الغاز والنفط المصري: ثروة قومية مهدورة

يتسم الاقتصاد المصري منذ القدم بكونه اقتصادًا ريعيًا، يستمد معظم إيراداته من الريع الناتج عن الموارد الطبيعية التي لم يكن لها دور في وجودها، بدلًا من الاعتماد على النشاطات الإنتاجية الأخرى مثل الصناعة أو الزراعة أو الخدمات.

وظهر جليًا منذ منتصف السبعينيات أن الدخول الريعية هي المحرك الأساسي للاقتصاد المصري، حيث تشكل هذا الريع من إيرادات البترول وقناة بالسويس، كما يعتقد الاقتصاديون أن المساعدات الخارجية وتحويلات المصريين العاملين بالخارج، ضمن الدخول الريعية لأنها لا تأتي من نشاط إنتاجي داخل البلاد، وغالبًا لا تُساهم في قيام أنشطة إنتاجية، وإنما تأتي كهبة من السماء.

يرى كذلك دكتور الاقتصاد في الجامعة الأمريكية جلال أمين أن الاقتصاد المصري عندما ينمو فهو ينمو بفضل الدخول الريعية، وعندما تتدهور معدلات نموه فإن ذلك يكون بفعل جفاف تلك الموارد. وباستبعاد موارد المجتمع، أو الموارد التي تتسم بالتقلب، والتركيز على موارد الدولة التي تديرها وتقع تحت سيطرتها، ورغم أن مصر ليست دولة غنية بالموارد مقارنة بحجم سكانها أو حتى مقارنة بدول مجاورة، فإن هذا لا يعني أنها فقيرة أو شحيحة الموارد. 

إنما اتسم النهج الذي اتبعته الدولة خلال العقود الأخيرة بمستويات عالية من الإهدار والفساد، نتيجة سيطرة نخب من المؤسسات والأشخاص على هذه الموارد، واستيلائهم على مصادر الريع، وهو ما انعكس بشكل واضح على الاقتصاد المصري الذي دخل في دورة لا تنتهي من الأزمات المزمنة، ما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين وغياب العدالة الاقتصادية وارتفاع اللامساواة الاجتماعية.

لذلك، نسلط الضوء في هذا المقال ضمن ملف “خزينة مثقوبة” على كيفية تعامل الأنظمة المتعاقبة مع الموارد التي تملكها مصر، ونركز على موارد البترول والغاز الطبيعي، ونرصد كيف تسببت الإدارة غير الكفء في استنزاف هذه الموارد أو تحقيق خسائر هائلة، وفقدان أرباح ضخمة كان من المفترض أن تدخل الخزينة المصرية، والأسوأ، إجبار الدولة على الدخول في أزمة طاقة وأن تتحول إلى مستورد صافٍ لها.

البترول.. نضوب مستمر للاحتياطات

كانت مصر في مقدمة دول المنطقة التي اكتشف فيها البترول، وذلك في عام 1908، واستمرت سيطرة الأجانب عليها لعقود طويلة، إلى أن بدأت الحكومة في تمصيرها بداية من عام 1948، وصولًا إلى تأمين الصناعة بأكملها في عام 1964.

في المرحلة الثالثة التي بدأت عام 1974 فتح نظام السادات الباب أمام الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاع، وهو ما شكل تحولًا مهمًا، حيث سيصبح قطاع البترول من أهم الأنشطة الاقتصادية، وسيلعب دورًا محوريًا على صعيد التطورات الاقتصادية والاجتماعية في مصر إلى اليوم.

حقوق الإنتاج لم تكن تؤول بكاملها للحكومة المصرية، إذ تحصل الشركات الأجنبية المستخرجة للبترول وصاحبة الامتياز على نحو 50% من الإنتاج، ولها الحق في التصرف بالنسبة بحرية كاملة

مع ارتفاع أسعار النفط عالميًا بعد حرب أكتوبر عام 1973، اعتمدت مصر على تصديره لتوفير إيرادات مالية تحميها من عجز الموازنة، وخلال السبعينيات والثمانينيات وقعت الحكومة على العديد من اتفاقيات التنقيب عن امتيازات النفط في منطقتي الصحراء الغربية ودلتا النيل، وارتفع النشاط الاستكشافي في نفس الفترة، وهو ما انعكس على زيادة احتياطيات مصر من النفط. 

وبدلًا من تنمية القطاعات غير الريعية، والعمل على تصدير السلع والخدمات أو جذب الاستثمارات، استمرت الإدارة المصرية في الاعتماد على عوائد النفط التي كانت تُشكل نسبة كبيرة من الإيرادات العامة، ولم يكن بمقدورها التخلي عنها، حتى مع انخفاض أسعار النفط في أوائل التسعينيات، ما دفعها إلى زيادة الإنتاج لتعويض هبوط أسعار النفط، الذي وصل إلى نحو 12 دولارًا للبرميل، وفي عام 1993 وصلت مصر إلى ذروة إنتاجها بواقع 912 ألف برميل يوميًا، وهو معدل لن يحققه قطاع البترول مرة ثانية.

مع العلم بأن حقوق الإنتاج لم تكن تؤول بكاملها للحكومة المصرية، إذ تحصل الشركات الأجنبية المستخرجة للبترول وصاحبة الامتياز على نحو 50% من الإنتاج، ولها الحق في التصرف بالنسبة بحرية كاملة، ولا يحق للحكومة إلا أن تشتري نسبة لا تتخطى 20% من الحصة، وذلك طبقًا لبنود اتفاقية بين الحكومة المصرية وشركة “بان أمريكان”، عرضها الباحث عبد الحميد مكاوي في فصل بعنوان “قصة الاقتصاد السياسي للبترول في مصر” ضمن كتاب “مُلَّاك مصر: قصة صعود الرأسمالية المصرية – الجزء الثاني”.

وبعد تنحي مبارك ظهرت دلائل الفساد التي طالت قطاع البترول، من خلال الاختلال في شروط التعاقد التي عقدتها الحكومة لصالح الشركات الأجنبية المتعاقدة على أعمال التنقيب والاستخراج والبحث.

واستمرت مصر خلال السنوات التالية في الإنتاج بمعدلات مرتفعة في نفس وقت تدني الأسعار، ما كان له نتائج وخيمة فيما بعد، ولم يكن من المقدر بأي حال الاستمرار بنفس المعدلات، وبحلول نهاية الألفية، انخفض الإنتاج ليبلغ نحو 729 ألف برميل في اليوم، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخفضت معدلات الإنتاج بشكل كبير إلى ما دون 700 ألف في معظم السنوات، وبعد أن كان معدل الاستهلاك يُعادل ما يقترب من نصف الإنتاج خلال التسعينيات، خلال العقد الجديد تغيرت المعادلة، حتى تخطى الاستهلاك معدلات الإنتاج، وتحولت مصر إلى مستورد صاف للنفط بحلول عام 2006.

من المتوقع أن ينضب الإنتاج وتستهلك مصر كامل ثروتها النفطية، في فترة تُقدر ما بين 14 إلى 16 عامًا فقط، نتيجة سوء الإدارة والتخطيط واستنزاف موارد الدولة الطبيعية

تشير التقديرات إلى أن مصر استنزفت أكثر من 80% من احتياطاتها النفطية، وفي الوقت الراهن تمتلك نحو 3.3 مليار برميل من الاحتياطات، بحسب أحدث البيانات المتاحة لدى منصة الطاقة لعام 2021. نزولًا من 4.5 مليار برميل في عام 2010.

يبلغ حجم إنتاج النفط في مصر حاليًا نحو 559 ألف برميل يوميًا، وفقًا لبيانات شهر يناير/كانون الثاني 2024. وهناك فجوة هائلة بين حجم الإنتاج والاستهلاك، ما يدفع الحكومة المصرية لاستيراد ما يقارب 100 مليون برميل سنويًا، وهو ما يستنزف موارد النقد الأجنبي في وقت يُعاني فيه الاقتصاد من شُح العملة الأجنبية، حيث وصلت تكلفة الاستيراد في عام 2022 إلى 12 مليار دولار بحسب تقديرات الحكومة المصرية، ما يجعل الاقتصاد المصري أكثر هشاشة وتأثرًا بأسعار النفط العالمية.

وبقياس معدلات الإنتاج الحالية مقابل ما تملكه مصر من احتياطي مؤكد، فمن المتوقع أن ينضب الإنتاج وتستهلك مصر كامل ثروتها النفطية، في فترة تُقدر ما بين 14 إلى 16 عامًا فقط، نتيجة سوء الإدارة والتخطيط واستنزاف موارد الدولة الطبيعية التي كانت محدود في الأساس من خلال تصديرها بكثافة بأسعار بخسة ثم الاضطرار للاستيراد بعد ذلك بأضعاف السعر، وعدم تحقيق عائد تنموي يذكر من ورائها، وحرمان الأجيال الحالية والقادمة من نصيبهم العادل من فوائد الثروة القومية، وإجبارهم على تحمل المعاناة في ظل أزمة طاقة ممتدة.

الغاز الطبيعي.. خسائر غير مبررة

بعد تنحي الرئيس محمد حسني مبارك في عام 2011، أزيلت واحدة من أبرز المعوقات أمام كشف الفساد الذي طال عقود تصدير الغاز، وهو ما ظهر في عقود البيع بسعر بخس لـ”إسرائيل” والأردن وإسبانيا، حيث تعاقدت شركة “غاز شرق المتوسط” التابعة للحكومة المصرية مع شركة الكهرباء الإسرائيلية “إلكتريك كورب” في عام 2001، لتوريد 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا إلى “إسرائيل” ولمدة 15 عامًا. بأسعار تتراوح ما بين 0.75 و1.25 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. 

وفي عام 2008 تصاعد الغضب والرفض الشعبي للاتفاقية، وعرضت القضية على القضاء الإداري، وهو ما أسهم في الكشف عن تفاصيل العقد، وما شابه من مخالفات جسيمة أهدرت مكاسب ضخمة كان من المفترض أن تحققها الدولة، لكن على العكس من ذلك استفاد الطرف الإسرائيلي من الأسعار البخسة والشروط غير المتزنة في التعاقد، إذ تحدد السعر على نحو ثابت دون أي مجال لزيادة الحد الأقصى للسعر ليتوافق مع الأسعار العالمية التي كانت آخذة في الارتفاع.

أهدرت مصر فرصًا اقتصادية كبيرة نتيجة بيع الغاز لـ”إسرائيل” بـ75 سنتًا، حيث كان نفس خط الغاز شرق المتوسط المتجه لـ”إسرائيل” والأردن وسوريا ولبنان، يقدم أسعارًا مختلفة لكل دولة

وقد نشرت جريدة “المصري اليوم” وثائق من ضمنها خطاب موجه من رجل الأعمال حسين سالم إلى وزير البترول في 2004 يطلب فيه تخفيض الحد الأدنى للسعر بمقدار النصف ليكون 0.75 دولار، ليوافق رئيس الوزراء على قرار تخفيض السعر للحد الأدنى في نفس اليوم. 

أهدرت مصر فرصًا اقتصادية كبيرة نتيجة بيع الغاز لـ”إسرائيل” بـ75 سنتًا، حيث كان نفس خط الغاز شرق المتوسط المتجه لـ”إسرائيل” والأردن وسوريا ولبنان، يقدم أسعارًا مختلفة لكل دولة، فعلى سبيل المثال، كانت سوريا ولبنان يحصلان على نفس الوحدة مقابل 5.5 دولار.

وقد أصدر مجلس الدولة حكمين بوقف تصدير الغاز لـ”إسرائيل” في 2008 و2010، لكن الوزارة تقدمت بطعن، واستأنفت عمليًا تصدير الغاز، وقد اضطرت لتعديل الاتفاقية بعد ذلك لتحسين السعر بسبب الانتقادات التي تتعرض لها.  ليصبح سعر الغاز 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.

وبعد ثورة يناير/كانون الثاني، ونتيجة للغضب الشعبي ألغت الإدارة المصرية الاتفاقية بشكل نهائي عام 2012، ما أدى إلى نزاع تحكيم دولي بين تل أبيب والقاهرة، انتهى بحصول “إسرائيل” على تعويض بقيمة نصف مليار دولار عام 2019.

كما وقعت مصر مع الأردن اتفاقيتين للتنقيب عن الغاز الطبيعي في 2003 و2007، وقد نص الاتفاق الأول على تصدير 77 مليار قدم مكعبة للأردن بسعر 1.27 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بينما نص الثاني على تصدير 32 مليار قدم مكعبة بسعر 3.06 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. وأشارت الدراسات بعد ذلك، إلى الفجوة الضخمة بين الدخل الفعلي التي حققته مصر من مبيعات الغاز للأردن مقارنة بما كان من الممكن تحقيقه من إيراد حال مطالبة الحكومة المصرية بأسعار أكثر عدالة.

64% من الغاز المصدر من محطة دمياط كان يتم إرساله لإسبانيا بموجب اتفاق سري غير معلن شروطه للجمهور

وقدرت تلك الخسارة بنحو 3.8 مليار دولار حرمت منها الخزانة المصرية، وآلت الأرباح للشركات الخاصة وللخزانة الأردنية بين عامي 2005 و2010، وذلك بحسب دراسة تحليلية صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

وإلى جانب التصدير للأردن و”إسرائيل”، فقد عملت مصر على تصدير الغاز المسال إلى أوروبا من خلال محطتي “دمياط” و “إدكو”، وكانت غالبية المبيعات مرتبطة بعقود طويلة الأجل تتسم بكثير من بخس الأسعار، فـ64% من الغاز المصدر من محطة دمياط كان يتم إرساله لإسبانيا بموجب اتفاق سري غير معلن شروطه للجمهور وقعته الشركات التابعة لوزارة البترول مع شركة يونيون فينوسا الإسبانية عام 2000، وهو ما كشفته قضية عقود تصدير الغاز رقم 41 والتي جرت فيها محاكمة رجل الأعمال حسين سالم ووزير البترول الأسبق سامح فهمي، وهي القضية التي انتهت بحبس الاثنين لمدة 15 عامًا.

وتكشف الأرقام التقديرية للدراسة السابقة عن فروق ضخمة بين الإيرادات الفعلية التي حصلتها مصر جراء تصدير الغاز لإسبانيا، وما كان يمكن تحقيقه من إيراد في حال توقيع عقد بشروط أفضل، أو في حال ما كانت الحكومة المصرية قد انخرطت في تقديرات جيدة لأسعار البيع والتصدير، حيث بلغ إجمالي الإيرادات المفقودة نتيجة التسعير البخس خلال خمس سنوات (2005-2010) ما يتجاوز 6 مليارات دولار.

لم تنته أزمات قطاع الغاز مع انتهاء عهد مبارك، بل ظهرت الأزمة بأوجه مختلفة في ظل النظام الحالي، بداية في عام 2018 أعلنت مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وأنها لم تعد بحاجة إلى الاستيراد من جديد، وذلك على خلفية تشغيل حقل “ظهر” العملاق الذي اكتشف عام 2015، ويمتلك احتياطيًا يُقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعبة.

ولم تكتف الإدارة المصرية بذلك، وفي العام نفسه وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي رسالة متفائلة للمصريين، قائلًا: “إحنا جبنا جون يا مصريين في موضوع الغاز”، وأكد أن مصر وضعت قدمها على الطريق لتكون صاحبة المركز الأول إقليميًا في مجال الطاقة، وذلك من خلال استيراد الغاز المستخرج من منطقة البحر المتوسط ومعالجته في منشآتها وتسييله وإعادة تصديره إلى أوروبا.

وبالتزامن مع حديث الرئيس وقعت مصر اتفاقية لاستيراد الغاز مع شركة “ديليك” الإسرائيلية التي كانت تمتلك حقوق التنقيب في حقلي “تمار” و”ليفياثان”، إذ تنص الاتفاقية على توريد 85 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا إلى مصر، بقيمة إجمالية تصل إلى 19.5 مليار دولار على مدار 15 عامًا، بحسب رويترز.

اجتماع وزاري بين طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية مع كارين الحرار وزيرة الطاقة الإسرائيلية والوفد المرافق لها.

وحتى أكثر الناس تشاؤمًا لم يكن ليتوقع أن الآية ستنقلب تمامًا بعد سنوات قليلة، وذلك مع نضوب وانخفاض إنتاجية حقل ظهر، واضطرار مصر للاعتماد على الغاز الإسرائيلي لتلبية الطلب المحلي، وليس تسييله وبيعه لأوروبا كما كان مخططًا، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل لجأت الحكومة إلى استيراد شحنات غاز مسال إضافية خلال الفترة الأخيرة لتشغيل محطات الكهرباء، لتتحول مصر خلال عامين من أحد أكبر مصدري الغاز في العالم، إلى مستورد صاف لنفس الطاقة، في تحول يكاد يكون دراميًا، ما يدل على تأثير سوء إدارة الموارد الطبيعية وإلى أي مدى يمكن أن يصل الأمر.

ساهم تشغيل حقل “ظهر” في تلبية الطلب المحلي على الطاقة، ومكن مصر من تصدير كميات كبيرة من خلال الفائض عن الاستخدام المحلي، بالإضافة إلى إعادة تصدير واردات الغاز الإسرائيلي. وكانت هناك سياسة واضحة من المسؤولين المصريين تدفع نحو رفع الإنتاجية إلى أقصى حد ممكن.

وفي عام 2022 بلغ الحقل ذروة إنتاجه بنحو 2.6 مليار قدم مكعبة يوميًا، وفي وقت يمر فيه الاقتصاد بأزمة عنيفة ويحتاج إلى موارد النقد الأجنبي، وبالتزامن مع حظر أوروبا للنفط الروسي، عملت الحكومة المصرية على زيادة صادراتها من الغاز، مستغلة ارتفاع الأسعار، وهو ما ساعد مصر على توفير عوائد مالية مكنتها من مواجهة الأزمة الاقتصادية وسداد الفجوة التمويلية التي كانت تُعاني منها، لتسجل صادرات الغاز ارتفاعًا بنسبة 171% مقارنة بالعام السابق، حيث بلغ إجمالي صادرات مصر من الغاز المسال خلال عام 2022 نحو 7.4 مليون طن، مقارنة بـ6.6 مليون طن عام 2021. لتحقق صادرات مصر من الغاز أرقامًا قياسية بقيمة تُقدر بنحو 8.4 مليار دولار في عام 2022. وهو ما سيكون له تكلفة باهظة.

وبداية من العام التالي في 2023، ظهرت الآثار السلبية لسوء الإدارة في عملية الإنتاج والاستخراج، حيث كشفت التقارير تباعًا بأن الحقل التي تعتمد عليه مصر بشكل أساسي بدأ يُعاني من نضوب وانخفاض الإنتاجية، وهو ما أدى إلى تراجع إنتاج الغاز في مصر بنسبة كبيرة، وتعطيل خطط التصدير الطموح، التي كانت تهدف إلى تصدير الغاز بقيمة مليار دولار شهريًا خلال عام 2023.

أدى هذا التراجع المفاجئ إلى قيام الحكومة المصرية بوقف بعض محطات توليد الكهرباء، بسبب نقص الغاز اللازم لتشغيلها، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متواصل خلال أشهر الصيف. وقد تسبب ذلك في معاناة غالبية السكان في مصر وتكبد خسائر مادية باهظة.

وقد أعلنت الحكومة في ذلك الصيف عن خطة تخفيف الأحمال الكهربائية تتضمن قطع التيار الكهربائي لمدة ساعة يوميًا خلال أشهر الصيف للحد من استهلاك الكهرباء، ثم في الصيف الحالي زادت المدة لتتراوح ما بين ساعتين إلى ثلاثة في ظل تفاقم أزمة نقص الإنتاج.

ووفقًا لموقع الطاقة المتخصص، فقد استنفدت مصر خلال السنوات الماضية 23% من الاحتياطات القابلة للاستخراج الاقتصادي في الحقل، ما يستدعي الاستثمار في حفر آبار إضافية داخل الحقل، ورفع كفاءة التشغيل، وخلال الأشهر الأولى من العام الحالي 2024، سجل إنتاج حقل “ظهر” أكبر انخفاض منذ اكتشافه قبل نحو 9 سنوات.

وبالتزامن مع انخفاض الإنتاج المحلي وتوقف التصدير، تلقى قطاع الطاقة ضربة كبيرة بعد هجوم فصائل المقاومة الفلسطينية على “إسرائيل” في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023، واندلاع العدوان على غزة، إذ سرعان ما أعلنت “إسرائيل” عن توقف وقف إمدادات الغاز إلى مصر بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.

انعكس خفض الكميات الموردة إلى مصر من 800 مليون قدم مكعبة سريعًا على زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي على المواطن، وخفض الحكومة كميات الغاز الموردة لمصانع الأسمدة والأسمنت. ورغم أن واردات الغاز استؤنفت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، لتعود تدريجيًا إلى النسب السابقة، إلا أنه في بداية شهر يوليو/تموز ومع دخول فصل الصيف، تشير التقارير إلى خفض تل أبيب لواردات الغاز الطبيعي بنسبة 26% بسبب ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الاستهلاك المحلي في “إسرائيل”، ما يزيد من هشاشة أمن الطاقة في مصر، ويهدد عملية توليد الكهرباء في صيف آخر شديد السخونة والصعوبة على السكان.

وقد بدأت الحكومة المصرية في استيراد شحنات الغاز الطبيعي المسال في خطوة نادرة بسبب ارتفاع التكاليف والصعوبات اللوجستية والفنية، وذلك لتجنب الانقطاعات المزمنة في الكهرباء والتي لم تعد تؤثر على المواطنين فقط، بل باتت تهدد صناعات استراتيجية مثل الأسمدة، التي تُعد من أهم القطاعات التصديرية، ومن شأن التحول الجذري من مصدر إلى مستورد للطاقة أن يزيد من الضغط على موارد النقد الأجنبي الشحيحة في الأساس.

من خلال تتبع أسلوب إدارة قطاع الغاز خلال السنوات السابقة، نلاحظ مستويات عالية من الفساد وسوء الإدارة، ترتبط ببنود التعاقد وعملية التصدير، من حيث التسعير والكميات، بداية من استنزاف موارد الغاز وتصديرها بأسعار بخسة قدرت في بعض الأحيان بنحو عشر السعر العادل، ثم العودة بعد سنوات قليلة لاستيراد الغاز من “إسرائيل” بالأسعار العالمية، بالإضافة إلى إدارة ملف حقل “ظهر” بطريقة غير مستدامة وبالتركيز على الاستفادة منه بأقصى درجة ممكنة في اللحظة الراهنة، دون النظر إلى العواقب المستقبلية التي قد تحدث مستقبليًا، لذلك بعد كل ما حدث ليس من المستغرب الوقوع في أزمة الطاقة الراهنة.

خاتمة

من المعروف أن جوهر أي سياسة اقتصادية هو تخصيص واستغلال الموارد بكفاءة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، مع ذلك، نجد أن سوء إدارة الموارد الطبيعية أدى إلى النتائج الحالية والتي لا يُمكن أن تتناسب مع حجم ما كانت تملكه مصر من موارد، لذلك فإن النهج الاقتصادي الذي اتبعته مصر على مدار السنوات الماضية من الضروري تغييره جذريًا. 

كما ظهر بشكل واضح التكلفة الباهظة الذي يتحملها الاقتصاد نتيجة سوء استغلال الموارد واستشراء الفساد، لا سيما أن هذه التكلفة تتحملها دائمًا الفئات الفقيرة والطبقات المتوسطة الذين يشكلون غالبية الشعب، وقد أدى سيطرة بعض المؤسسات الحكومية على هذه الموارد بعيدًا عن الرقابة البرلمانية والشعبية إلى استغلال الموارد لصالح فئة صغيرة وحرمان المواطنين من فوائدها.

وهو ما يتعارض مع الضمانات الدستورية التي تنص على أن الحق في إدارة الموارد الطبيعية باعتبارها ملكًا عامًا للمواطنين، وبالتالي لا بد من ضمان عدالة توزيع عوائدها، وذلك من خلال مشاركة المواطن في إقرار السياسات العامة واتخاذ القرارات التي تؤثر على معيشته، وهو ما يحتاج إلى معركة طويلة وشاقة تبدأ بأبسط الأشياء، وهي حقه في المعرفة، من خلال تحسين الشفافية ونشر كل بيانات وموازنات الهيئات العامة والشركات المملوكة للدولة، والتي تتضمن العقود والاتفاقات المبرمة، وإتاحة جميع بيانات المسائل المتعلقة بالالتزامات والمستحقات والمدفوعات لدى هذه المؤسسات، بما يضمن الرقابة على الفساد وسوء الإدارة.