العنوان يتحدث عن العلاقة بين اللغة العربية ومستقبل المسلمين في كندا، لكن في الحقيقة يمكن اعتبار كلمة كندا في العنوان زائدة، وذلك لأن الكلام عن اللغة العربية ومستقبل المسلمين في كندا ينطبق على مستقبل المسلمين في أي مجتمع يعيشون فيه كأقلية وربما ينطبق على مستقبل المسلمين في أي مجتمع سواء كانوا فيه أقلية أم أكثرية.
إن استهتار الكثيرين من العرب بلغتهم أمر يدعو للقلق، فقد وصلت حالة الاستهتار هذه لدرجة أنه أصبح على مشاهدي محطات التلفاز أو مستمعي الإذاعات في العالم العربي، أن يعرفوا عدة لغات ليفهموا ما يسمعونه من برامج “عربية” لأن المذيعين والمشاركين في البرامج يتحدثون لغة هجينة تمزج الكلمات العربية والفرنسية والإنجليزية وغيرها من اللغات بطريقة تسبب الصداع لكل غيور على لغته وثقافته، وأي جولة في أي شارع في أي مدينة عربية تظهر مدى استخفاف العرب بلغتهم لأن العديد من أسماء المحلات إن لم يكن مجملها بلغات أجنبية، حتى إن الكثير من أسماء المحلات التي لا تزال عربية تكتب بالحروف اللاتينية بدل الحروف العربية.
العرب قوم ككل الأقوام، أما اللغة العربية فليست ككل اللغات
ليس الهدف من هذا المقال تحميل المسلمين في كندا أو غير كندا من البلاد التي يعيش فيها المسلمون كأقلية، فوق طاقتهم، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ولا تستطيع أقلية مسلمة في بلاد الغرب أن تنوب عن ملايين العرب الذين يقع على عاتقهم قبل غيرهم مسؤولية الحفاظ على اللغة العربية التي هي ثروة حضارية وحصن لحماية الهوية والمستقبل، ولكن الهدف من هذا المقال إظهار العلاقة العضوية بين الإسلام ولغة القرآن وأهمية تعلم هذه اللغة بالنسبة للمسلمين، من عرب وغير عرب، للحفاظ على هويتهم الدينية في مجتمع غير مسلم.
1- عندما نحث المسلمين من عرب وغير عرب، على تعلم اللغة العربية وتعليمها والحفاظ عليها فإننا لا نفعل ذلك لمجرد أنها لغة العرب وإنما لأنها لغة القرآن، العرب قوم كغيرهم من الأقوام، فيهم الصالح وفيهم الطالح، وفيهم المؤمن وفيهم الكافر، فمن العرب كان محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ومنهم كان عمه أبو لهب الذي أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه سيصلى نارًا ذات لهب، ومن العرب كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومنهم كان خاله أبو جهل الذي أسماه الرسول صلى الله عليه وسلم “فرعون هذه الأمة “.
العرب قوم ككل الأقوام، أما اللغة العربية فليست ككل اللغات، تقول الآية الكريمة ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ سورة الحشر الآية: 7، فكيف يعرف المسلم ما آتاه الرسول ليأخذه وما نهاه عنه لينتهي إذا لم يفهم العربية حق فهمها وهي لغة التنزيل ولغة الحديث الشريف ولغة السنة النبوية المطهرة؟
2- منذ بداية الرسالة عقد الله سبحانه وتعالى بين الإسلام واللغة العربية عروة وثقى لا انفصام لها، ففي القرآن العديد من الآيات التي تؤكد أن القرآن أنزل عربيًا:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ سورة يوسف الآية: 2.
﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ سورة طه الآية: 113.
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ سورة الشعراء الآيات: 193-195.
﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ سورة فصلت الآية: 3.
كل هذه الآيات تؤكد أهمية العلاقة بين اللغة العربية والإسلام، لقد أدرك الاستعمار في القرون الماضية أهمية هذه العلاقة فحارب القرآن واللغة العربية لطمس الهوية والثقافة الإسلامية كخطوة أولى للقضاء على روح المقاومة لدى الشعوب المستعمَرة.
3- اللغة العربية لغة ثرية ودقيقة، المعنى يتغير بتغير حرف أو حتى علامة تشكيل فالمستعمِر مثلاً غير المستعمَر وهكذا إذا استبدلت الضمة بالفتحة مثلاً ينقلب الفاعل مفعولاً به وينقلب المعنى رأسًا على عقب، لنأخذ هذا المثل من كتاب الله، في سورة فاطر الآية 28 يقول الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، إذا استبدل أحدهم الفتحة بالضمة وقرأ الآية في صلاته على النحو التالي ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ﴾ بطلت صلاته لأن الله لا يخشى أحدًا، لا عالمًا ولا جاهلاً، فالله هو العلي القدير.
الحث على تعلم اللغة العربية وتعليمها والحفاظ عليها لا يعني الانتقاص من اللغات الأخرى
ومن الطرائف التي تروى في هذا المجال أن أعرابيًا قدم المدينة المنوّرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني شيئًا ممّا أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلّم؟ فأقرأه رجل من سورة (التوبة):
﴿وٓأَذانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾سورة التوبة الآية: 3، ولكنه قرأها بجرّ رسوله، فقال الأعرابي: أوَ قد برئ الله من رَسُولِه؟ إن يكن الله تعالى برئ من رَسُولِه فأنا أبرأ منه أيضًا، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه، فقال: يا أعرابيّ، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني؟ فأقرأني سورة التوبة، فقال إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه، فقلت: أوَ قد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برِئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابيّ، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه، فقال: وأنا والله أبرأ ممّن برئ الله منهم ورسولُه، فأمر عمر رضي الله عنه ألّا يُقرِئ القرآن إلّا عالمٌ باللغة.
وسمع أعرابي إماما يقرأ ﴿ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا﴾ سورة البقرة : 221، فقرأ هذا الإمام لا تَنكحوا الْمُشْرِكِينَ بفتح التاء، فقال سبحان الله هذا كان قبل الإسلام قبيحًا فكيف بعده! فقيل له إنه لحـن وإنما القراءة: “ولا تُـنكحوا” بالضــم، فقال: قبحه الله لا تجعلوه بعدها إمامًا فإنه يحـل ما حَرَّم الله.
4- عندما قضى عبد الملك بن مروان على الخارجي شبيب الحارثي حملوا إليه، أي إلى عبد الملك بن مروان، أحد شعراء الخوراج فقال له عبد الملك: “ألست القائل: ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ” وهذه تهمة تودي بصاحبها إلى القتل، فأجاب الشاعر: “لا يا أمير المؤمنين، أنا قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ” فأعجب عبد الملك بجوابه وأطلق سراحه، وهكذا بمجرد استبدال الضمة بالفتحة غيَّر هذا الشاعر المعنى فأصبحت كلمة أمير منادى بعد أن كانت في الأصل مبتدأٓ، أي أنه أجاب عبد الملك أنه لم يقل أن شبيبًا أميرُ المؤمنين وإنما كان يخبر أمير المؤمنين عبد الملك أن شبيبًا من قبيلته وهكذا أسقط التهمة وخلص نفسه من القتل.
إن تعلم العربية ليس بديلاً لتعلم الفرنسية أو الإنحليزية وتعلم هاتين اللغتين ليس بديلاً لتعلم العربية، وهنا يكمن التحدي، إذ إن الواقع يفرض على المسلم المقيم في هذه البلاد تعلم عدة لغات
5- في اللغة العربية يتغير المعنى إذا تغير لفظ حرف واحد كأن تلفظ القاف كافًا، فمثلاً إذا قرأ قارئ في سورة الشعراء: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ مستبدلاً القاف كافًا في كلمة قلب تصبح الآيات: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِكَلبٍ سَلِيمٍ (89)﴾، طبعًا الصورة مضحكة إذا تصورنا أن يأتي المرء يوم القيامة وهو يجر كلبًا سليمًا، ولكن هذا ما نسمعه في أحيان كثيرة عندما يقرأ القرآن من لا تكون العربية لغته الأم ولا يستطيع إعطاء كل حرف حقه ومستحقه.
6- الحث على تعلم اللغة العربية وتعليمها والحفاظ عليها لا يعني الانتقاص من اللغات الأخرى، فالمسلم غير العربي له كامل الحق بالحفاظ على لغته الوطنية والاعتزاز بها إذا شاء ذلك، لأن الاسلام لم يمنع الناس من الانتماء إلى أوطانهم أو قبائلهم وإنما أمرهم بالتعاون والتعارف وقال إن أكرمهم عند الله اتقاهم:
﴿يٓا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ سورة الحجرات: 13
لم يمنع الرسول عليه الصلاة والسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه من الاحتفاظ بثقافته الفارسية، بل على العكس استفاد الرسول عليه السلام من هذه الثقافة عندما اتبع مشورة سلمان وحفر الخندق في غزوة الأحزاب، لقد احتفظ سلمان بثقافته الفارسية وأغناها بثقافته العربية وصهرهما في هويته الإسلامية التي كانت أسمى مظاهرها عندما ضمه الرسول لأهل بيته بقوله “سلمان منا أهل البيت”، وهكذا إذا أراد المسلم الكردي أو التركي أو الأمازيغي أو غيرهم من المسلمين الحفاظ على لغاتهم الوطنية فلهم ذلك، فاللغة العربية ليست بديلاً عن اللغات الوطنية الأخرى فهي ليست لغة ككل اللغات، إنها لغة القرآن.
7- على المسلم في كندا وغيرها من البلدان أن يتعلم لغة المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه ليستطيع التعارف والتعاون مع الآخرين من أبناء المجتمع، هذا يعني أنه لا مناص للكندي المسلم من تعلم الإنجليزية إذا كان خارج كيبيك والفرنسية في كيبيك.
جهل اللغة العربية أشد خطرًا على الأجيال القادمة من أبناء الأقليات المسلمة، خاصة الأبناء الذين ولدوا خارج العالم العربي، سيواجه هؤلاء الأبناء صعوبة في الحفاظ على دينهم إذا فقدوا اللغة العربية
إن تعلم العربية ليس بديلاً لتعلم الفرنسية أو الإنحليزية وتعلم هاتين اللغتين ليس بديلاً لتعلم العربية، وهنا يكمن التحدي، إذ إن الواقع يفرض على المسلم المقيم في هذه البلاد تعلم عدة لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية، وإذا كان مسلمًا غير عربي يضاف إلى هذه اللغات لغته أو لغاته الوطنية، طبعًا الأمر ليس سهلاً ولكن هذا قدر المسلمين ومصيرهم إذا أرادوا أن يفوزوا في الحياة الدنيا والآخرة.
8- جهل اللغة العربية أشد خطرًا على الأجيال القادمة من أبناء الأقليات المسلمة، خاصة الأبناء الذين ولدوا خارج العالم العربي، سيواجه هؤلاء الأبناء صعوبة في الحفاظ على دينهم إذا فقدوا اللغة العربية، وعلى الآباء أن يسألوا أنفسهم إن كانوا يريدون لأبنائهم وأبناء أبنائهم أن يكونوا مسلمين أم أن يصبحوا أشخاصًا من أصول إسلامية.
هذا هو التحدي الخطير الذي يواجهه كل ولي أمر مسلم في أي مجتمع غير مسلم، إن تجربة المهاجرين المسلمين الأوائل إلى أمريكا اللاتينية تشكل عبرة لمن يريد أن يعتبر، فعندما وفد المسلمون إلى أمريكا اللاتينية في القرن الماضي أتوا بالبواخر ولم يكن هنالك وسائل الاتصال التي نعرفها هذه الأيام فانقطعت صلتهم بأوطانهم الأصلية وبثقافتهم، وهكذا لم يستطيعوا أن ينقلوا دينهم وثقافتهم إلى أبنائهم؛ فاندمجت ذريتهم في المجتمعات التي وفدوا إليها وذابت هذه الذرية في هذه المجتمعات.
فنرى الآن الكثيرين من ذوي الأسماء اللاتينية من مثيل بيدرو ورودريغو وخورخي وخيسوس بينما أسماء أجدادهم عربية، وإذا سألت أحد هؤلاء الناس عن أصله أو ديانة جده يخبرك أنه عندما كان طفلاً كان يرى جده يقوم بحركات لا يفهمها، وهي الصلاة، وقد يريك بعض ما ترك جده من مقتنيات فتجد سبحة أو سجادة صلاة أو غير ذلك من آثار إسلامية.
إذا لم يتعلم المسلمون في كندا أو غيرها من بلاد الغرب، من تجربة المسلمين في أمريكا اللاتينية سيخسرون ذريتهم ولن يبقى أبناؤهم مسلمين وإنما سيصبحون من أصول إسلامية؛ لذلك لا بد من تحمل المسؤولية وتضافر الجهود والتعاون بين الجميع، أفراد ومؤسسات، للحفاظ على اللغة العربية والهوية الإسلامية في هذه البلاد.