قديمًا، كانت تستخدم العمليات القيصرية لإنقاذ الطفل من رحم الأم التي توفت في أثناء الولادة، لذلك اعتمد عليها الأطباء لوقت طويل للحفاظ على حياة الطفل بدلًا من الأم، فلقد سجلت أول حالة في سويسرا عام 1580 ومع توافر المعدات الطبية في القرن السابع عشر وتطور تقنيات التخدير نجحت هذه التقنية في الحفاظ على سلامة كل من الأم والجنين، ونجاتهم من الإعاقات الصحية الدائمة التي كانوا سيتعرضون لها بسبب مصاعب ومضاعفات الولادة.
لكن في الآونة الأخير يعتقد البعض أن هذه العملية تحولت من عامل إنقاذ إلى أداة ربحية أو ظاهرة اجتماعية في بعض البلدان، خاصة عند وجود تضارب بين آراء الأطباء الذي يعتقدون أن القاعدة الأساسية في الولادة هي العملية الطبيعية، بينما يرى البعض الآخر أن القيصرية أسلوب طبي حديث وجد لتفادي بعض الأخطار والآلام المحتملة، هذا بالجانب إلى الفئة الأخيرة التي تؤكد أن لكل امرأة وضع طبي مختلف عن الأخرى وعلى هذا الأساس يجرى القرار الطبي اللازم اتخاذه.
نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا يوضح أن زيادة نسبة الولادات القيصرية عن 10% – 15% يشير إلى وجود إجراءات طبية غير ضرورية، ورأت أنه عندما ترتفع معدلات الولادة القيصرية نحو 10% بين السكان ينخفض عدد الوفيات بين الأمهات والأطفال حديثي الولادة، ولكن عندما يذهب المؤشر إلى أعلى من ذلك، فليس هناك دليل على انخفاض معدل الوفيات، أي أن الجراحات القيصرية أجريت دون دواعٍ طبية.
حيث شهدت بعض البلدان زيادات ملحوظة مثل مصر وتركيا وجورجيا والصين وجمهورية الدومينيكان زيادة بنسبة 30% في معدلاتها على مدى السنوات الـ24 الماضية، فلقد أعلنت وزارة الصحة المصرية عام 2014، أن الولادات القيصرية في مصر تعدت 52% مقارنة مع 7% عام 1995، أو بنسبة 26% في العراق لعام 2010، وهذه النسبة مؤشر لتدخل طبي غير ضروري، خاصة أن الخطر يزداد إن لم تكن المستشفيات مجهزة بالمعدات الطبية اللازمة لقياس نبض الجنين، وتوافر أطباء التخدير طيلة الوقت وغيرها من المستلزمات للحفاظ على عافية الأم والطفل.
ما سبب تزايد العمليات القيصرية في السنوات الأخيرة؟
أثار هذا الارتفاع الكبير في معدل الولادة القيصرية قلقًا عالميًا، وفي دراسة رصدت معدلات الولادات الطبيعية والقيصرية منذ عام 1990 وحتى 2014، فإن 18.6% من جميع الولادات التي تحدث في 150 بلدًا هي قيصرية، وتوجد أعلى المعدلات في أمريكا اللاتينية بنسبة 40.5%، و32.3% في أمريكا الشمالية، و31.1% في أوروبا، و25% في آسيا، و7.3 في إفريقيا.
حاول الخبراء الكشف عن أسباب زيادة الجراحة القيصرية، فافترضوا أن التقدم العلمي في الطب منح الأطباء طمأنينة أكبر في اتخاذ هذا القرار، لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالحوافز المادية والعوامل الاجتماعية والموروثات الثقافية تشكل ضغطًا إضافيًا في هذه المسألة، فكيف ذلك؟
عادة ما تكون الولادات القيصرية أكثر كلفة من العملية الطبيعية، بسبب الموعد المحدد ومواد التخدير المستخدمة وإقامة الأم من يومين إلى ثلاثة في المستشفى حتى تتعافى من جرح الولادة
في هذا المحور، تقف الأمانة المهنية والضغوط المادية وجهًا إلى وجه، وفي صراع مستمر بين الأخلاق التي يفرضها المجال الطبي وإغراءات المال، ولا يمكن الجزم بانتصار أحداهما إلا في بعض الأحيان، فـ4% من النساء يقررن الولادة بالشكل الطبيعي التقليدي في أول شهور الحمل، إلا أن 90% (نسبة مدهشة) منهن يعدلن عن هذه الفكرة ويفضلن الولادة القيصرية في الشهور الأخيرة، هذا التغير الجذري بالقرارات هو نتيجة التوصيات الطبية التي تتلاقها النساء من الأطباء على نحو مستمر، إذ يعتمد الأطباء في بعض الأوقات على ضعف المعرفة الطبية لدى المريض ويبدأ بإقناعه بفكرته التي تبدو الأفضل وفقًا لمعايير ربحية وغير طبية.
وعادة ما تكون الولادات القيصرية أكثر كلفة من العملية الطبيعية، بسبب الموعد المحدد ومواد التخدير المستخدمة وإقامة الأم من يومين إلى ثلاثة في المستشفى حتى تتعافى من جرح الولادة.
وتأكيدًا على تلك الأطماع التجارية قامت منظمات صحية باتباع اتفاقيات مع المستشفيات والعيادات الخاصة تحديدًا بتقليص عدد العمليات القيصرية مقابل حوافز نقدية، وبالفعل قدمت وكالة ميديك عام 2012، وانخفض معدل الولادات القيصرية بما يقرب من 7% إلى 4%، وعند ظهور هذه النتائج قال ويليام جولدت مدير المنظمة: “هذا دليل واضح على أن الانخفاض في النسبة لم يعتمد على حاجة المرضى، فهو أمر يمكن تجنبه في العديد من الحالات، أي أنها تعتمد على الربح المادي والأمر لا يتعلق بالوضع الصحي”.
دور المحددات الاجتماعية في زيادة الولادات القيصرية
رغم أن الجراحة القيصرية أنقذت الملايين كما ذكرنا في المقدمة، فإن معدل الوفيات لدى النساء اللاتي يخضعن للعملية القيصرية يرتفع من أربعة إلى عشرة أضعافه لدى النساء اللاتي وضعن أطفالهن بالطريقة الطبيعية، كما أن الندبات الناتجة عن الجراحة تقيد عدد الولادات وفترة الحمل بين كل مولود، وهناك مخاطر أخرى تحدث في أثناء أو بعد هذه العملية مثل النزيف الداخلي والاضطرار لنقل الدم وتمزق الرحم والتصاق الندب وتكون الجلطات.
وهذه المخاطر يمكن تجنبها في حال إن كان الجنين في وضعيته التقليدية داخل الرحم وليس هناك مشاكل بالحبل السري أو المياه المحيطة بالجنين، بالإضافة إلى اتساع عنق الرحم بشكل كاف، لكن على الرغم من عدم وجود الأسباب الطبية للقيام بهذه الجراحة، فإن العادات الاجتماعية حكمت على بعض الدول الاعتماد على هذا الأسلوب بالتوليد إما إيمانًا بالحظ أو تقديسًا للجسد.
فالصين مثلًا إحدى الدول التي شهدت هذه الزيادة الكبيرة في ولاداتها منذ تسعينيات القرن العشرين وانتشرت تدريجيًا من الفئات الأغنى إلى الأفقر، فلقد وصل عددها إلى 26% عام 1993 و63% عام 2002، وتوقف عند 56% عام 2006، وهذا الارتفاع الكبير له علاقة بقانون الطفل الواحد السابق وبالمحددات الاجتماعية.
البرازيل واحدة من أكثر الدول التي تفضل فيها النساء – من الطبقة الغنية خاصة – الولادة القيصرية منذ ستينيات القرن الماضي، على أساس أنها الطريقة المثلى للحفاظ على شكل الجسد والحد من تأثير الولادة الطبيعية على الجهاز التناسلي
فمن بين 18 مليون طفل يولد سنويًا في الصين، هناك أكثر من 9 ملايين يولدون بطريقة قيصرية، ومنهم من يختار هذه الولادة لتحديد ساعة وتاريخ ميلاد الطفل اعتقادًا بإن لكل تاريخ ويوم تأويل بحسب تقويمهم، فمثلًا لا يفضل الصينيون رقم 4 ظنًا بأنه رقم غامض وقد يؤدي للموت، وهذا بالعكس من تاريخ 2 سبتمبر/أيلول الذي يعبر عن الحب والسعادة، لذلك فإن معتقدات الشعوب المتأصلة بعاداتهم تلعب دورًا كبيرًا في زيادة نسب معدلات الولادة القيصرية الانتقائية.
وفي جهة أخرى من العالم، فإن البرازيل واحدة من أكثر الدول التي تفضل فيها النساء – من الطبقة الغنية خاصة – الولادة القيصرية منذ ستينيات القرن الماضي، على أساس أنها الطريقة المثلى للحفاظ على شكل الجسد والحد من تأثير الولادة الطبيعية على الجهاز التناسلي الخارجي الذي قد ينتج عنه ترهلات غير مرغوبة، كما أن ميل النساء الغنيات إلى هذا النوع من الولادات دفع البعض الآخر إلى تقليدهن والإنجاب بنفس الطريقة.
ورغم التكهنات السلبية بشأن مستقبل القيصرية والدراسات التي تؤكد وجود علاقة مباشرة بين عمليات الجراحة القيصرية وحالات وفيات الأطفال بسبب المضاعفات على الجهاز التنفسي، إذ يموت طفل واحد من كل ألف ولادة طبيعية، بينما يموت 2.1 طفل من العمليات القيصرية، فإن الموروثات الاجتماعية والأطماع المادية قد يسببان مجددًا بخسارة الملايين.