عند ملقى الماء إلى الشمال من مدينة غزة على بعد يقارب 42 كيلومترًا، كانت تقع السوافير الشمالية (الشامية)، وهي من شمال السوافير الشرقية تحديدًا على بعد كيلو ونصف الكيلومتر، بينما تقع السوافير الغربية إلى الجنوب الغربي منها على نفس المسافة تقريبًا.
يحدها من الشمال البطانيات، وتحديدًا قرية البّطان الشرقي على كيلومترين يفصلهما عن بعضهما “بيار توفيا” المُستعمرة التي كان يُطلق عليها أهالي القرى المحيطة بها اسم “تعبيا”، أما من الغرب فأحاطتها أراضي قرية بيت دراس وبلدة أسدود وحمامة إلى الغرب منهما، بينما من الجهة الشرقية للسوافير الشمالية كانت تحدها قرى القسطينية والمسميات كذلك (المسمية الكبيرة والصغيرة).
كان الطريق المُعبد الرئيس الذي يربط يافا بغزة جنوبًا، يمر من جنوبي السوافير الشمالية، بينما يتوسط الطريق السوافيرتين الشرقية والغربية فاصلًا بينهما، كما كان خط السكة الحديد القادم من يافا شمالًا نحو غزة وبلاد مصر جنوبًا يمرُ من جنوبي السوافير الشمالية شرقي الطريق الأسفلتي.
على رُقعةِ سهلية – شبه ساحلية – كانت السوافير “ممدودة مَد” بتعبير الحاج محمد رباح في مقابلة معه عن قريته، حيث تفترش القرية سهلها الترابي الذي كان بالكاد الإيجاد فيه حجرًا لدقّ وتد الخيمة لتُربيته، وحمراء طينية كانت تربة أرض السوافير مثل الحِناء تركت لونها في كواحل أرجل نسائها تقول الحاجة مريم رباح متذكرةً السوافير الشمالية.
إذا كانت السوافيريات الثلاثة تقع على أنقاض “شافير” القديمة، والتي كانت تعني “أرض الوديان”، فإن القرية فعلًا كانت محاطة بوديانها التي تدل التسمية القديمة عليها، لا بل كانت السوافير الشمالية “ملقى المَي” بعامية أهلها، أي مُلتقى الماء، إذ كان يلتقي وادي الجلدية القادم من شمال القرية مارا بشرقها بوادي قريقع الذي عُرف بوادي السوافير أيضًا من جنوبها، لتهدرُ مياههما في مجرى واحد باتجاه البحر غربًا.
في تسميتها
هي الشمالية، لأنها كانت تقع من شمالي شقيقتيّها السوافيريتين “الشرقية والغربية”، لكنها في المعجم الاجتماعي لم تكن تُسمى كذلك، إذ كان أهلها يُطلقون على أنفسهم تسمية الشاميين، كما أسمّاها أهالي السوافير الشرقية والغربية، بالسوافير الشامية لا الشمالية، ليس لأن أصول أهالي القرية من الشام، إنما مرد ذلك لتقليد في المعجم الجهوي الذي كان متداولًا على ألّسنة سكان ريف غزة باعتبار كل ما هو شمال شام، فيقال مثلًا “شملنا شاما” أو “الهوى شامي اليوم” أي ذهبنا شمالًا والريح شمالية، وهكذا. ومن هنا عُرفت السوافير الشمالية بتسميتها الشعبية التي كانت دارجة على مدار تاريخها إلى حين نكبتها عام 1948، بالسوافير الشامية.
ورد أسمها بـ”سوافير القطن”، لأن أهلها داوموا على زراعة القطن في القرن الثامن عشر، حيث كثرت وانتشرت زراعته في فلسطين عمومًا في تلك المرحلة
تظلُّ حكاية تسمية السوافيريات الثلاثة واحدة، ومردها إلى “شافير” القديمة التي تعني “أرض الوديان” كما سبق وأشرنا، غير أن لأهالي السوافير الشامية حكايتهم الخاصة عن أصل تسمية قريتهم والسوافيريات عمومًا، ففي مقابلة معه عن قريته السوافير الشمالية يقول الحاج شكري إسماعيل بأن السوافيريات حملت ذلك الاسم، لأن أهلها عُرفوا بـ”المسافرين” لكثرة ما تنقلوا وحطّوا وارتحلوا سفرًا بدءًا بالجزيرة العربية موطنهم الأصلي، ثم إلى القدس مرورًا ببيت نتيف وصولًا إلى حيث استقروا في موقع قريتهم، فكانت السوافير.
بل يعتقد أهالي السوافير الشامية بأن قريتهم هي الأصل، والتي فرّخت السوافيرتين الأخريين الشرقية والغربية، كما أن الوثائق التاريخية تثبت بأن السوافير الشمالية وجدت مع الشرقية قبل أن توجد السوافير الغربية التي تفرعت حديثًا عن الشرقية.
حملت السوافير الشمالية تسميات وألقابًا اتصلت بتسميتها غير الشامية، لأن هذه الأخيرة تسمية جهوية لها، فقد ورد أسمها بحسب ما جاء في كتاب “قضاء الخليل – 1864-1918″ لأمين مسعود أبو بكر بـ”سوافير القطن”، لأن أهلها داوموا على زراعة القطن في القرن الثامن عشر، حيث كثرت وانتشرت زراعته في فلسطين عمومًا في تلك المرحلة.
وقد تبدلت ألقاب القرى السوافيريات الثلاثة على مدار تاريخها، دون أن يتبدل اسمها الأصل السوافير، فالسوافير الشرقية عرفت مثلًا بـ”سوافير الخليل” وذلك بحسب نصر البحيصي، لأن أرضها كانت موقوفة على الحرم الإبراهيمي في الخليل، وعُرفت الشرقية كذلك بـ”سوافير المجدل” لقربها من مجدل عسقلان، بينما لُقبت الغربية بـ”سوافير المسالقة” نسبة لعرب المسالقة، وأيضًا بـ”السوافير المصرية” لأصول أهلها المصرية، وهكذا.
أولاد تل البنات
تشكلت السوافير الشامية (الشمالية) من ثلاث حمائل كبيرة أساسية أسست القرية، هي: إسماعيل وناجي ورباح، ولم يصل عدد سكان القرية الألف نفرًا في النكبة عام 1948، فكانت الأصغر تعدادًا من بين السوافيريات الثلاثة، كما قُسمت القرية إلى ثلاث حارات على حمائلها الثلاث: الحارة الشرقية تسكنها عائلة إسماعيل، والغربية لحمولة رباح، بينما عائلة ناجي في الحارة الشامية أي الشمالية في القرية.
يعتبر مقام الشيخ عبد الله الواقع في جنوب السوافير الشمالية، المقام الأكثر اعتبارًا في وجدان أهالي القرية ثم في ذاكرتهم بعد تهجيرهم منها. كان المقام يأوي قبر الشيخ ومحاطًا بكراسٍ حجرية عددها سبعة، تعود أهالي السوافير الشامية الجلوس عليها والتحلق حول المقام، وإذا ما أراد سوافيري شامي أن يقسم اليمين على صدق قوله، قال: “والحجر إلى قاعد عليه” في إشارة إلى أحد كراسي المقام.
كما كُن نساء القرية يدعين متوسلات: “بجاه الشيخ عبد الله وحجارو”، وهكذا تقول الحاجة مريم رباح مما ظلّت تتذكره عن المقام وشيّخه الذي ظل أهالي السوافير الشمالية يحلفون به حتى بعد نكبتهم وتهجيرهم من قريتهم في مخيمات اللجوء بغزة.
يذكر الحاج شكري إسماعيل، بأن في السوافير مقامًا آخر، كان يُطلق عليه “مقام الأربعين” لم يكن شيّخًا أو وليًا، إنما لأنه كان يضم أربعين قبرًا يُقال إنهم لأربعين شهيدًا، من القبور الكُفرية (الأثرية) القديمة، ويقول إسماعيل أن أحد أحياء القرية كان يُسمى بـ”حي الأربعين” نسبة للمقام دون أن يحدد أي الأحياء أو الحارات التي كان يقع فيها المقام.
لم تعطش السوافير الشامية، إذ تكفلت بئرها التاريخية القديمة بسقي كل أهالي القرية على مدار تاريخها حتى مطلع القرن العشرين. أطلق عليها الشاميون اسم “البير المالح” لأن ماءها كانت تميل للملوحة قليلًا، فكان اسمها. غير أن أهالي السوفير هجروا بئرهم المالحة، قبل أن يُهجّروا من قريتهم بسنواتٍ، بعد أن صار مشربهم من آبار بيارات البرتقال التي أحاطت بهم منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.
كانت مدرسة السوافير مشتركة بين قراها الثلاثة، وتقع بينها في جنوبي السوافير الشامية، وتأسست على النظام الحديث في سنة 1922. أقيمت المدرسة على موقعٍ كان يُعرف بحسب الحاجة مريم رباح من قرية بنت السوافير الشامية باسم “تل البنات“، وتذكر عمن سبقها، بأن تل البنات سُمي كذلك لكثرة الزهور والرياحين الفوّاحة التي كانت تُزهر فيه، مما جعل التل مقصدًا لبنات القرية أيام الربيع. على تل البنات قامت مدرسة السوافير للأولاد فقط.
سِفر الوجع
حين كانت تُخبر صحيفة فلسطين، التي كانت تصدر في يافا قبل النكبة، عن الـ”خيار السوافيري” الذي ذاع صيته في حِسب (جمع حِسبة) أسواق يافا والمجدل وغزة، كان هو ذلك الذي تعود زراعته إلى قرية السوافير الشمالية، وظلَّ أهالي القرية يعتزّون بخيارهم الذي صارت تكتب عنه الجرائد.
زرع السوافرة الشاميون البقول والخضار والقطن وقبل كل ذلك الحبوب القمح والشعير والذرة، ثم صار بعضهم بيّاريون منذ مطلع الثلاثينيات حولوا بعض أراضيهم إلى بيارات لزراعة الحمضيات فيها. لم يعد الحاج محمد رباح يمكنه تذكر حَب غِلال حقول السوافير إلا في سياق “يوم الطوق” اليوم الذي ضرب فيه عناصر الجيش الإنجليزي في ظل الثورة الكبرى في مطلع خريف سنة 1938 طوقًا على القرية في يومٍ ماطر كما يتذكره. أرغمت قوات الجيش رجال السوافير الشامية على الخروج من بيوتهم إلى مقبرة القرية والوقوف تحت المطر، بينما النساء جُمعن في بيت المختار محمود إسماعيل.
ويذكر يومها بأنهم أي الإنجليز، قد نكثوا متابن وصوامع الحبوب، فخلطوا القمح بالشعير، والذرة بالسمسم وحبوب القطن كلها معًا، ورموها وسط القرية ثم أفلتوا أبقار حرّاثي القرية على مؤونة الناس وغِلالهم المنثورة على الأرض.
ومما قيل عن ذلك العام، بأن السوافرة الشاميين قد حرثوا الأرض من أجل محصولٍ على ثيرانٍ أكلته هي في الأخير، وذلك بعدما كانت القرية في أحوج حال لمحصول ذلك العام من أعوام الثورة في ظل سياسات التجويع والتركيع البريطانية.
كان كل ما أسفر عنه طوق السوافير الشامية، فضلًا عن بعثرة قوت أطفالهم، 5 طلقات بارود، وجدتها القوات الإنجليزية في بيت رجب جاد الله الذي اقتادوه إلى معتقل صرفند، ثم حوكم في القدس بالسجن مدة خمس سنوات، عام مقابل كل طلقة بارود وجدت في بيته، “يحمد ربه ما شنقوه” تقول الحاجة مريم متوجعة عن تلك وعليها معًا.
ظلت ذاكرة السوافير الشمالية – الشامية عن دورهم في الثورة الكبرى (1936 -1939) ذاكرة مكتومة، لأنها ثورة ليلية، فسرّ من شارك فيها من أهالي القرية عند الليل وحده كما يقول الحاج محمد رباح، غير أن القوات الصهيونية هاجمت السوافير الشمالية في وضح نهار القرن العشرين منذ مايو/أيار 1948، وكان تهجير أهلها في أواخر يونيو/حزيران 1948، مع باقي أهالي السوافيرتين الشرقية والغربية جنوبًا نحو ديار غزة.