ظهرت نظرية صدام الحضارات “Clash of Civilizations” كمحدد لطبيعة العلاقات الدولية عقب انتهاء الحرب الباردة وانتهاء الصراع الأيديولوجي الذي قسم العالم بين معسكر السوفييت الشيوعي ومعسكر الغرب (الديمقراطي)، حيث قام صامويل هانتينغتون بكتابة مجموعة من المقالات لتتحول في النهاية إلى كتابه الشهير “صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي” الذي يعد حجر أساس يعتمده أنصار هذه النظرية كمرجعية أساسية في تفسيرهم للعلاقات الدولية.
يعتمد هانتينغتون في نظريته على افتراض أساسي وهو أن الاختلافات بين الأمم لم تعد ذات طابع اقتصادي أو سياسي أو أيديولوجي، فالصراعات الحديثة بحسب هانتينغتون ذات منشأ متعلق بالفروقات الثقافية بين الشعوب والأمم، حيث إنه قام بتقسيم العالم إلى ثماني حضارات أساسية متباينة ومتمايزة في خصائصها وطبيعتها على الشكل الآتي:
1- الحضارة الصينية: ولا يقتصر وجودها على الصين، بل إنها وبحسب هانتينغتون تشتمل على منطقة جنوب شرق آسيا وخاصة الكوريتين وفييتنام.
2- الحضارة اليابانية: تبقى لليابان خصوصية تجعلها بمعزل عن الحضارة الصينية لتكون حضارة منفصلة عن باقي دول آسيا، فعلى الرغم من صغر مساحتها وقلة مواردها فقد استطاعت بفضل ثقافة شعبها أن تتبوء مكانًا مرموقًا بين دول العالم.
3- الحضارة الهندية: بوصفها واحدة من الحضارات العريقة التي تطورت في بلاد الهند وما حولها.
يعتمد هانتينغتون بشكل أساسي على فكرة أن الحضارات كانت معزولة عن بعضها بفضل المسافات والمعوقات الجغرافية مما أدى إلى تباينها
4- الحضارة الإسلامية: التي خرجت من شبه الجزيرة العربية لتمتد إلى شمال إفريقيا وأواسط آسيا، وكل من الشعوب التركية والفارسية والمالاوية.
5- الحضارة الأورثوذوكسية: وتنتشر بكشل أساسي في روسيا وتختلف عن باقي المسيحية (الغربية).
6- الحضارة الغربية: تشمل أمريكا الشمالية وأوروبا وهي بحسب هانتينغتون معقل القيم الغربية مثل الديمقراطية والتعايش.
7- حضارة أمريكا اللاتينية: تشمل أمريكا الوسطى والجنوبية، ومع أن شعوبها ذات أغلبية كاثوليكية فيمكن تمييزها بحسب هانتينغتون بأنها تحمل ثقافة استبدادية يراعي فيها الأشخاص مصالحهم الشخصية فقط.
8- الحضارة الإفريقية: مع أن شعوب القارة تفتقر لهوية واحدة تميزها لكن وفقًا لهانتينغتون فإن سكان القارة الإفريقية يمتلكون شعورًا متزايدًا بهويتهم الإفريقية.
يعتمد هانتينغتون بشكل أساسي على فكرة أن الحضارات كانت معزولة عن بعضها بفضل المسافات والمعوقات الجغرافية مما أدى إلى تباينها ولكن هذا الأمر لم يدم بعد حقبة الـ1500 بعد الميلاد بسبب تطور الملاحة في دول الغرب مما ساعد الثقافة الغربية على الانتشار والسيطرة الجزئية.
لتأتي بعدها التطورات التكنولوجية المختلفة وتسمح للثقافة الغربية أن تهيمن على الثقافات الأخرى من خلال الاحتكاكات والتفاعلات بين المكونات الثقافية للحضارات المختلفة والحضارة الغربية التي امتلك أصحابها معظم التقنيات الحديثة، كل هذه التطورات السريعة أدت إلى نشوء مفهوم “الغرب والآخرين” West and the rest.
بمعنى آخر فإن الحضارة الغربية تحولت إلى مرجعية أساسية تحتكم إليها الحضارات الأخرى التي يمكن أن توصف بأنها مختلفة عن الحالة الطبيعية.
الصدام بين الحضارة الغربية وغيرها بمثابة أمر حتمي بالنسبة لهانتيغتون الذي تنبأ بتحالف بين الحضارتين الإسلامية والصينية لمجابهة التفوق الغربي
تغير في التوازنات
مع أن الغرب بقي ليومنا هذا هو الأكثر تطورًا، لكنّ التطورات التكنولوجية التي خدمت انتشار الثقافة الغربية، أصبحت كسيفٍ ذو حدين؛ ففي ظل العولمة أخذت الحضارات الأخرى تؤثر في حضارة الغرب للحد الذي يمكن أن يصبح خطرًا يهدد الهيمنة الثقافية الغربية.
ففي حين يرى البعض أن احتكار التكنولوجيا، البحث العلمي، الوسائل العسكرية، ووسائل الإنتاج قد أكسب الحضارة الغربية موقعًا عالميًا يستحيل زعزعته، يرى البعض الآخر وهانتينغتون منهم أن هيمنة الحضارة الغربية أصبحت مهددَة وكثير من الحضارات الأخرى (غير الغربية) أصبحت تمتلك فرصًا لتنافس الحضارة الغربية.
اعتبر هانتينغتون أن التهديد الأول قادم من آسيا؛ حيث أخذت بعض الدول تعتمد منهجًا يعتمد على بناء اقتصاد قوي ودولة حديثة، فعلى سبيل المثال يمكننا أن نميّز التنمية الاقتصادية الاستثنائية في العديد من دول آسيا (الصين واليابان والنمور الآسيوية الأربع)، وهنا يعتبر هانتيغتون أن النجاحات التي حققتها تلك البرامج التنموية أعادت جزءًا من الهيبة لكل من الحضارتين الصينية واليابانية.
أما بالنسبة للتهديد الثاني فاعتبره هانتيغتون متمثلًا بالمجتمعات الإسلامية التي تجاوز دور الدين فيها بعده الميثولوجي ليملأ فراغ الأيديولوجيا السياسية؛ الأمر الذي جعل الأفراد يتّجهون للدين كمحدد أساسي لهويتهم وعلاقتهم بالأمم، ومما ساهم في ذلك عدم مقدرة دولهم على بناء نموذج اقتصادي مشابه لدول شرق آسيا، يضاف له العقبات الاقتصادية وتزايد السكان المتطرد وطبيعة الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
كل هذا أدى لعودة الدّين كمحدد أساسي للسياسة عوضًا عن الأيديولوجيات القومية أو الوطنية، وبحسب هانتيغتون فإنه وفي ظل غياب دولة إسلاميّة موحدة تمتلك برنامجًا واضحًا للتقدم، فإن كل محاولات تلك الحضارة لاستعادة أمجادها سلميًّا سوف يُقدّر لها أن تبوء بالفشل، وهذا ما يدفع بعض أتباعها لانتهاج منهجيات عنفية كظاهرة الإرهاب المتعلق بالتطرف الديني.
الصين أصبحت دون شك أكثر اللاعبين الدوليين فاعلية بعد الولايات المتحدة
ولم تقتصر التحديات برأي هانتينغتون على هذين النموذجين بل امتدت لتشمل دولًا لم تتمكن من تحديد هويتها في المرحلة التي تلت انتهاء الحرب الباردة وضرب أمثلة مثل روسيا الاتحادية وتركيا، ومن المرجح أن نظرية هانتينغتون لم تشهد السياسات الروسية الفاعلة منذ بزوغ نجم بوتين، كما أنها لم تأخذ الدور التركي الجديد الذي يطلق عليه بعض الكتاب الغربيين “العثمانية الجديدة” بعين الاعتبار، نظرًا للتوقيت الذي طور فيه هانتيغتون نظريته.
أما عن الصدام بين الحضارة الغربية وغيرها فهو بمثابة أمر حتمي بالنسبة لهانتيغتون الذي تنبأ بتحالف بين الحضارتين الإسلامية والصينية لمجابهة التفوق الغربي، وهو الأمر الذي لم يلح بالأفق بعد مع أنه وارد الحدوث، وهكذا فإن هانتيغتون قدم بضع توصيات للحفاظ على هيمنة الحضارة الغربية ومنها الإبقاء على التفوق العسكري وتسويق الثقافة الغربية للحضارات الأخرى، ووضع حد لهجرة الأفراد القادمين من خلفيات حضارية مختلفة إلى الغرب.
النموذج الصيني ومدى خطورة التهديد الأول
إن الصين أصبحت دون شك أكثر اللاعبين الدوليين فاعلية بعد الولايات المتحدة وفي ظل معدلات نموها الاقتصادي الثابتة والمرتفعة نسبيًا وسعيها للتفوق في المجالات كافة، فإن بعض المحللين بدأوا باعتبارها القطب الثاني في النظام الدولي، فإن تحليلًا بسيطًا للأرقام والحقائق الاقتصادية سوف يؤكد على أن الفجوة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين لن تدوم طويلًا.
كل تلك المعطيات يضاف لها مركزية الحكومة الصينية وقوة الثقافة السائدة فيها، تضعنا أمام حقيقة أن التهديد الأول الذي تحدث عنه هانتيغتون هو أمر واقعي وحدوث الصدام بين الحضارتين قادم لا محالة، ولكن الشكل الذي سوف يكون عليه هذا الصدام ليس واضحًا بعد، فبالإضافة إلى المنافسة الاقتصادية، فإن الصين تعمل جاهدة على تطوير البحث العلمي والقدرات العسكرية والحضور الدبلوماسي الفاعل في مواجهة الغرب، وتبقى مواقفهم الدولية من القضية السورية على سبيل المثال خير دليل على هذا الحضور.
إن العديد من المبادرات للحوار بين الحضارات والأديان بدأت تظهر جليّة في الغرب
هل الإسلام يمثل التهديد الثاني؟
مع أن العديد من الباحثين وصناع القرار الغربيين لا يتفقون مع نظرية هانتينغتون إلا أن انتشار الإسلاموفوبيا الذي جاءت موجته الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وموجته الثانية بالتزامن مع تشكيل داعش يعد خير دليل على أن قسمًا كبيرًا من الغرب ليس مستعدًا لقبول الحضارة الإسلامية.
والأمر سيان بالنسبة لأغلبية لتيارات الإسلاموية (التي تحمل أيديولوجيا الإسلام السياسي) التي تمتلك نظرة مماثلة تجاه الغرب، ويظهر هذا في مؤلفات منظريهم الأوائل الذين رأوا أن الحل في إعادة الهيبة للحضارة الإسلامية يكمن في انتزاع تلك المكانة من الغرب عنفيًا أو سلميًا بحسب الظروف وملائمتها.
لكن وبالمقابل فإن العديد من المبادرات للحوار بين الحضارات والأديان بدأت تظهر جليّة في الغرب، كما أن العديد من المنظرين والباحثين الإسلاميين بدأوا ينشطون في عقر دار الثقافة الغربية، وينشرون نتاجهم الفكري الإسلامي في أكثر الجامعات أنجلوساسكسونية.
وهذا يعني أن الطرق اللاعنفية تمكنت من إيجاد طريقها لنشر الحضارة الإسلامية، وكاستجابة لتلك الحركة نجد أن المروجين لفكرة إنشاء هوية عالمية ينظرون إلى الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات بوصفها مكوّنًا ضروريًا لإنشاء تلك الهوية والوصول إلى سلام عالمي مستدام.
صدام الحضارات.. هل من الممكن اجتنابه؟
إن نظرة هانتيغتون وإن كانت تحمل شيئًا من الصحة ولكنها بلا شك ضيقة وأحادية الجانب وتتركز بمجملها على تفوق الإنسان الغربي وهو ما يطلق عليه “Ethnocentric”، وهي الحقيقة التي يدركها الباحثون في مجال الدراسات الأمنية النقدية الذي يعد كين بووث صاحب كتاب نظرية أمن العالم واحدًا من أهمهم.
صدام الحضارات هو حقيقة تاريخية موجودة منذ آلاف السنين ولا يمكن إنكارها، لكن هذا لا يعني أن استمرار هذا الصدام أمر ضروري وحتمي
يرى هؤلاء أن صدام الحضارات يمكن أن يتحول إلى حوار صحي بين الحضارات إذا توقف الغرب عن الممارسات التي تخدم مصالحه وتشوه صورته في عقول الشعوب الأخرى، حيث يدعو أنصار الدراسات الأمنية النقدية الغرب إلى إنشاء أطر للتعاون بين الدول يقوم من خلالها الغرب بتحسين الظروف المعيشية في الدول الأفقر وإيقاف المجاعات والحروب الاستعمارية والبدء بإنشاء نموذج جديد من الهوية العالمية يراعي خصوصية كل من الحضارات المختلفة مع الإبقاء على القيم الغربية المثلى مثل الديمقراطية والأمان والتعايش المشترك.
شخصيًا أعتقد أن زيادة جاذبية التيارات اليمينية الأكثر راديكالية حول العالم رد فعل لكل ما يحدث، لأن التطرف ظاهرة تتناسب طرديًا مع استهلاك الإعلام والبروباغندا، حيث تعمل وسائل الإعلام على تعزيز التطرف وتملك تأثيرًا تراكميًا يشبه كرة الثلج، لذا فإن أي محاولة لتفادي صدام الحضارات يجب أن تبدأ من إعادة صياغة للخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام، وهو الأمر الذي لن يكون متاحًا إلا في حالة تغيير النظرة النمطية التي ينظر بها الغرب للآخرين، فالنظر إلى الآخرين من منظور جديد سيؤدي بالضرورة إلى تغيير السياسة المنتهجة تجاههم أو إعادة تعريفها على أقل تقدير.
في النهاية يتوجب الإشارة إلى أنّ صدام الحضارات حقيقة تاريخية موجودة منذ آلاف السنين ولا يمكن إنكارها، لكن هذا لا يعني أن استمرار هذا الصدام أمر ضروري وحتمي، كما أن اتخاذ الصدام للأشكال العنفية لم يعد مقبولًا نظرًا لارتفاع المستويات المعيشية عالميًا، ولأنّ شعوب العالم لم تعد ترغب بالحرب كوسيلة لإرساء تفوقها، لهذا لا بد لنا كشعوب نعيش في ظلّ الحضارة الإسلامية من إعادة النظر في طبيعة الصدام الحضاري المقبل وكيفية الاستجابة له بمعزل عن كل ما ينسب لحضارتنا من مظاهر عنفية وعدوانية.