قبل 11 عامًا من اليوم، ونتيجة لدعوات إعلامية وسياسية مكثفة، وتخطيط داخلي وتآمر خارجي مدروس، خرج ملايين المصريين، من مختلف الطوائف والتيارات، في تظاهرات حاشدة، عمت عددًا من المدن والمحافظات المصرية، وصاحبها زخم إعلامي غير مسبوق، للمطالبة برحيل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وإنهاء حكم الإخوان المسلمين، الذي لم يدم عليه سوى عام واحد فقط.
حينها أرجع المتظاهرون – والجهات التي تحركهم – تلك الاحتجاجات إلى عدة أسباب على رأسها: الأزمات الاقتصادية التي فشل مرسي في حلها ومن بينها انقطاع الكهرباء وارتفاع سعر البنزين والغاز، وخفض الدعم كأحد متطلبات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طالب به صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بـ4.8 مليار دولار، وفشل مصر في التعامل مع ملف سد النهضة وتعريض الأمن المائي المصري للخطر، والفوضى الأمنية على الحدود وفي الداخل، وعفو مرسي عن عدد من الإسلاميين المحبوسين منذ أكثر من 30 عامًا، وأخيرًا إقصاء النظام وقتها للتيارات السياسية الأخرى واستئثار الجماعة بالسلطة على المستويات كافة.
اليوم وبينما يحتفل النظام وإعلامه بالذكرى الـ11 لتظاهرات 30 يونيو، يبقى السؤال: هل حقق المصريون ما نزلوا لأجله؟ وهل وجدوا من يحنو عليهم كما قال عبد الفتاح السيسي قبل توليه الرئاسة في 2014؟ وهل نجح نظام ما بعد 30 يونيو، بعد 10 سنوات كاملة من الحكم، في تلبية أحلام المصريين وتنفيذ مطالبهم التي خرجوا بسببها لإسقاط نظام لم يكمل في السلطة سوى عام واحد فقط؟
المشاركون في التظاهرات.. أين هم الآن؟
شارك في تلك التظاهرات عدد من التيارات السياسية والمجتمعية، كل منها كان يدعي إقصاءه لحساب الإخوان والمقربين منهم، رافعين شعار التشاركية والتعددية، وبعيدًا عن الجدل بشأن تلك الادعاءات ومدى صدقيتها، أين تلك التيارات اليوم بعد 11 عامًا من تلك الاحتجاجات؟
حزب النور: كان من أوائل الأحزاب والتيارات التي شاركت في تلك التظاهرات، مدعومًا من السعودية، حيث افتعل الكثير من الأزمات مع نظام مرسي وساهم في تشويه صورته بشكل أو بآخر، وعلى مدار السنوات العشرة الماضية كان من بين القوى الداعمة والمؤيدة بشكل مطلق لسياسات السيسي.
كان الحزب يمني نفسه بأن يكون خليفة الإخوان في المشهد السياسي، لكنه فوجئ باستبعاده شيئًا فشيئًا وإقصائه عن الساحة بالكلية، واستقر في يقين قادته أنه كان مجرد “جسر ديني” عبر به نظام ما بعد الثالث من يوليو للسلطة، تاركًا له فتات بعض المقاعد البرلمانية دون أي تأثير على الشارع.
اليساريون والليبراليون: حين خرج قادة التيار اليساري والعلماني وعلى رأسهم المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي والمخرج خالد يوسف ومعهم إبراهيم عيسى وشركاؤه، كانوا يمنون النفس بأن الإطاحة بنظام مرسي ستأتي بهم على رأس السلطة كونهم البديل الجاهز بعد الحزب الوطني والإخوان، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.
وبعد 11 عامًا من تلك التظاهرات فُرغت الساحة تمامًا من هذا التيار الذي لم يتبق له حضور على المستوى السياسي، حيث نُكل ببعض قادته، وُزج بهم في السجون، بخلاف فرض طوق أمني مشدد، سياسي وإعلامي، على الآخرين، حتى المرشح الذي كان يمثلهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أحمد الطنطاوي، سُجن هو وعدد من فريق عمله.
الأقباط والمرأة: دومًا ما عزف قادة الثورة المضادة في مصر على وتر استهداف نظام الإخوان للمرأة والأقباط، مستعينين بعشرات السرديات المضللة التي شيطنت الإسلاميين وحولتهم إلى عدو للمرأة والمسيحيين، وهو ما استغله نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز الذي نجح في استخدام النغمة بشكل جيد.
وبعيدًا عن بعض التصريحات الوردية التي أطلقها السيسي ونظامه دعمًا للمرأة والأقباط، لكن المنجز على أرض الواقع بعيد تمامًا عما يتم الترويج له، فلم يتغير وضع المرأة السياسي رغم مزاعم التمكين المتكررة، كذلك الأقباط الذين وإن حصلوا على بعض الامتيازات لكنها ضئيلة للغاية بجانب ما كانوا يؤملون أنفسهم به، هذا بخلاف ما يتجرعه الطرفان مع بقية الشعب من أزمات خانقة وتردٍ واضح في مستوى المعيشة.
ومن ثم ومع انتهاء العشرية الأولى على تظاهرات يونيو/تموز 2013 ثبت يقينًا لدى جميع من شاركوا في تلك الاحتجاجات أنهم كانوا مجرد “جسر مؤقت” و”أداة شعبية” لعبور النظام الحاليّ نحو السلطة، لتُلقى أحلامهم وطموحاتهم في مستنقع الإقصاء والتجاهل، سواء كان عمدًا أم دون قصد.
الأزمات الاقتصادية.. كيف كانت وأصبحت؟
– كان حجم الدين الخارجي في أثناء تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 لا يتعدى 46 مليار دولار، ليرتفع مع الذكرى الحادية عشر لتلك الاحتجاجات إلى 168 مليار دولار (يمثل نحو 40.3% من الناتج المحلي)، بزيادة قدرها 250% في غضون 10 سنوات فقط، فيما ارتفع الدين الداخلي من 1.6 تريليون جنيه في 2013 إلى 6.8 تريليون جنيه بنهاية 2023.
– ارتفعت خدمة الدين الخارجي، التقسيط والفوائد، من 5.6 مليار دولار في نهاية 2013 إلى نحو 46 مليار دولار عام 2024، بزيادة تقترب من 700%، لتستحوذ تلك الخدمة على قرابة 80% من الموازنة العامة للدولة وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى تردي الوضع المعيشي للمواطن.
– تهاوى سعر صرف العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية بأكثر من 85% من قيمته، حيث انخفض من 7 جنيهات للدولار الواحد في 2013 إلى نحو 48 جنيهًا للدولار اليوم، الأمر الذي يعني تهاوي مدخرات المصريين وفقدانها لأكثر من ثلثي قيمتها في 10 سنوات فقط.
– ارتفع حجم التضخم في مصر من 14.2% بنهاية 2013 إلى 36% بحلول 2024، وفق الإحصاء الرسمي الصادر عن الدولة، وهي النسبة التي يراها اقتصاديون أقل كثيرًا مما هي عليه على أرض الواقع حيث وصلت في بعض الأحيان إلى ضعف هذا الرقم وزيادة.
– قفزة هائلة شهدتها أسعار المرافق العامة للدولة التي يعتمد عليها المواطنون في حياتهم المعيشية اليومية، حيث ارتفع سعر الكهرباء والمياه والغاز بنسب تقترب من 1000% هذا بخلاف السلع الاستراتيجية الأخرى كالأرز والسكر والزيت واللحوم والتي قفزت بمعدلات تتراوح بين 500 – 1000%.
– ارتفعت أسعار وسائل المواصلات الشعبية التي يعتمد عليها عامة الشعب بمستويات تجاوزت في بعض الأحيان 15 ضعفًا، كما هو الحال مع تذكرة مترو الأنفاق التي زادت من جنيه في 2013 إلى 15 جنيهًا في بعض المحطات اليوم، هذا بخلاف أسعار الميكروباصات والحافلات العامة والتي ارتفعت بنسب تترواح بين 100 – 600%.
– قفزت معدلات الفقر في مصر من 26% عام 2013 إلى أكثر من 40% بحلول 2024، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن المعدل الواقعي للفقر يقترب من 60%، ما يعني أن أكثر من 60 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر المقدر له بأقل من دولارين في اليوم.
العدالة والتشاركية.. ما موقعها من الإعراب؟
رفع المشاركون في تظاهرات 30 يونيو قبل 11 عامًا شعارات تتعلق بالعدالة والتشاركية في الحكم وتطبيق القانون على الجميع.. فأين الواقع منها اليوم؟
– في الوقت الذي لام فيه المتظاهرون على عفو مرسي عن بعض الإسلاميين ممن قضوا في السجن 30 عامًا، نهج السيسي نفس الدرب، حيث عفا عن بعض الأسماء المثيرة للجدل والتي يرى البعض أنها لا تستحق الإفراج عنها لأنها أولًا متورطة في تهم جنائية وليست سياسية، كما أن دفوع العفو عنها غير منطقية، على رأسها رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى المتورط في قتل الفنانة سوزان تميم والمحكوم عليه بالسجن 15 عامًا، والذي خرج بعفو رئاسي بعد دفعه مبلغًا من المال، كذلك البلطجي صبري نخنوخ المفرج عنه بعفو صحي رغم حالته الصحية الجيدة الواضحة للجميع، هذا في الوقت الذي يقبع فيه داخل السجون من تجاوزت أعمارهم الستين والسبعين وفي وضعيات صحية حرجة ولم يُلتفت إلى مناشدات ذويهم بالإفراج عنهم أسوة بغيرهم.
– إطلاق يد الجيش والمؤسسة العسكرية في الهيمنة على الاقتصاد، ومنح الجنرالات الوظائف التنفيذية القيادية في الدولة، محافظون ورؤساء أحياء ومجالس إدارات شركات عامة وقومية، وهو ما دفع إلى تخارج المئات من شركات القطاع الخاص من المشهد الاقتصادي، الظاهرة التي حذرت منها معظم المؤسسات الاقتصادية الدولية وطالبت النظام المصري بإعادة النظر فيها لما تحمله من كوارث على الاقتصاد المصري.
– منح رجال الأعمال الأولوية في المشروعات القومية التي شيدتها الدولة بالأموال التي اقترضتها من الخارج ويتحمل الشعب سدادها من ميزانيته العامة، وعلى رأسها المدن الساحلية الجديدة، والعاصمة الإدارية، والقطار الكهربائي، والمونوريل، وغيرها من المشروعات التي يرى كثير من الخبراء أنها تخدم شريحة قليلة من المواطنين على حساب الأغلبية العظمى وهو ما يتنافى مع مبدأ العدالة الذي طالب به متظاهرو 30 يونيو.
– غياب العدالة عن استراتيجية المرافق والخدمات، ففي الوقت الذي تنقطع فيه الكهرباء عن الشعب المصري بالساعتين والثلاث ساعات وفي بعض المناطق خمس وست ساعات يوميًا، بداعي تخفيف الأحمال، هناك بعض المحافظات التي تم استثنيت من هذا الأمر، منها الساحل الشمالي والعلمين وشرم الشيخ والغردقة، بحجة مكانتها السياحية.
– إقصاء معظم الأحزاب والتيارات السياسية المصرية من التشاركية السياسية، ومنح حزب “مستقبل وطن” (بديل الحزب الوطني المنحل) اليد الطولى في الهيمنة على المشهد السياسي والبرلماني، والاكتفاء ببعض الأحزاب المنبثقة عنه من أجل إكمال الصورة وتجميلها لا أكثر.
الحريات.. ماذا عنها؟
– قبيل 30 يونيو/تموز 2013 هاج الإعلام المصري والوسط السياسي برمته بسبب دعوى قضائية تم رفعها ضد الإعلامي الساخر باسم يوسف الذي سخر برنامجه للاستهزاء بالرئيس مرسي والاستخفاف به والهجوم عليه، ونادى الجميع حينها بالحريات وألا يتم التعرض لأصحاب الكلمة والرأي مهما كان حجم الخلاف معه.
– في تمام التاسعة ليلًا من يوم 3 يوليو/تموز 2013، وعقب إعلان السيسي الانقلاب على مرسي، داهمت قوات الأمن مكاتب الجزيرة في القاهرة واعتقلت عددًا من الصحفيين كما علقت نشاط عدد من المواقع الإخبارية التابعة لجماعة الإخوان.
– باسم يوسف نفسه الذي خرج المواطنون والتيارات السياسية لدعمه في مواجهة الدعوى القضائية المرفوعة ضده والتي لم يصدر بحقه حكم فيها، أجبر بعد 2013 على إنهاء برنامجه ورحيله عن مصر، بعدما أدى الدور المطلوب منه وساهم في تأجيج الشارع المصري ضد مرسي وجماعته.
– وصل عدد الصحفيين المحبوسين في غضون السنوات الـ11 الأخيرة لأكثر من 170 صحفيًا وإعلاميًا، بينما قُتل نحو 6 صحفيين على الأقل، فيما تعرض مئات العاملين في الحقل الإعلامي للتنكيل والاستجوابات التعسفية، هذا بجانب حجب أكثر من 500 موقع إخباري.
– فُرض طوق أمني مشدد على جميع المنابر الإعلامية، وانتقل المشهد الإعلامي من أحلام التشاركية والحوار والتعددية التي كان يرفع متظاهرو 30 يونيو شعاراتها، إلى الاحتكار والصوت الواحد، حيث دشن النظام شركته التابعة لجهاز المخابرات لتهيمن على جميع المنافذ الإعلامية من أجل تبني صوت واحد خادم للسلطة، فيما أجبر البقية إما على الرضوخ والتماشي مع السرب أو تعليق العمل، ومن أراد منهم استكمال عمله فليكن من خارج الوطن.
– تكميم الأفواه وغلق باب الحريات لم يقتصر على الإعلام فقط، حتى الحريات السياسية تم استهدافها هي الأخرى في مقتل، إذ منعت الأحزاب التي تغرد – ولو على الهامش – خارج السرب، من مزاولة نشاطها السياسي، فيما تعرض قادتها للتنكيل، كما حدث مع حزب الدستور والمصري الديمقراطي، بجانب قبوع ما يقرب من 60 ألف شخص داخل السجون والمعتقلات بسبب آرائهم السياسية.
الأمن القومي.. هل عُزز؟
في يونيو/حزيران 2013 سربت بعض الجهات لقاءً جمع بين مرسي وعدد من قيادات الأحزاب والقوى السياسية لبحث أزمة سد النهضة وتداعياتها على الأمن المائي المصري، ومناقشة الحلول المقترحة لحل تلك الأزمة التي لم تكن قد بدأت إذ لم تشرع إثيوبيا بعد في بناء السد، حينها خرجت الأبواق الإعلامية تشيطن مؤسسة الرئاسة وتتهمها بالتفريط في مياه مصر وتعريض أمنها المائي للخطر.
وقبلها بشهر واحد فقط، وفي مايو/أيار من نفس العام، شنت ذات الأبواق هجومها على مرسي وحكومته في أعقاب واقعة اختطاف عدد من الجنود المصريين في سيناء، ورغم تدخل الرئيس وإعادتهم حينها، لم يتوقف الهجوم عليه، معتبرين أنه ليس أمينًا على أمن مصر القومي، فهل تغير الوضع بعد 11 عامًا من إسقاط نظام مرسي؟
بعد 10 أعوام من المفاوضات العقيمة، والتسويف الممنهج، نجحت إثيوبيا في بناء سد النهضة بشكل كامل، والانتهاء من عملية الملء في مراحلها الخمسة، وذلك بعدما حصلت على الضوء الأخضر المصري من خلال اتفاق المبادئ الذي وقع عليه السيسي في 2015 والذي كان بمثابة قبلة الحياة للإثيوبيين لبناء السد والحصول على التمويل الدولي اللازم لبنائه والذي ما كان له أن يكون دون موافقة الجانب المصري.
أثر هذا الأمر بطبيعة الحال على مياه المصريين وحصتهم في النيل، ما دفع النظام للبحث عن وسائل أخرى للتقليل من حجم تلك التداعيات، منها تقنين زراعة المحاصيل التي تتطلب مياهًا كثيرة كالأرز وخلافه، بجانب معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها كمياه شرب للشعب المصري، علاوة على استنزاف المياه الجوفية المصرية رغم تحذير خبراء الزراعة بشأن تأثيرها الكارثي مستقبلًا.
أما على المستوى الأمني الحدودي، فتعرضت مصر لتحرشات عدة من الجانب الإسرائيلي، أسفرت عن سقوط عدد من الجنود المصريين، بجانب انتهاك الحدود المصرية الفلسطينية، والعربدة الإسرائيلية في محور فيلادلفيا الخاضع لاتفاقية السلام بين مصر و”إسرائيل”، دون أي رد فعل رسمي من الجانب المصري، الأمر ذاته حين تم أسر عدد من الجنود المصريين في السودان بداية أزمة الجنرالات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وهكذا يحتفي النظام المصري وأبواقه بالذكرى الـ11 لتظاهرات يونيو/حزيران 2013 التي دشنت للجمهورية الجديدة، تلك الجمهورية التي تنقطع فيها الكهرباء بالساعات، ويتهاوى فيها سعر الجنيه أمام الدولار، ولا مجال فيها لدراسات الجدوى، والفاقدة لفقه الأولويات شكلًا ومضمونًا، وتحتل المركز الثاني بين أكثر دول المنطقة استدانة، وتقفز فيها الأسعار بصورة لا تناسب إلا تجار المخدرات ومهربي الآثار، ويُقصف فيها كل صاحب قلم يغرد خارج السرب، ويُنكل بداخلها بكل من يتجرأ على الاقتراب من الذات الرئاسية العليا.. فهل وجد المصريون من يحنو عليهم بعد 11 عامًا من الإطاحة بالنظام الذي لم يدم في السلطة سوى عام واحد فقط؟