المدرسة التونسية تستصرخ الإصلاح

ظهرت نتائج الدورة الأولى من امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) في تونس، وكانت النتائج في مجملها طيبة إذ قاربت الـ50%، وستكون في دائرة الـ60% بعد دورة التدارك. نتائج متقاربة مع معدلات السنوات الفارطة أي أنها بلا مفاجآت من حيث الكم. توزعت الأفراح والأحزان بين أسر كثيرة وسيدخل الناجحون معركة التوجيه الجامعي لاختيار المرغوب من بين الممكنات وهذه معركة قاسية تجعل التوريث الاجتماعي للمهن قانونًا أقوى من كل قوانين الفيزياء.

والتوريث الاجتماعي يتضح أكثر عندما ننظر في توزيع نسب النجاح بين المناطق حيث وكالعادة أو بلا مفاجآت كانت النتائج المرتفعة في الولايات الساحلية من الجنوب إلى الشمال، بينما انخفضت إلى حد التردي في ولايات الشمال صعودًا من توزر إلى جندوبة (وهي الخط الملاصق لحدود الجزائر). سننظر فيما نراه أسباب هذه الفوارق التي هي نتيجة فوارق وستكرس فوارق أخرى تجعل من تونس مقسومة بين مورثي الغنى والنجاح ومورثي الفقر.

الثانوية العامة تذكر بالشرخ الاجتماعي الجهوي

تونس مقسومة طوليًا بين جهتين: الخط الساحلي متطور نسبيًا ويوفر فرص عمل وحياة ودراسة للأغلبية من السكان وهو منطقة جاذبة للسكان بما يؤدي دومًا إلى اشتداد الانخرام الديموغرافي، يقابله الخط الشمالي (من الساحل إلى الصحراء) ويعتبر المنطقة الأغنى طبيعيًا ومنجميًا، لكنه منطقة خالية من الفرص وطاردة للسكان. 

هذه الفوارق موروثة منذ زمن قديم وقد كرستها دولة الاستقلال من خلال نمط تنمية غير متوازن، وعمقته انحرافات سياسية بعضها جهوي عصبي ما قبل الدولة الحديثة، وقد كان كل سياسي مر بتونس يعرف هذه الحقيقة الموضوعية ويعد بعلاج الفوارق وترميم البنيان، لكن الجميع فشل في ذلك. لقد صارت الثانوية العامة موعدًا سنويًا للتذكير بأن تونس مقسومة طوليًا. يتذكر الجميع الفوارق بالمناسبة والبعض يتأسف له لكن لم يجر علاج الأمر بعد. 

لقد تفطنت الثورة إلى عمق الفوارق وفرض دستور 2014 مبدأ الميز الإيجابي بتعديل الإنفاق العام بين المناطق، لكن ماكينة الأمر الواقع غلبت طموحات الثورة فصار دستور 2014 ومبادؤه التعديلية أمنية مستحيلة.

يلح البعض على أن ساكنة الشمال كسالى ويحتقرون العمل وبالتالي فإن الفقر لم يظلمهم، وهذا تبرير عنصري تعميمي وكسول ولا يقوم عليه دليل موضوعي، فالشمال غني بثرواته لكن نمط التنمية غير المتوازن فرض الفارق وكرسه وهو يضاعفه باستمرار، إذ يتحول الساحل إلى قاطرة، بينما يتحول الشمال إلى مقطورات ويسود الآن بين ساكنة الشمال أن النزوح إلى الشريط الساحلي بشكل فردي كفيل بتخفيف الإقصاء الاجتماعي، فالألقاب العائلية للناجحين في منطقة الساحل تكشف أن النازحين تتحسن فرصهم بالنزوح.

التوريث الاجتماعي يعمق الإقصاء

قانون التوريث الاجتماعي كما حلله لنا بيار بورديو في عمله الأشهر “الورثة” يشتغل في تونس بكفاءة (نختصره في جملة ابن الطبيب يكون طبيبًا وابن عامل البناء يرث مهنة والده). يشتغل القانون بصرامة، فقد صار هناك توريث مهن في تونس، فالمداخيل المحترمة لطبيب أو صيدلي تسمح له بدعم دراسة وريثه بالدرس الخاص حيث يتوافر أيضًا كادر تعليمي أفضل ممن يقبل العمل في مناطق الشمال.

وإذ يتوافر المدرس الجيد وتتوافر التمويلات الخاصة، فإن فرصة التعليم تتحسن فتكون النتيجة جيدة وتنتهي بمزيد من التوريث، وعلى سبيل المثال فإن مهنة الصيدلة (وهي مبينة على تكوين علمي متين) تنتقل في غالب الحالات من الآباء إلى الأبناء والقلة من غيرهم ممن يتخرج بشهادة دكتوراه في الصيدلة لا يمكنها فتح صيدلية في خريطة تقاسمها الصيادلة الكبار أي المورثون. ويجري الأمر نفسه على الطب والطب المتخصص وطب العيون وصانعي النظارات فقد صارت مهنًا تورث، ولا نتوافر على رقم للدعم لكن أسماء الأطباء والصيادلة تكفي لمن يرغب في التدقيق.

إن نجاح شاب أو شابة من الشمال بمعدل يؤهله لتعليم الطب أمر نادر أقرب إلى المعجزة وعليه أن يبذل جهدًا مضاعفًا ليفوز بفرصة مع طالب ولد بجوار كلية الطب وتعد له أمه عشاءه ويقرأ من مكتبة والديه مراجع الطب المكلفة.

القانون التونسي عادل على الورق وليس هناك تنصيص على أي مزية لجهة على أخرى، لكن خريطة توزيع الكليات والجامعات المتخصصة منذ الاستقلال تكشف ميزًا قاسيًا تحول مع الوقت إلى سبب للمزيد من الإقصاء والفصل بين المناطق، والمتخرج من الكليات (السامية) يرفض لاحقًا العمل (الخاص أو العام) بالجهات المفقرة وعلى مريض هذه الجهات أن يسافر إلى الطبيب لا العكس.

يفاقم هذا الأمر ثقافة عنصرية تفشت بين الجهات والقطاعات تنتج الوصم الاجتماعي التحقيري بما يوسع الشرخ بين بلدين في خريطة واحدة (مناطق لإنتاج الأطباء وأخرى لإنتاج الخادمات أو في أفضل الحالات سكرتيرات الأطباء)، وتعجز المدرسة عن علاجه.

المدرسة التونسية تستصرخ الإصلاح

ما نتائج الثانوية العامة إلا مؤشرًا من ضمن مؤشرات كثيرة تنبئ عن وصول المدرسة التونسية لنهاية عهد النجاحات السعيدة وهي تستصرخ من يصلح التعليم برمته ضمن إصلاح اجتماعي شامل، لقد بلغ المجتمع مرحلة السعادة بتصدير نخبة الناجحين إلى الجامعات الأجنبية حيث يستكملون دراسات عليا ثم تسرقهم مجتمعات الغرب برواتب عالية فلا يعودون ويفتقر البلد في كل سنة إلى نخبته من الأطباء والمهندسين وحتى الممرضين (وهذا موضوع آخر يحتاج نصوصًا كثيرة). مصعد اجتماعي نعم لكنه يوفر نخبته لمجتمعات أخرى فيترقى الأفراد ويفقر المجتمع، فيضاف ذلك إلى انقساماته الداخلية ويؤذن أمره بزوال.

في الأثناء نتابع أخبار السياسة ونسمع خطابات المتقدمين لمنصب الرئاسة في أجواء غير ديمقراطية، لكن ما يهم في هذه اللحظة أن إصلاح المدرسة التونسية يأتي جملة عارضة في برامجهم، فكأنهم غير معنيين به.

ثمة عناصر فخر كثيرة في تاريخ المدرسة التونسية، لكن الوقوف عند هذه الجملة الراضية عن نفسها صار عائقًا في طريق إصلاح المدرسة وقد وجب النظر إلى حقيقة عارية، لقد توقفت المدرسة التونسية عن إنتاج العدالة الاجتماعية وبناء اللحمة الوطنية وهي في لحظتها سبيل لخلاص فردي وتوشك شهادتها أن تتحول إلى مجرد وثيقة للحصول على فيزا هروب، أما الواقعون من غربال الثانوية العامة فمصيرهم زوارق الموت إلى شمال المتوسط.

فاتني أن أذكر أن إصلاح التعليم كان شعارًا من أهم شعارات الثورة ومطالبها الحيوية، وقد حصلت الردة عنه إلى انقلاب يظن بالناس سوءًا حتى وهم صامتون.