غيّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجريات السياسة الأمريكية على نحو غير اعتيادي عدة مرات في السنة التي قضاها في الرئاسة، وفضلًا عن مصافحات الأيدي الغريبة، والعدد القياسي من المتحدثين باسمه، والاستقالات والإقالات في المناصب العليا للإدارة، إلا أن التغيير الأكبر كان في وزارة الخارجية التي كانت في السابق الوجه الأبرز للولايات المتحدة الأمريكية، وبغض النظر عن نتائج خيارات ترامب في هذا الصدد إلا أن تعاطيه مع وزارة الخارجية جدير بالنظر.
لم يعد يخفى عدم اهتمام الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين بالدراسات والأبحاث وآراء المستشارين، ونبذه للقراءة على وجه التحديد، وشعوره بالملل في أثناء الاستماع إلى ملخصات وآراء كبار مسؤوليه مثل محادثاته مع مستشار الأمن القومي الجنرال المخضرم هربرت مكماستر، ويبدو عدم إيلائه للدبلوماسية أهمية كبيرة متسقًا مع كل ذلك.
دعا الرئيس الأمريكي في ميزانيته المقترحة مؤخرًا إلى تخفيض ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية بنسبة تصل إلى 25%، من 53.1 مليار دولار عام 2017 إلى 39.3 مليار دولار، ورغم تصريح وزير الخارجية ريكس تيلرسون بأن الميزانية التي اقترحها الرئيس “تأخذ بعين الاعتبار الاستخدام الفعال لمال دافع الضرائب”، فقد اقترحت الميزانية نفسها زيادة في الإنفاق العسكري، مما يشير إلى أن ترامب يرى أن القوة العسكرية وليس الدبلوماسية السبيل الأنجع لوقف النزاعات وتعزيز مصالح الأمن القومي الأمريكية.
من بين الخاسرين في التخفيض الجديد في ميزانية وزارة الخارجية في حال إقراره، برنامج إغاثي لأفقر الشعوب في العالم بقيمة 1.6 مليار دولار
ومع أن مقترح الميزانية الأمريكية سلوك سياسي معتاد بين الإدارة والمشرّعين الأمريكيين، إلا أنها قد تكون نافذة إلى النظرة العالمية للرئيس ترامب، ويرى روب بيرشنسكي المستشار السابق للسفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة سامانثا باور أن ترجيح الرئيس ترامب للقوة العسكرية على الدبلوماسية هو “محاولة إدارة ترامب التصريح بالفكر الذي تحمله، وهذا أبعد ما يكون عن محاولة للوصول إلى تسوية مع الكونغرس”.
من بين الخاسرين في التخفيض الجديد في ميزانية وزارة الخارجية في حال إقراره برنامج إغاثي لأفقر الشعوب في العالم بقيمة 1.6 مليار دولار، كما يدعو المقترح إلى وقف صرف أي تمويل لمبادرة مكافحة الاحتباس الحراري التي تلقت 160 مليون دولار في عام 2017، ويدعو كذلك إلى تخفيض ميزانية الصندوق الوطني للديمقراطية NED بمقدار الثلثين مما يهدد معظم برامج الصندوق الذي ينشط في عدد من دول الشرق الأوسط، ويستبدل أيضًا 634 مليون دولار لبرامج التبادل الثقافي والتعليم التي تذهب إلى المنح الدراسية للطلاب الأجانب بهدف الترويج للولايات المتحدة وربط الكفاءات حول العالم بها بـ159 مليون دولار.
لم يتبين بعد ما إذا كانت الميزانية ستُقرّ، إلا أنها تمثل تراجعًا للقوة الناعمة الأمريكية التي طالما افتخر الرؤساء الأمريكان ومنّنوا بها على العالم بشعاراتهم الرنانة مثل “ترسيخ الديمقراطية” و”دعم القيم الغربية”، وهذا يمثل خطرًا على الولايات المتحدة نفسها حذر منه وزير الدفاع الأمريكي الحاليّ جيم ماتيس في جلسة استماع عام 2013 أمام لجنة الشؤون العسكرية في مجلس الشيوخ مؤكدًا أن وزارة الخارجية إذا لم تتلق الدعم المطلوب “فإنني سأضطر إلى شراء المزيد من الذخائر” في إشارة إلى أن التمويل إذا لم يذهب إلى الدبلوماسية فإن العسكرة أمر لا بد منه.
ما زالت عدة مناصب دبلوماسية أمريكية عليا شاغرة منذ شهور مثل منصب السفير الأمريكي في كل من السعودية وتركيا وكوريا الجنوبية وهي دول ذات أهمية كبيرة للسياسة الخارجية الأمريكية خاصة في الفترة الراهنة
ولكن ميزانية وزارة الخارجية ليست الانعكاس الوحيد للسياسة الخارجية الجديدة، فقد بدأ ترامب فعلًا – بقصد أو من غير قصد – تطبيق سياسته، ما زالت عدة مناصب دبلوماسية أمريكية عليا شاغرة منذ شهور مثل منصب السفير الأمريكي في كل من السعودية وتركيا وكوريا الجنوبية وهي دول ذات أهمية كبيرة للسياسة الخارجية الأمريكية خاصة في الفترة الراهنة، فضلًا عن التعيينات التي وصفت موضوعيًا بـ”السيئة” مثل السفير الأمريكي في هولندا بيت هوكسترا الذي قال حرفيًا في جلسة رسمية مصورة في عام 2015: “هناك في هولندا سيارات تُحرق، وسياسيون يُحرقون، وأماكن محظورة”، الأسوأ من ذلك أنه أنكر هذا التصريح في حديث للصحافة واصفًا ذلك بالعبارة التقليدية لإدارة ترامب بأنه Fake news (أخبار كاذبة!)، ولدى سؤال ترامب عن سبب وجود تلك الشواغر في وزارة الخارجية أجاب قائلًا: “الشخص المهم هو أنا، أنا الشخص الوحيد المهم”.
وليس الأمر جديدًا في الواقع، فقد ذكرت واشنطن بوست في فبراير 2017 أن الإدارة الجديدة بعد شهر واحد من دخولها البيت الأبيض همشت وزارة الخارجية وأحالت وزير الخارجية تيلرسون إلى دور هامشي، وتحكمت بتعيينات الموظفين وجدولة سياسات الوزارة وترتيب أولوياتها، تمثل ذلك أيضًا في قلة الإنجازات اليومية للخارجية المستمرة منذ خمسينيات القرن الماضي، التي يرقبها العالم بأسره ودأبت الإدارات السابقة على الإشادة بها والافتخار بها كدليل على تحمل الإدارة لمسؤولية موقع الولايات المتحدة في العالم.
في يوليو 2017 أشارت مجلة فورين بوليسي في تحقيق بعنوان “كيف حطمت إدارة ترامب وزارة الخارجية” إلى تعيين العشرات من المسؤولين من خارج الوزارة للقيام بأعمال المكاتب البيروقراطية والدبلوماسيين، الأمر الذي وصفه مخضرمون في السلك الدبلوماسي الأمريكي بأنه “هجمة غير مسبوقة على وزارة الخارجية: حيث يقوم بيتٌ أبيضُ مُعادٍ بتخفيض ميزانية الخارجية وفصل السلك الدبلوماسي عن الرئيس المنفصل (عن الواقع)”، فشلت إدارة ترامب حسب التحقيق بملء عدد من الشواغر في وزارة الخارجية وإعلان سياسات مفككة وحجب موظفي الوزارة عن صنع القرار الخارجي، الأمر الذي يهدد الدور الأمريكي حول العالم حسب عشرات الدبلوماسيين الذين تحدثت إليهم المجلة.