بعد توفير وسائل إعلامية محسوبة على إيران، كقناتي الميادين والعالم، تغطية ومنبر إعلاميين لمقاتلي وحدات الحماية الكردية “ي ب ج” التي دعت النظام السوري، عبر هذه الوسائل التي مثلت شبكة تواصل دبلوماسي بين الطرفين، إلى القيام بدوره “كصاحبٍ للسيادة على الأرض”، استطاع الطرفان التوصل إلى اتفاق، الأحد 18 من فبراير/شباط 2018، يقضي بدخول النظام إلى عفرين.
ولا شك أن الهدف من وراء هذا الاتفاق يكمن في سعي الطرفين إلى إفقاد تركيا شرعية التدخل، فسيطرة النظام كانت ستعني مواجهة تركيا لحكومة ما زالت تتمتع بالشرعية والسيادة وفقًا للأمم المتحدة التي ما زالت تعترف به على ذلك، وفي ذات اليوم، صرح أردوغان بأن “اتصالات تركيا منعت دخول ميليشيا تابعة لنظام الأسد من الدخول إلى عفرين”، لكن ذلك لم يحدث، وحاولت الميليشيا المعنية، مساء 20 من فبراير/شباط، دخول عفرين.
وعقب ما حدث على أطراف عفرين، بعد استهداف القوات التركية للميليشيات التابعة لنظام الأسد، التي تقدمت، ربما، في إطار مسعى النظام، وفي الغالب إيران، لجس نبض القوات التركية وترقب ردها، ذلك الرد الذي جاء على نحو التصدي لها بقذائف تحذيرية، كشف عدم انتهاء الخطة التي تسعى تركيا لتطبيقها في عفرين ومحيطها، وقد أدى هذا الاستهداف المذكور إلى فتح الأبواب على تساؤلين مفادهما: على الرغم من تصريحات أردوغان عن التنسيق مع روسيا وإيران، ما المحرك الحقيقي لميليشيا نظام الأسد نحو عفرين؟ وما الخطوات المُقبلة؟
القوات التركية على أطراف مدينة عفرين
على الأرجح، ووفقًا للمعطيات الظاهرة، تقوم الخطة التركية تجاه عفرين على سيناريوهين:
1ـ الاستمرار في التقدم حتى مركز عفرين: هذا ما تُشير إليه التصريحات التركية على الصعيدين السياسي والعسكري، غير أن هناك عدة عوائق تقف أمام هذا السيناريو هي:
ـ البيئة الجغرافية لعفرين، التي تتسم بتضاريس جبلية، وأظهرت صعوبة تقدم الجيش التركي من خلال تعاظم أعداد قتلاه.
ـ فقدان الحاضنة الشعبية المؤيدة للعملية، فالمدينة ذات كثافة كردية، وإن كان هناك اعتراض شعبي نسبي على أيديولوجية “ي ب ج”، تبقى الروح الوطنية “الكردية” حاضرة في نفوس المواطنين الأكراد الذين يقيّمون العملية، على الأرجح، بمثابة “عملية الاحتلال” أو “الهجوم التركي القومي ضدهم”.
ـ وجود ملامح لاعتراض روسي إيراني أمريكي مجتمع على إتمام تركيا سيطرتها على المنطقة، إذ إن هذه السيطرة تعني اتساع نفوذ تركيا على جميع الأصعدة، وهذا ما ترغب به أي من الدول المذكورة.
ـ عزم النظام السوري “الشرعي بقاموس الأمم المتحدة” على دخول مركز المدينة.
ـ الضغط الدبلوماسي والإعلامي الذي أخذ بالتفاقم ضدها.
قوات من الجيش السوري الحر المشاركة في عملية غصن الزيتون
2ـ محاصرة عفرين وتطبيق نموذج حلب 2016
يبدو أن هذا السيناريو أكثر رجوحًا، وذلك لعدة مؤشرات أهمها:
ـ تركيز القوات التركية سيطرتها على المناطق الجبلية، كجبل بركات قرب إدلب، الذي يُطل على عفرين، وجبل برصايا وداماق والصمود في محيط عفرين.
ـ تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، علنًا بذلك، حيث قال “سنحاصر عفرين خلال أيام”.
ـ الوعي التركي باحتمال تحول المعركة إلى “حرب شوارع” مُكلفة ماديًا وبشريًا.
ـ الوعي التركي باحتمال انطلاق مقاومة شعبية “عفرينية” ضدها.
ـ إدراك تركيا بالمكائد الإيرانية أو الروسية أو الأمريكية التي قد تترجم على الواقع من خلال تقديم دعم كبير.
من الصعب توقع أن تركيا أغلقت باب التفاوض مع الإيرانيين والروس عن عملية عفرين، لذلك اتجهوا، أي الإيرانيين والروس، نحو الضغط عليها عبر التقدم صوب عفرين
في الغالب المُحرك الأساسي للميليشيا هي إيران، بتغاضي روسي يصل حد التأييد الضمني لتحركها، وقد ظهر هذا التأييد عبر دعوة روسيا، مباشرةً عشية استهداف تركيا لميليشيات النظام، إلى مفاوضات مباشرة بين تركيا والنظام بشأن عفرين، ويُستنبط تحريك إيران للميليشيات من خلال التالي:
ـ طبيعة الميليشيات التي حاولت دخول عفرين، التي تصطبغ بصبغةٍ “شيعية” لا يتوقع تحركها من دون موافقة الداعم الأساسي “إيران”.
ـ استهداف الميليشيات المحسوبة على إيران رتلًا تركيًا في محيط منطقة العيس الواقعة في الريف الجنوبي لحلب، حيث تُرجم ذلك على أنه رسالة إيرانية واضحة لتركيا، في سبيل إيقاف تمددها.
ـ تعبير مسؤولين إيرانيين ووسائل إعلامية تابعة لها عن تخوفات إيران الكبيرة من استمرار العملية التي قد تؤدي إلى اتساع النفوذ التركي في سوريا على حسابها، وقد تقوقع موقعها “كحليف أول وأساسي” لروسيا، فضلًا عن أنها قد تأخذ بلجوء “ي ب ج” بشكلٍ شبه كامل نحو أحضان الولايات المتحدة.
في الحقيقة، من الصعب توقع أن تركيا أغلقت باب التفاوض مع الإيرانيين والروس بشأن عملية عفرين، لذلك اتجهوا، أي الإيرانيين والروس، نحو الضغط عليها عبر التقدم صوب عفرين، ومرد ذلك إلى نوعية الملفات الرابطة للأطراف المذكورة ببعضها بعضًا، التي تأتي في إطار السياسات القومية العليا لكلٍ منها كملفات المصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية الإستراتيجية والأمن القومي، وغيرها من الملفات التي تحيلهم للاضطرار على إبقاء خط المفاوضات قائمًا، لئلا يتأثر الخيط الرابط بينهم سلبًا.
غير أن تركيا شعرت أن الأطراف المقابلة تتفق معها دبلوماسيًا، ربما مجاملةً، وتخالفها ميدانيًا، لذلك اضطرت للرد على رسالة عدم رغبة الأطراف المقابلة بتقدمها، برسالةٍ أكثر حدةٍ، تعبر عن إصرارها القاطع في تحقيق ما ترنو إليه، الذي قد يكون سيناريو حصار عفرين على الأقل، وذلك حتى تضمن الحد الأدنى من تحقيق أهدافها من العملية، التي يأتي إنهاء أي قوة حقيقية لقوات “ي ب ج” غرب الفرات، على رأسها.
تركيا مُصرة على إحراز هدفها في إنهاء قوة “ي ب ج” غرب الفرات بقدر الإمكان
في الغالب توقيت دخول ميليشيا أو قوات النظام السوري هو الخاطئ، فكانت تركيا قد أعلنت سابقًا أنها قد توافق على سيطرة النظام السوري على منبج في حال انسحبت قوات “ي ب ج” منها بالكامل، وقد أوضح أكثر من تصريح لمسؤولين أتراك كبار، أنها لا تمانع من سيطرة وبقاء نظام الأسد.
فقد صرح نائب رئيس وزرائها محمد شيمشك، في يناير/كانون الثاني، بأن “المطالبة برحيل الأسد أمر غير واقعي”، أما رئيس وزرائها بن علي يلدريم، فقد أشار، في نهاية أغسطس/آب 2016، أن “الأسد يمكن أن يبقى رئيسًا مؤقتًا”، وكان تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بأنه “لا مشكلة إن كان النظام السوري سيدخل عفرين، بشرط إنهاء سيطرة “ي ب ج”، الأكثر إثباتًا القبول التركي “المبدئي” بسيطرة نظام الأسد.
لكن إدراك تركيا بأن دخول هذه القوات يأتي قبل ظفرها بالذي تريد، ودفعها نحو إظهار جدية وصرامة، وجعلها تستدرك تصريحات وزير الخارجية، لتعلن نيتها الصارمة في عدم التهاون مع قوات النظام التي ستتقدم تجاه عفرين.
في الختام، يبدو أن تركيا مُصرة على إحراز هدفها في إنهاء قوة “ي ب ج” غرب الفرات بقدر الإمكان، وبالركون إلى تصريحات المستوى الرفيع في تركيا، نجد أن اختيار النظام السوري للتوقيت الصائب في دخول عفرين قد لا يجد اعتراضًا تركيًا، بشرط أن يسهم في تخليص المدينة من إدارة “ي ب ج”.