ما زالت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها المقربون يحافظون على ميزات اقتصادية كبيرة في مواجهة الصين وحلفائها، وفق تقرير قدمته شركة “كابيتال إيكونوميكس” نهاية السنة الماضية، فرغم أن الكتلة الصينية تمثل نصف اليابسة في العالم مقارنة بنسبة 35% للكتلة الأميركية، إلا أنها لا تولّد سوى 27% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنة بنحو 67% في الكتلة المنافسة، كما أن نصف تجارة السلع العالمية كانت بين دول مصنّفة ضمن الكتلة الأميركية.
هذا لا ينفي أهمية الاقتصاد الصيني، ذلك أنه ينمو بسرعة أكبر مقارنة بمثيله الأمريكي، مستغلًّا تفكُّك الكتلة الأمريكية وحاجة الدول النامية إلى حليف “قوي لا يفرض عليهم شروطه”، فضلًا عن تمدد مبادرة “الحزام والطريق” التي تسمّى أيضًا بمبادرة “طريق الحرير الجديد” ووصولها إلى عدد أكبر من الدول.
ورغم يقين الولايات المتحدة الأمريكية أن تفوق الكتلة الصينية على كتلتها سيستغرق وقتًا أطول بكثير، وقد لا يتحقق ذلك أبدًا لأسباب كثيرة، إلا أنها تسارع بخطى حثيثة لقطع الطريق أمام محاولات بكين للنمو أكثر والسيطرة على التجارة العالمية.
وترى واشنطن أن السيطرة على التجارة العالمية تمرّ حتمًا عبر السيطرة على ممراتها، ولمواجهة طريق الحرير الذي تقوده الصين أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها خريف السنة الماضية مبادرة الممر الاقتصادي التي تربط قارتَي آسيا وأوروبا وتجمع بعضًا من أكبر الاقتصادات المتقدمة والناشئة في مجموعة العشرين، لكن توجد عديد الصعوبات أمام هذه المبادرة حتى تصل إلى أهدافها.
طريق التوابل
في سبتمبر/ أيلول الماضي، وعلى هامش قمة مجموعة العشرين المنعقدة في الهند، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن إطلاق مبادرة الممر الاقتصادي، والذي يُعرف أيضًا باسم “طريق التوابل”، ووصف بايدن هذا الاتفاق بـ”التاريخي”.
وقع على هذا الاتفاق كل من الهند والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ودولتَين عربيتَين هما السعودية والإمارات، أي أنه يجمع بعضًا من أكبر الاقتصادات المتقدمة والناشئة في مجموعة العشرين معًا، ويربط منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بالشرق الأوسط وأوروبا.
وينص الاتفاق على إنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة التجارة بين شركاء الولايات المتحدة وتوفير موارد الطاقة وتحسين الاتصال الرقمي، ذلك أنه في حال تنفيذه سيختصر طريق التجارة بين الهند وأوروبا بنسبة 40% وسيكون أقل تكلفة بنحو 30%.
يمتد هذا الممر إلى حوالي 4 آلاف و800 كيلومتر، ويشمل سككًا حديدية وربط موانئ ومدّ خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين، بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات من الهند إلى أوروبا مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن والكيان الإسرائيلي.
ويقول القائمون على المشروع إن هذا الممر سيجمع الموانئ عبر قارتَين، ويساهم في ازدهار الشرق الأوسط، كما سيعود بالنفع على الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل في المنطقة، ويتيح للشرق الأوسط الاضطلاع بدور حاسم في التجارة العالمية.
وتفيد الخريطة الجغرافية للمشروع المطروح بشكله الأولي بأن الممرّ المقترح سيبدأ من مومباي بالهند بحرًا إلى ميناء دبي بالإمارات، ومن هناك إلى منطقة الغويفات الإماراتية بالسكك الحديدية، على أن يمتد إلى المملكة العربية السعودية ويصل إلى جنوب الأردن، ثم يصل إلى مدينة حيفا المحتلة، ومنها إلى ميناء بيرايوس اليوناني بحرًا، إلى أن يصل أوروبا عبر خطوط للسكك الحديدية.
تعزيز النفوذ الأمريكي
تحمُّل الإدارة الأمريكية للجزء الأكبر من تكلفة المشروع لن تكون من فراغ، فهذه الخطوة ستمكّنها من تمكين الدولار والاحتفاظ به كعملة أساسية على المستوى الدولي، ذلك أن أغلب تفاصيل المشروع سيتم تمويلها بالدولار الأمريكي ما سيزيد من مكانته، في وقت تسعى فيه بعض القوى الدولية والإقليمية للحدّ من سيطرته على الاقتصاد العالمي.
كما تحاول واشنطن منذ سنوات إيجاد مشروع اقتصادي استراتيجي للحفاظ على علاقاتها المهمة في آسيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، ودمج حلفائها الموثوقين في هذا المشروع حتى تدعم قوتهم في مواجهة باقي الكتل المنافسة، وتسهّل التكامل الاقتصادي بين حلفائها وتبقيهم كشركاء موثوقين حتى لا يندمجوا في مشاريع منافسة.
تطمح كذلك الولايات المتحدة من خلال هذا المشروع إلى الحفاظ على العلاقات السلمية والودّية بين الدول الآسيوية والأوروبية، وتعزيز العلاقات بينها ما سيعود بالفائدة على واشنطن، لذلك فإن الممر الاقتصادي المقترح ذو أبعاد سياسية.
تأمل واشنطن أيضًا الحفاظ على مناطق نفوذها، وتقديم نفسها شريكًا ومستثمرًا قويًا للدول النامية والمتقدمة على حد السواء، وطمأنة شركائها التقليديين بشأن قدرتها على دعمهم والوقوف في صفّهم، وهو ما يفسّر دعمها الكلي لهذا المشروع الذي لم يرَ النور بعد رغم مرور قرابة 8 أشهر على إطلاقه.
وفي الفترة الأخيرة، أبدت بعض الدول انزعاجها من السياسة الأمريكية، وأظهرت رغبتها في الاصطفاف ضمن تحالفات جديدة مناهضة لواشنطن، كما هو الحال بالنسبة إلى السعودية والإمارات اللتين انضمتا إلى مجموعة بريكس الاقتصادية التي تضم الصين وروسيا، وهما أبرز منافسي الولايات المتحدة.
ويأتي هذا المشروع كمحاولة للردّ على ميل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة نحو الصين وروسيا، ورغبتهما في إعادة تشكيل اقتصاداتهما وتنويع الشراكات والتحالفات، فواشنطن لا تريد أن ينفض عنها حلفاؤها التقليديون.
من أهداف الولايات المتحدة من هذا الممر الاقتصادي الجديد أيضًا الحفاظ على الأمن الطاقي لحلفائها وتعزيز بديل لإمدادات الطاقة الروسية، حتى لا يتكرر السيناريو الذي حدث مباشرة إثر الحرب الروسية على أوكرانيا وتعطُّل سلاسل الإمداد الطاقي حينها.
ويجمع مشروع طريق التوابل كبار مصدّري ومستوردي النفط والغاز في العالم تحت سقف واحد، وأثبتت أزمة الطاقة العالمية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية ضرورة إيجاد بديل للطاقة الروسية وممرات وصولها نحو أوروبا، لتحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة وضمان أمن الإمدادات.
من المخطط له أن يترافق المشروع الجديد مع إقامة منشآت للطاقة لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر، وتسهيل نقل الطاقة من الدول المنتجة للدول المستوردة، ما سينعكس إيجابًا على الأمن القومي الأمريكي، فأمن الطاقة من أمنها القومي.
مواجهة المشروع الصيني
تنفي الإدارة الأمريكية أن يكون هذا المشروع موجّهًا ضد دولة أو تكتل ما، أو أن يكون ردًّا على مشروع آخر، لكن المتأمّل لحيثيات الإعلان عنه وتوقيت ذلك والمسار الذي يتبعه، يرى أن المبادرة الأمريكية تمثل ردًّا على “طرق الحرير” الصينية الجديدة، ومنذ سنوات تحاول واشنطن طرح مقترحات لمشاريع بنية تحتية كبرى لمواجهة نفوذ الصين المتنامي.
تأمل واشنطن أن يفتح هذا الممر طرقًا تجارية جديدة على طول الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأوروبا، ويقلل الاعتماد على الصين ويرجّح كفّة حلفائها، في وقت تتزايد فيه المنافسة والصراع على النفوذ بين واشنطن وبكين في العديد من المجالات.
وعلى عكس الطريق الصيني، تلتزم الحكومات الموقعة على الاتفاق بتمويل هذا الطريق، أي أن كل دولة لها مساهمة محددة في إنشاء هذا الممر الواعد، أي أنه لا توجد قروض ولا مساعدات لإنشاء الممر كما هو حال طريق الحرير.
تشير بعض التقارير إلى أن مشروع الممر الاقتصادي سيكلف 47 تريليون دولار، وستكون الولايات المتحدة المساهم الأكبر في تمويله، فهي الداعم الأبرز له، وذلك لتقوية نفوذها ومواجهة النفوذ الصيني على ساحة النظام العالمي.
وقبل 11 عامًا، أطلقت بكين مبادرة “الحزام والطريق”، وتشمل مسارات بحرية بالإضافة إلى السكك الحديدية والطرق البرية، بهدف ربط الصين بالعالم برًّا وبحرًا وزيادة القوة التجارية لبكين في منطقة جغرافية تغطي ثلثي سكان الأرض.
إضافة إلى الفوائد الاقتصادية التي يجنيها الاقتصاد الصيني من هذا الممر -الذي قد تصل الأموال المنفقة عليه إلى 1.3 تريليون دولار بحلول سنة 2027-، زادت الصين علاقاتها السياسية والتجارية مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا، كما زاد نفوذها في العالم بشكل ملحوظ.
وفي السنوات الستة الماضية، نما نفوذ الصين بشكل قوي في الشرق الأوسط، إذ سعت دول الخليج إلى الحصول على استثمارات صينية لمشاريع البنية التحتية الخاصة بها -سواء كان ذلك ميناء أبوظبي، أو ميناء حمد في قطر، أو مدينة الحرير في الكويت- أو شبكاتها الرقمية، كما يتجلى ذلك في سلسلة العقود الممنوحة لشركة هواوي، كما اهتمت دول الخليج أيضًا بالترتيبات المتعددة الأطراف التي تقودها الصين، الأمر الذي لم تستسغه الولايات المتحدة.
تعزيز موقع الهند في مواجهة الصين
لم يكن الإعلان عن هذا المشروع من نيودلهي محض صدفة، فكل شيء مخطط له مسبقًا، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد التقرب أكثر إلى الهند وكسب شراكتها وضمان اصطفافها إلى جانبها، لما تتمتع به من مكانة مهمة على الخارطة السياسية والعسكرية والاقتصادية العالمية.
حققت الهند خلال السنوات الماضية أرقامًا إيجابية على الصعيد الاقتصادي، وتطمح لتعزيز موقعها في مقدمة أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، ويمثل الناتج المحلي الإجمالي للهند عام 2022 نسبة 3.37% من الناتج المحلي العالمي البالغ 100.56 تريليون دولار، وهي الدولة الأولى على مستوى العالم من حيث عدد السكان بنحو 1.41 مليار نسمة.
وعمل نظام رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، في السنوات الأخيرة على توطيد علاقات بلاده مع الولايات المتحدة والتقرب من حلفائها، إلا أن واشنطن ما زالت تخشى من إمكانية تراجع الهند عن هذه الخطوات، خاصة أنها عضو فاعل في مجموعة بريكس الاقتصادية المناهضة للغرب.
ويمكن القول إن الهند لا ترغب في أن تُحسب على معسكر بعينه دون الآخر، ولا أن تُرى في موضع التابع لقوة دولية عظمى، ومع ذلك ما زالت واشنطن تتودد إليها وتحرص على توثيق علاقاتها بها، بحيث يتسنّى للهند القيام بدور يوازن النفوذ المتنامي للصين في منطقة المحيط الهادئ-الهندي.
كما تسعى الإدارة الأمريكية من خلال توطيد علاقاتها مع الهند والاستثمار أكثر في هذه الدولة الآسيوية الصاعدة، إلى أن تتخذ الهند المزيد من الخطوات حيال روسيا وإيران، وهما من أهم حلفاء نيودلهي التقليديين، وترى الولايات المتحدة في الهند أفضل وسيلة لعزل الصين وروسيا وإيران.
خطط التطبيع
فضلًا عن هذه الأهداف، يوجد هدف آخر للإدارة الأمريكية لا يقل أهمية عن السابق ذكرها، وهو دمج الكيان الإسرائيلي في المنطقة العربية، وتمهيد الطريق لسلسلة إضافية من خطوات التطبيع، وقد عاينا استبشار الإسرائيليين بهذا المشروع.
عقب الإعلان على المشروع، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي، يبيّن فيه بالخرائط مسار المشروع الذي ذكر أن كيان الاحتلال سيكون محطة رئيسية فيه.
إذ تأمل الإدارة الأمريكية ربط الكيان الإسرائيلي بدول الشرق الأوسط، ما يمهّد لتطبيع أكبر معها خاصة من قبل المملكة العربية السعودية، التي تعتبر عنصرًا هامًّا في هذا المشروع، ويعدّ دمج كيان الاحتلال في منطقة الشرق الأوسط أمرًا هامًّا بالنسبة إلى واشنطن.
وفي سبتمبر/ أيلول 2020 وقّعت كل من الإمارات والبحرين اتفاق تطبيع مع الكيان الصهيوني بوساطة أميركية، عُرف باتفاقيات أبراهام، ولحقتهما السودان بعد شهر من ذلك التاريخ، فيما كانت المغرب رابع دولة تلتحق بركب التطبيع، بينما ترتبط مصر والأردن باتفاقيتَي سلام مع تل أبيب منذ عام 1979 وعام 1994 على الترتيب.
ترى الإدارة الأمريكية ضرورة أن تلتحق السعودية بالركب، وكان لهذا الأمر أن يتحقق في أكثر من مرة لكنه توقف نتيجة وجود بعض الاختلافات، لكن من حيث المبدأ القيادة السعودية موافقة على التطبيع وتسعى فقط لتحقيق بعض الامتيازات والتنازلات على حساب القضية الفلسطينية.
معوقات كثيرة
رغم أهمية هذه الأهداف، إلا أنه توجد معوقات كثيرة لتحقيقها، خاصة مع تضارب المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للدول الموقعة على اتفاقية هذا المشروع، فكل دولة لها أهداف خاصة تتضارب مع أهداف الدول الأخرى، ومن المرتقب أن تنظر كل دولة على طول خط الممر الاقتصادي الجديد إلى الممر بشكل مختلف، وتستقبله بشكل مختلف، ما سيكون سببًا هامًّا في تعطيل إنجازه.
من المستبعد أن تتحرك الدول الموقعة على اتفاق المشروع بمنطق الكتلة الواحدة، فكل دولة ستتحرك بمفردها لضمان مصالحها، خاصة دول الشرق الأوسط التي ستبحث عن فوائد إضافية من المواجهة بين الغرب والصين وروسيا، لذلك يتعيّن على الولايات المتحدة القيام بمجهودات إضافية لضمان اصطفاف هذه الدول ضمن كتلتها.
إضافة إلى الصراعات السياسية، هناك نقطة مهمة لم يتم حسمها بعد، وهي تكاليف تنفيذ المشروع، إذ لم تُحسم بعد الكلفة النهائية له ولا كيفية تمويله، ومن المتوقع أن تكون التكلفة أكثر من العائد ما سيضع جدوى المشروع الاقتصادية على المحك.
حتى وإن تم الاتفاق على كيفية التمويل وحصل توافق في هذا الأمر، فإن تطبيق المشروع على أرض الواقع وإنشاء الممرات اللازمة سيستوجبان سنوات طويلة إن لم تكن عقودًا، فالبنية التحتية الحالية على طول الممر بحاجه إلى تأهيل وتجديد.
من أبرز معوقات المشروع أيضًا الجانب الأمني، وقد رأينا كيف أثّرت الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد غزة على مسالك الإمداد العالمي، ومن المبرمج أن يمرّ جزء هام من الممر على الأراضي الفلسطينية المحتلة ما يعني أن أمن الممر غير مضمون، وأشارت عديد التقارير مؤخرًا إلى انخفاض ثقة الشركات والمستثمرين في جدوى هذا المشروع.
فضلًا عن ذلك، يواجه هذا الممر من البداية معارضة عديد الدول الإقليمية، وهي إيران وتركيا ومصر، فهذه الدول تم تجاهلها واستبعادها من الممر المقترح، رغم أهمية مكانتها الجغرافية واحتلالها مكانة مهمة في مسارات التجارة العالمية.
هذه المعوقات الكثيرة من شأنها أن تؤجّل البدء في هذا المشروع وتؤثر على نجاحه، لكن الولايات المتحدة حريصة على مواصلة خطتها ونجاح مشروعها، من أجل خلق توازن ضد نفوذ الصين المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، واستعادة نفوذها في العالم بعد أن تراجع في السنوات الأخيرة.