الفقيرة وذات الدخل المنخفض ضمن هذه المبادرة إلى تعزيز مظاهر الفساد وتراجُع منسوب الديمقراطية فيها، ما أثار حفيظة الشعوب التواقة إلى الديمقراطية وبناء دول قائمة على القانون والمؤسسات.

نتيجة ذلك، تراجع الاستثمار الصيني في أوروبا إلى أدنى مستوى منذ عام 2010، ووصل السنة الماضية إلى 6.8 مليارات يورو، كما تراجعت عمليات الاندماج والاستحواذ، وحصل الأمر نفسه في القارة الأفريقية.

وظهرت مؤخرًا محاولات جادّة من بعض الدول التي يفترض أن تنفذ على أراضيها أجزاء من مبادرة طريق الحرير، لتعطيل بعض المشاريع على أراضيها مثل السكك الحديدية المخصصة لقطارات سريعة وموانئ ومناطق تجارية، نتيجة وجود مشاكل في اتفاقيات التمويل ومشاكل تكنولوجية وأخرى متعلقة بملكية الأراضي وحقوق العمال.

كما برزت معارضة من قبل بعض الدول بسبب قلة مردود هذه المشاريع بالنظر إلى تكلفتها، كما حصل في دولة لاوس وقيرغيزستان وأوزبكستان وماليزيا، نتيجة ذلك تأخر تنفيذ بعض المشاريع، فيما تم تأجيل بعضها وإلغاء عدد منها لاستحالة التنفيذ سواء حاليًا أو مستقبلًا.

فضلًا عن ذلك، تثير مشاكل البيئة حفيظة المعارضين للمبادرة، فرغم التزام الصين بالتوقف عن بناء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في الخارج عام 2021، إلا أن الاستثمار في الطاقة غير المتجددة يشكّل ما يقرب من نصف إجمالي الإنفاق على مبادرة “الحزام والطريق”.

رغم هذه المعارضة الكبيرة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية للمشروع الصيني، إلا أن هذه الدول يمكن أن تحصل على منافع كبيرة من هذا المشروع الذي سيساهم في نمو الاقتصاد العالمي، ومع ذلك وجب الحذر من السياسات الصينية التوسعية.