نتداول في حياتنا اليومية الكثير من الأحاديث التي تتعلّق بالشخصية، كأنْ نقول “فلان ذو شخصية جميلة” أو “شخصيته ملائمة لهذا المنصب”، أو أنْ نصفها سلبًا حتى، إلّا أنّ علماء النفس ونظرياته المتنوعة والمتعددة لا تتفق على تعريف واحد فيما يتعلّق بها، أو ما يشكّلها، وكيفية تكوّنها وحيثيات تغيّرها.
وفي حين يميل بعضهم إلى الافتراض بأنّ العوامل الخارجية هي ما يصنع الشخصية ويؤثر عليها بطرقٍ معينة، يفترض آخرون أنّها تنشأ داخل الفرد نفسه، أيْ أنّ ذاته هي مصنع شخصيته. ومن جانبٍ آخر فثمة مَن يفترض ثباتها واتّساقها طوال الحياة، وعلى العكس من ذلك، هناك من يميل للنظر إليها بكونها تتغير، أو بعض جوانبها، بنموّ الفرد ومروره بالمراحل العمرية المختلفة.
شخصية الفرد هي جزء منظّم ومتناغم من ذاته، ونحن نميل إلى التعبير عن جوانب معينة من شخصيتنا في حالات مختلفة، واستجاباتنا تكون مستقرة عمومًا، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّها لا تتأثر بالبيئة أو العوامل الخارجية المحيطة بها.
توصف الشخصية بشكلٍ عام على أنها مجموعة من الأنماط المميزة من الأفكار والمشاعر والسلوكيات التي تجعل الشخص فريدًا متميّزًا عن غيره، ولهذا قد يكون من المناسب لو قلنا في كلماتٍ أخرى بأنّها هي ما تصنع الفرد أو تخلقه، أي أنها هي ما يجعلكَ أنتَ وليس أحدًا سواك.
ولأنّ الشخصية تلعب دورًا هامًّا في السلوك البشري، فقد خُصّص لها فرع كامل في علم النفس يُعرف بعلم نفس الشخصية، يدرس خصائصها الفريدة لكلّ فرد، فضلًا عن أوجه التشابه بين الأفراد والمجموعات.
ومن أجل فهم “علم نفس الشخصية” بشكلٍ أدقّ، علينا أولًا الحديث عن بعض الخصائص الرئيسية للشخصية وطريقة عملها. أوّلها أنّ شخصية الفرد هي جزء منظّم ومتناغم من ذاته، ونحن نميل إلى التعبير عن جوانب معينة من شخصيتنا في حالات مختلفة، واستجاباتنا تكون مستقرة عمومًا، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّها لا تتأثر بالبيئة أو العوامل الخارجية المحيطة بها، فعلى سبيل المثال قد تتصف شخصيتك بأنّك خجولٌ في المواقف الاجتماعية، إلّا أنّ حالة طوارئٍ ما قد تقودك إلى الانحياز لنهجٍ أكثر انفعالًا وصراحةً.
إضافةً لذلك، تؤدي الشخصية للسلوك أو التصرّف وتحفّزه أنْ يحدث، فأنتَ تتفاعل مع الأشخاص من حولك بحسب جوانب شخصيتك، وتختار مهنتك في الحياة بناءً على تفضيلات شخصيّتك، وتستمع للأغاني أو الموسيقى التي تفضّلها بناءً على ما تتميّز به شخصيتك، إذن فكلّ جانبٍ من جوانب حياتك يتأثر بشخصيتك.
تتعدّد النظريات المتعلقة بالشخصية، فتشير النظرية البيولوجية إلى أنّ الوراثة والجينات مسؤولة عن الشخصية، ففي النقاش الكلاسيكي المعروف بالطبيعة مقابل التنشئة، أو الطبيعة ضدّ التنشئة، تميل النظريات البيولوجية للاعتقاد بأنّ شخصية الفرد تتشأ بفعل الطبيعة، أيْ بفعل جيناته، ولا علاقة للعوامل البيئية والخارجية بها.
إذ تشير العديد من الأبحاث الوراثية إلى وجود صلة كبيرة بين الوراثة وسمات الشخصية، وغالبًا ما تتمّ دراسة التوائم المتشابهين وغير المتشابهين، للتحقيق في كيفية تأثير الجينات بالشخصية مقابل تأثير المتغيرات البيئية، فعلى سبيل يدرس الباحثون التشابه والاختلافات في سمات شخصية التوائم التي نشأت معًا مقابل أولئك الذين نشؤوا بعيدًا عن بعضهم.
يُعدّ عالم النفس الألماني “الخ” من أشهر المنظّرين البيولوجيين المعروفين، إذ بدأ دراسة أثر الوراثة في الشخصية من خلال دراسة التشابه والاختلاف في صفة “العصابية” أو ” neuroticism” عند التوائم المتماثلة وغير المتماثلة، واستنتج أنّ للجينات أثر كبير في وراثة تلك الصفة أو السمة عند الأفراد.
تشير النظريات السلوكية إلى أنّ الشخصية هي نتاجٌ للتفاعل بين الفرد وبيئته
وعلى جانبٍ آخر، فتشير النظريات السلوكية إلى أنّ الشخصية هي نتاجٌ للتفاعل بين الفرد وبيئته، ويركّز السلوكيّون، مثل ب. ف. سكينر وجون ب. واتسون، على دراسة السلوكيات والتصرفات الواضحة والظاهرة، أي تلك التي تكون قابلة للملاحظة والقياس، وبالتالي فلا يأخذون المشاعر والأفكار والأحداث الداخلية بعين الاعتبار، ولا يعيرونها أية أهمية في تأثيرها على شخصية الفرد.
أمّا نظريات الدينميكا النفسية فتركّز على دور اللاوعي وتجارب الطفولة الأولية في تشكيل شخصية الفرد وتطوّر جوانبها وسماتها. وتعدّ نظرية سيغموند فرويد الجنسية النفسية ونظرية إريك إريكسون في التطور النفسي الاجتماعي ونظرية كارل يونغ من أهم نظريات الدينميكا النفسية المعروفة.
اقترح فرويد أن للشخصية هيكل معين يساهم في بنائها عوامل ثلاثة هي اللاوعي والوعي والأنا العليا. حيث يشكل اللاوعي الهوية والأساس البيولوجي للشخصية، بينما يشكّل الوعي، الذي يتكون خلال السنة الأولى من عمر الطفل، الأساس النفسي للشخصية. أمّا الأنا العليا والتي تتكون خلال السنة الثالثة وحتى الخامسة من عمر الطفل، فتشكّل الأساس الاجتماعي والأخلاقي للشخصية.
ووفقًا لفرويد أيضًا فإنّ النمو النفسي لدى الطفل يجري من خلال مراحل ثابتة سمّاها بالمرحل النفسية-الجنسية، ترتكز فيها الغرائز الجنسية في منطقة مختلفة من الجسم في كل مرحلة. ومن خلال نمو الإنسان جسديًا، ستصبح مناطق معينة من جسمه مصدرًا للإحباط، وبالتالي للشهوة الجنسية، أو المتعة، أو كليهما.
تتكون نظرية فرويد من أربع مراحل نفسية-جنسية وهي: فموي، شرجي، وذري، وتناسلي. يضاف إليها مرحلة الكمون في فترة الطفولة. وعلى أساسها تفترض النظرية أن أي مشكلة في الانتقال الصحيح من مرحلة إلى أخرى يحفر أثره عميقًا في شخصية الفرد البالغ. أما اريكسون فقد اعتقد أيضًا أن الشخصية تتقدّم من خلال سلسلة من المراحل التي تتميز ببعض الصراعات الناشئة في كل مرحلة، وعبور أي مرحلة يعتمد على التغلب على هذه الصراعات دون أي أثر نفسيّ سلبيّ.
ركّزت النظريات الإنسانية على أهمية الإرادة الحرة والخبرة الفردية في تنمية الشخصية، إضافةً لمفهوم تحقيق الذات، وهو حاجة فطرية للنمو الشخصي الذي يحفز سلوك الإنسان.
وقد تأثر كارل يونغ بمعلّمه فرويد لكنّه جاء بفرضية أكثر شمولًا فيما يتعلق بالشخصية، إذ اعتقد أنّ هناك أنماط شاملة للشخصية يمكن تصنيفها إلى متغيرات ثنائية التفرع، فإمّا أن يكون الفرد منطويًا ” Introvert” أو منفتحًا ” Extrovert“. ولا تزال فكرته سائدة لغاية اليوم إذ يعتقد الكثير من العلماء أنّ الانطواء والانفتاح هما نمطين مميّزين للشخصية يميّزان بين الأفراد.
ونظرًا لأنّ كلًّا من فرويد وإريكسون ركّزا على السلوك المرضي متجاهلين دراسة ما يسمى بالسلوك الطبيعي، إضافةً لتركيز فرويد على العامل الجنسي فقط متناسيًا العوامل الأخرى التي تساهم في بناء نفسية الفرد، جاءت النظريات الإنسانية التي ركّزت على أهمية الإرادة الحرة والخبرة الفردية في تنمية الشخصية. كما ركز الإنسانيون على مفهوم تحقيق الذات، وهو حاجة فطرية للنمو الشخصي الذي يحفز سلوك الإنسان. ويعدّ كٌّل من كارل روجرز وأبراهام ماسلو ومن أهمّ المنظرين الإنسانيين.
افترض ماسلو أن شخصية الفرد محكومة بمجموعة من الاحتياجات التي يسعى كلّ إنسانٍ لإشباعها. وقد نظم هذه الاحتياجات في تسلسل هرمي، إذ يتطلّب إشباع أيّ مستوى قبل الانتقال للمستوى الأعلى منه. وهذه المستويات هي كالآتي: الاحتياجات الفسيولوجية مثل الغذاء والماء والدفء والراحة، واحتياجات السلامة مثل الأمن، والحاجة للانتماء والحب من خلال العلاقات الحميمة، والأصدقاء، والحاجة لاحترام الآخرين وتقديرهم، وأخيرًا في أعلى التسلسل الهرميّ فهناك احتياجات تحقيق الذات.
اعتقد ماسلو أن جميع البشر يهدفون إلى تلبية هذه الاحتياجات بدءًا من الأساسية منها إلى الأكثر تعالي حيث هناك تحقيق الذات وتأكيدها على الصعيدين النفسيّ والاجتماعيّ، وبناءً على ذلك فإنّ تلك الحاجة والدوافع لها تؤدي إلى عدة سلوكيات وتصرّفات التي تؤدي بدورها إلى تشكّل شخصية كلّ فرد.
قد يكون الهيكل الأكثر انتشارًا لفهم الشخصية حديثًا هو ما يعرف بمصطلح “الخمسة الكبار” أو “عناصر الشخصية الخمسة”، وهي ما يُعتقد أنّها الأبعاد التي تكوّن شخصيّة الإنسان على المستوى البَديهي. وقد وضعت هذه النظرية أساسًا على يد غورىون ألبورت، أحد أشهر علماء النفس الذين درسوا شخصية الإنسان.
يصنّف مقترح الخمسة الكبار الشخصية إلى خمسة أبعاد هي: الانفتاح والضمير والاجتماع والتوافق والاضطراب
باختصار شديد، فتصنّف تلك العناصر الخمسة إلى الانفتاح والذي يقيس درجة فضول الشخص ورغبته للاكتشاف واستعداده لسماع الجديد والغريب. والضّمير أو الوعي، والذي يتعلّق بالتنظيم وترتيب الأهميّات ودرجة الحذر وضبط النفس. والاجتماع أو التّخَالط، أي مخالطة المرء لغيره ودرجة اندماجه في المجتمع وما يحيطه. والتّوافق أو الثّقه بالآخرين ودرجة مساعدة المرء لغيره واللَطافَة وحسن المعاملة. وأخيرًا هناك الاضطراب أو القلق، وهو العنصر الذي يتعلّق بدرجة كآبة النفس والقلق وقابلية الفرد للتعرّض للمشاعر السلبية وتأثره بها.
وبالمحصلة، ونظرًا لأنّ الشخصية هي ما تجعل الفرد كما هو عليه عوضًا عن أنها تؤثر على سلوكياته وطرق تعامله مع نفسه ومع من يحيطون به والجوانب الشتى من حياته اليومية، كان لا بدّ أن يزخر علم النفس بالنظريات التي حاولت دراستها وفهمها، على الرغم من اختلاف تلك النظريات وتنافرها، إلا أنّ الكثير من الأسئلة ما زالت تُطرح في هذا المجال، والتي قد تؤدي لاستكشاف المزيد في المستقبل.