جاءت استقالة رئيس وزراء إثيوبيا هيلاميريام ديسيلين، مفاجئة للكثيرين، واعتبرها البعض خطوة شجاعة وبناءة في تعزيز بناء الديمقراطية في إثيوبيا، حيث أسست استقالته لممارسة سياسية غير معهودة في تاريخ هذا البلد كغيره من دول إفريقيا والعالم الثالث، ورآها آخرون تكتيكًا لامتصاص غضب الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ ثلاث سنوات، وكان آخرها الإضراب الذي شل الحركة التجارية وحركة المواصلات في فبراير الحاليّ.
على المستوى السياسي تأتي الاستقالة ضمن برنامج الإصلاح الذي وعد به التحالف الحاكم استجابة لمطالب الإصلاح من داخل التحالف وخارجه، فما الجذور التاريخية للأزمة السياسية التي تواجهها إثيوبيا؟ وما الخلفيات التي أسقطت رأس هرم السلطة؟
ديسيلين.. مرشح الضرورة
ديسيلين ذو خلفية أكاديمية، ورئيس حركة شعوب جنوب إثيوبيا الديمقراطية ((SEPDM، الحزب الحاكم في الجنوب، وخدم رئيسًا لولاية الجنوب، ووزيرًا للخارجية ثم نائبًا لرئيس الوزراء الراحل “ملس”.
عرقيًا ينتمي ديسيلين لأقلية “ولايتا” وهي مجموعة أقلية عرقية، يبلغ تعدادها 1.7 مليون نسمة، ضمن شعوب وقوميات الجنوب الإثيوبي، ورغم افتقاره للصفات القيادية، عيّنه ملس نائبًا له ضمن برنامج إحلال القيادات، في اتساق كامل مع نظرية تمكين الأقليات وتصعيد الطيعين.
إجرائيًا تم الاتفاق على أن جميع قرارات رئاسة الوزراء لا تصدر إلا بعد الإحالة من نوابه الثلاث، وبهذا تحول ديسيلين إلى “أسد دون أنياب” ، كما يقول المثل الإثيوبي
مع تغييب القدر ملس عن مسرح الأحداث عام 2012، بدا الفراغ القيادي لدى التحالف الحاكم جليًا، واتضح عدم وجود شخصية تمسك بجميع خيوط اللعبة السياسية، حينها وافقت جبهة تحرير تغراي المتنفذة على تصعيد ديسيلين لافتقاره إلى قاعدة إثنية تمكنه من الاستقلال بالرأي، وإمكانية احتوائه بزخم الإرث القيادي لمس الراحل، ورأى فيه الأوروميون والأمهريون مناسبًا لتفويت الفرصة على التغراويين لئلا يرشحوا من بينهم بديلاً؛ وعليه كان ديسيلين وما زال حتى أيام خلت، مرشح الضرورة ولم يكن رجل المرحلة.
ولاستكمال حلقة احتوائه، وبحجة تعويض الفراغ القيادي الذي مثله غياب ملس؛ لجأ التحالف إلى تبني نظرية “القيادة الجماعية”، هيكليًا، فتم استحداث منصبين لنيابة رئيس الوزراء، فأصبح لديسيلين ثلاثة نواب، نائبًا تغراويًا للشؤون الأمنية والاقتصادية، وأمهريًا للشؤن الاجتماعية، وأوروميًا لشؤون رئاسة الوزراء.
إجرائيًا تم الاتفاق على أن جميع قرارات رئاسة الوزراء لا تصدر إلا بعد الإحالة من نوابه الثلاث، وبهذا تحول ديسيلين إلى “أسد دون أنياب”، كما يقول المثل الإثيوبي، إذ انتزعت منه جميع صلاحياته الدستورية، مما أدى إلى تعدد وتوزع سلبي لمراكز السلطة بين أجهزة الدولة والحزب.
الأوروميون والجذور التاريخية للأزمة
التيار الأساسي في هذه الأزمة هم الأوروميون الذين يمثلون 36% حسب إحصائية 2007، وتعود جذور الأزمة إلى تركيبة التحالف الحاكم والنظام السياسي الحاليّ الذي اعتمد الفيدرالية الإثنية.
مع بدايات العهد الحاليّ تمكنت جبهة التغراوية ((TPLF من استبعاد الحركات التحررية القومية ذات النهج السيادي خصوصًا جبهة تحرير أورومو (OLF) ذات القاعدة الشعبية العريضة آنذاك، وعميد حركات التحرر الأورومية من المشهد السياسي بوصمها بالإرهاب
وصل تحالف جبهة شعوب إثيوبيا الديمقراطية الثورية (EPRDF) للسلطة عام 1991، بقيادة رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي، ويتكون من أربعة أحزاب إثنية هي:
-
جبهة تحرير شعب تغراي ((TPLF، ممثل قومية تغراي القاطنة في الشمال على الحدود مع إريتريا والسودان التي تمثل 6% من السكان، وهي الحزب المتنفذ في التحالف.
-
حركة أمهرة الوطنية الديمقراطية (ANDM)، ممثل قومية الأمهرا التي تنتمي إليها وإلى ثقافتها النخبة السياسية التي بنت إثيوبيا الحديثة.
-
حركة شعوب جنوب إثيوبيا الديمقراطية (SEPDM)، ممثل القوميات الجنوبية التي يزيد عددها ولغاتها على 45 قومية.
-
منظمة شعب أورومو الديمقراطية (OPDO) ممثل الأوروميين، أكبر القوميات سكانًا ومساحة، ورأس الحربة في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد.
مع بدايات العهد الحاليّ تمكنت جبهة التغراوية ((TPLF من استبعاد الحركات التحررية القومية ذات النهج السيادي خصوصًا جبهة تحرير أورومو (OLF) ذات القاعدة الشعبية العريضة آنذاك، وعميد حركات التحرر الأورومية من المشهد السياسي بوصمها بالإرهاب، واستبدالها بكيان هجين (OPDO) مكون من الضباط والجنود الأورومين الذين تم أسرهم خلال الحرب مع جيش النظام الشيوعي، ليمثل الأوروميين سياسيًا ضمن النظام الإثني الجديد، وفي إطار العملية السياسية التي تقودها وتسيطر عليها ((TPLF التي تساندها القوى الدولية المتنفذة في المنطقة.
رغم مرارة الأمر أدركت النخبة الأورومية الموقف وقررت الدخول في العملية السياسية، شعبيًا لم يتمكن الحزب الأورومي في التحالف من كسب أي شعبية، لأنه لم يكن، حسب الآراء الشعبية، إلا مجرد واجهة لحكم الأقلية، ولكن ومع تلاشي بدائل عملية، لجأ الناس إلى التماهي مع الحزب والالتفاف حوله لمحاولة تصحيح مساره وقلب المعادلة السياسية حتى وصلت عضويته 4 ملايين عضو.
حسب الدستور الإثيوبي، فإضافة إلى الولايات القومية التسعة، هناك منطقتان تحت الإدراة الاتحادية: العاصمة أديس أبابا ومدينة دري دوا في الشرق
مع الوقت تعزز موقف قيادات الجيل الثاني الذي انضم للحزب في مرحلة الدولة، الذي لم يرض بالميزان السياسي المختل لصالح الأقلية التغراوية.
منح غياب ملس عن المشهد السياسي، للقيادات الأورومية الشابة فرصة التعامل مع القيادات التغراوية المتنفذة بالند، ومطالبتها باحترام القواعد الدستورية والتخلي عن الأنظمة والاعتبارات الخاصة.
والآن وبعد مرور 5 سنوات على رحيل الزعيم، وخسارة التحالف دعم المسلمين ككتلة اجتماعية كبيرة ومنتشرة في كل القوميات، بسبب ما يعرف محليًا بـ”أزمة الأحباش”، ومع انتشار شبكة الإنترنت التي كانت مقتصرة على الجيل الثاني عام 2011، ووصول تجربة الربيع العربي بكل مآلالتها لكل بيت إفريقي، الآن قررالأوروميون المنازلة ودق المسمار في نعش النظام، لكن هذه المرة من الداخل.
خطة تنمية أديس أبابا.. وشرارة البوعزيزي
حسب الدستور الإثيوبي، فإضافة إلى الولايات القومية التسعة، هناك منطقتان تحت الإدراة الاتحادية: العاصمة أديس أبابا ومدينة دري دوا في الشرق، وينص الدستور على مراعاة مصالح خاصة للأوروميين في العاصمة، كونها ضمن النطاق الجغرافي لأوروميا، وتركت التفاصيل ليحددها القانون، ورغم المطالبات الشعبية المتكررة، ظلت المسألة في الأدراج لربع قرن من الزمان، نظرًا لضعف القيادة السياسية الأورومية.
في 2014 أعلنت الحكومة الاتحادية عن خطة “التنمية المدمجة للعاصمة أديس أبابا والمناطق المحيطة” في حدود 70 إلى 100 كيلومتر، وهي مناطق تتركز فيها المدن الصناعية والتجارية، ويقضي المشروع بضم الحواضر المدنية لإقليم أوروميا إلى العاصمة، ورغم المبررات التنموية للمشروع إلا أن تكلفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للأوروميين عالية جدًا، وتتمثل في:
بدأت الاحتجاجات الأورومية بالاعتراض على خطة تنمية أديس أبابا، وواجهتها الحكومة الفيدرالية بعنف كبير
-
تحويل التمثيل السياسي في هذه المناطق من الكتلة الأورومية إلى العاصمة الاتحادية.
-
تحويل الإيرادات الاقتصادية إلى الحكومة الاتحادية.
-
اجتماعيًا تعني الفصل بين شرق وغرب أوروميا وشمالها وجنوبها.
أدركت قيادات الجيل الثاني للحزب الأورومي أن تمرير هذا المشروع سيسحب منها كل أوراق القوة، فإداريًا سيتحول الحزب لمجرد إدارة تشرف على مناطق ريفية ومدن صغيرة، وسياسيًا سيتحول من كتلة أغلبية في البرلمان إلى كتلة ثالثة، واجتماعيًا من حزب يمثل قومية متماسكة جغرافيًا وثقافيًا إلى قومية مقسمة بين الشرق والغرب يتوسطها كيان اتحادي ضخم، وفي نهاية المطاف اعتبرالأوروميون المشروع التنموي تغطية لمشروع سياسي يهدف لتحجيم دورهم المتنامي كقوة سياسية، فقرروا المواجهة وقلب الطاولة على الجميع.
بدأت الاحتجاجات الأورومية بالاعتراض على خطة تنمية أديس أبابا، وواجهتها الحكومة الفيدرالية بعنف كبير، وفيما اعتبر سابقة في تاريخ التحالف لجأ الحزب الأورومي الحاكم في الإقليم إلى إلغاء الخطة من طرف واحد دون العودة لحكومة الفيدرالية، مما أعطى دفعة معنوية للمحتجين.
توسع نطاق الاحتجاجات ليشمل المناطق الأمهرية اعتراضًا على ترسيم الحدود الإقليمة مع إقليم تغراي، مع انتشار الاحتجاجات ومواجهتها بالعنف من الجيش وقوى الأمن؛ اتسعت دائرة المطالب وارتفع سقفها لتتحول من مطالب إقليمية وفئوية إلى مطالبة بالإصلاح والتغيير الشامل، وتأطرت في المطالبات التالية:
-
محاربة الفساد الإداري المستشري في الدولة الذي تحول من سلوك فردي أو مجموعات معزولة إلى مشكلة عضوية في البناء الهيكلي للنظام، ولم تقنع الخطوات الشكلية التي اتخذها النظام في هذا الصدد، حيث تطالب بالإطاحة بحيتان الفساد الكبيرة وتغييرًا جذريًا في الفكر الإداري للنظام القائم على احتكار مصارد القوة الاقتصادية للأقلية وشبكات المصالح المحيطة بها.
-
إيقاف انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة بحجة المحافظة على الاستقرار ومكافحة الإرهاب وإطلاق سراح السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي، وتغيير القوانين المكبلة للحرية الصحافة والتعبير كقانون الإرهاب الذي بموجبه سجن المئات.
-
تأسيس نظام سياسي متوازن وأكثر ديمقراطية وعدلاً، وأكثر توازنًا بحيث يمنح الجميع حجمه الطبيعي بتصحيح الخلل التاريخي في بناء التحالف.
بلغت الأزمة ذروتها باستقالة رئيس البرلمان “أبا دولا” اعتراضًا على ما قال إنه انتهاك لحقوق الأوروميين في تعامل الدولة مع الاتهامات الموجهة لبعض الأجنحة في قوى الأمن والجيش
“طيلق تاديسو”.. الإصلاح العميق
مع تواصل الاحتجاجات وتحولها إلى أعمال عنف وشغب، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في 2016، كما أقر التحالف برنامج الإصلاح العميق “طيلق تاديسو”، لمحاربة الفساد الإداري وإعادة تأهيل منظومة القيادة وإصلاح الترهل التنظيمي، وعليه قامت الأحزاب المكونة للتحالف باعتماد برامج إصلاحية، أعمقها تلك التي تبناها الحزب الأورومي الذي تمكن من خلالها قادة الجيل الثاني بقيادة رئيس الإقليم الحاليّ لما مغارسا من إزاحة وتحييد القيادات المخضرمة والمهادنة وأخذ زمام المبادرة.
لجأت القيادة الأورومية الجديدة إلى تبني المطالب الشعبية السياسية والاقتصادية ومواجهة التحالف بحقيقة أنه آن أوان التغيير أو الرحيل، مما أدى إلى التفاف الشعب حولها.
اليوم وبعد أن كانت الاحتجاجات تواجهها قوى الأمن الفيدرالي وقوى الجيش بالرصاص الحي أصبح في داخل التحالف من يرفع صوته مطالبًا بمحاكمة القيادات الأمنية والجيش على التجاوزات القانونية واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين العزل.
بلغت الأزمة ذروتها باستقالة رئيس البرلمان أبا دولا اعتراضًا على ما قال إنه انتهاك لحقوق الأوروميين في تعامل الدولة مع الاتهامات الموجهة لبعض الأجنحة في قوى الأمن والجيش وشبكات المصالح الاقتصادية التي تتهم بافتعال المواجهات العرقية في المناطق الحدودية بين إقليم أوروميا والصومال الإثيوبي (أوغادين)، مما أدى إلى تهجير أكثر من 600 ألف أورومي من إقليم الصومال.
يقول المثل الأورمي الشهير “تحفر الدجاج الأرض حتى تستخرج السكين الذي تذبح به”، فهل نحن أمام إصلاح عميق يستخرج المعول الذي يهدم بيت النظام الحاليّ؛ وبالتالي خلق مشهد سياسي جدي في إثيوبيا؟
مع الضغط الأورومي المتنامي والمكابرة التغراوية المتواصلة وصل البلد إلى طريق مسدود، وبعد اجتماعات مطولة خرج التحالف في ديسمبر الماضي ببيان سياسي أعلن فيه وجود خلافات حادة بين مكوناته، وأن القيادة السياسية تتحمل كامل المسؤولية لما آل إليه وضع البلد، ووعد بجولة ثانية من الإصلاح، قال البيان إنها ستكون أكثر عمقًا وأبلغ أثرًا.
وفي هذا السياق جاء إطلاق سراح زعماء المعارضة ومئات النشطاء، وإغلاق مركز التحقيق “مأكلاوي” ذي السمعة السيئة، وتعيين ثلاثة نواب لأركان الجيش، وأخيرًا استقالة أو إقالة رئيس الوزراء، رأس هرم القيادة السياسية للتحالف الحاكم.
يقول المثل الأورمي الشهير “تحفر الدجاج الأرض حتى تستخرج السكين الذي تذبح به”، فهل نحن أمام إصلاح عميق يستخرج المعول الذي يهدم بيت النظام الحاليّ؛ وبالتالي خلق مشهد سياسي جدي في إثيوبيا؟