“الحمد لله.. كل اللي يجيبه ربنا إحنا راضيين بيه”، جملتان فقط، جملتان هما كل ما تردده دومًا في آخر كل لقاء أو حديث بيننا، لا تكاد تنهي حديثها حتى تسبقه هذه العبارات المقتضبة حجمًا والثقيلة وزنًا.
هي سيدة في منتصف العمر، تملك من الأبناء ثلاث، أكبرهم يبلغ من الأعوام عشر، وأصغرهم ذو عام ونصف، عندما قابلتها للمرة الأولى منذ عامين، لم تكن تريد أكثر من كرسي متحرك لابنها الأكبر “أدهم”، طفل مصاب بالشلل الدماغي الذي جعله قعيدًا لا يملك أن يحرك أيًا من أطرافه.
إحدى قريباتهم دلتني عليهم وأخبرتني بظروفهم وحاجة أدهم لكرسي متحرك؛ حتى تُجلسه والدته التي لا تستطيع تحريكه عليه، ويسهل عليها التنقل به في أي مكان.
قبل أن أراه، ظننت أنه سيعاني من تأخر في نموه الإدراكي، مثلما يعاني من الإعاقة الحركية، لكن عندما رأيته لدى زيارتي لهم، وجدت طفلاً جميلاً يتدلى شعره الأسود الناعم فوق عينيه، ينظر إليّ في فضول ثم يواري عينيه بعيدًا عني في خجل، تحدثت إليه ببعض الكلمات ألاطفه وأسأله عن حاله، فإذ به يبتسم خجلاً ويوجه عينيه إلى الأسفل هربًا مني، كعادة الأطفال عندما يحدثهم شخص غريب.
لم يكن يعاني من إعاقة في الفهم والإدراك، كان يفهم كل ما يجري حوله، ويتواصل مع والدته وأقربائه ببعض الكلمات، هكذا علمت عندما سألت والدته عن قدرته على الحديث، فأجابتني أنه يتحدث بعض الكلمات معهم، لكنه فقط خجل من الحديث معي.
لمست به رقة الشعور وقلبًا طيبًا كبيرًا نقيًا، قلب طفل بريء لم تدنسه الحياة بعد، أذكر مرة لن أنساها أخبرتني فيها والدته أنه تأتي عليه أوقات يظل يبكي فيها، ويضيق من عجزه عن الحركة ويسألها لماذا هو بهذا الشكل، لماذا لا يقدر على اللعب والجري مثلما يرى أخيه الأوسط ياسين؟
قررنا أن نقيم لها مشروعًا صغيرًا في المكان الذي تقيم فيه، عبارة عن مكتبة تبيع فيها أدوات مدرسية، تباشر عملها بها من داخل المنزل الذي تقيم فيه،حتى لا تكون بعيدة عن أدهم ويمكنها العمل وسط أبنائها وعائلتها
لا تجد له جوابا سوى كلمات بسيطة، تربت بها على قلبها قبل أن تمسح بها دمعه، “معلش يا أدهم.. ده بتاع ربنا“، فيعاود سؤالها في عفوية تراجيدية: وهو ليه ربنا خلاني كدة؟ هو ربنا زعلان مني؟ تصيبها كلماته في مقتل من الوجع والأسى، وإذ بها تشاركه البكاء لا إراديًا.
أحضرنا لها الكرسي وقررنا ألا نكتفي بذلك، وأن نتولى متابعة حالته وتوفير ما يحتاج إليه من علاج، فرحت والدته بذلك كثيرًا؛ فهي لم تكن تطمع بأكثر من كرسي فقط، ولأنها رأت كثيرًا من التعنت من بعض الجمعيات الخيرية والمنظمات الحكومية، التي تشرطت عليها كثيرًا من الشروط التعجيزية حتى توفر لها ولأبنائها المساعدة؛ فضاقت بهم ذرعًا وفقدت الأمل في الحصول على العون منهم.
في البداية، ذهبنا به إلى الأطباء المتخصصين، ووفرنا له ثمن جلسات العلاج الطبيعي، وبدت الأمور أنها تسير على ما يرام، لكن مع مرور الوقت، أخذت المشكلات تظهر الواحدة تلو الأخرى، فمع انشغال والدته التي تحاول جلب بعض المال لإنفاقها على أطفالها عن طريق العمل في البيوت، وتتركه اضطرارًا مع ذويها، فتعود لتجدهم قد غفلوا عنه فبلع لسانه في إحدى المرات، واجتمع عليه حشد من النمل في مرة أخرى ونال من عينه، وأخرى ملقى بإهمال في الشارع يبكي بلا حراك.
تهرع إليه وتضمه إلى صدرها وتقرر عدم الاستمرار في العمل، والبقاء بقرب طفلها لرعايته، بين نار الحاجة إلى المال لتحمل تكلفة المعيشة، ومصاريف طفلها القعيد الذي يحتاج إلى ميزانية خاصة، بعيدًا عن تكلفة عيشها هي وطفليها الآخرين الذين لا يكاد يبقى لهم شيئًا.
قررنا أن نقيم لها مشروعًا صغيرا في المكان الذي تقيم فيه، عبارة عن مكتبة تبيع فيها أدوات مدرسية، تباشر عملها بها من داخل المنزل الذي تقيم فيه مع أختها وزوجها، هكذا لن تكون بعيدة عن أدهم ويمكنها العمل وسط أبنائها وعائلتها، والاعتناء بطفلها في ذات الوقت.
سعدت بهذه الفكرة كثيرًا، ونفذناها بالفعل، قمنا بتحضير قائمة بكل ما ستحتاجه المكتبة الصغيرة، وتوجهنا لشراء الأدوات وتجهيزها لنقلها إلى منزل السيدة، رصصنا لها كل شيء في مكانه وأحطناها علمًا بثمن الشراء والبيع، وكيف تجدد بضاعتها عندما تنفد، وكبداية، قررنا أن نكون أول زبائنها واشترت كل واحدة منا شيئًا من مكتبتها الجديدة، لا زلت أذكر كراسة الرسم الصغيرة التي اشتريتها منها، وما زالت ترافقني إلى اليوم.
تلقت أم أدهم ذلك بحبور كبير وغمرتنا بدعواتها الطيبة، تابعنا معها سير عملها لعدة أشهر سارت فيها الأمور بسلام إلى أن تعكر صفوها مجددًا، وهذه المرة بفاجعة أكبر؛ لقد أصيب أدهم بسكتة دماغية وتدهورت حالته كثيرًا.
سألتها ذات مرة وماذا تطعمين أبنائك الآخرين؟ قالت لا شيء سوى المكرونة المسلوقة أو البطاطس
أخبرها الأطباء أنها بحاجة إلى الحجز في إحدى غرف العناية المركزة، لكنها لم تجد مكانًا في المستشفيات الحكومية، واضطرت إلى إيداعه في مشفى خاص تطلب الكثير من المال بالطبع، فاضطرت إلى بيع كل ما تملك.
ذهب مشروع المكتبة الذي لم يمر على إنشائه الكثير، وذهب معه بعض أجهزة المنزل رديئة الحال من غسالة وثلاجة اضطرت لبيعهم لسداد الأموال، واستدانت معهم من الأقارب والجيران.
حاولنا جمع بعض المال من أهالي الخير لمعاونتها، وتعاون معنا الكثير وتمكنا من سداد المبلغ بفضل من الله، ظلت بعدها أم أدهم تعيش على فضل الله اليسير، ولم نستطع مساعدتها بمشروع آخر لمحدودية دخلنا؛ ولكوننا محض جمع صغير من الجهود الفردية المتواضعة.
حاولنا التواصل مع إحدى الجمعيات الخيرية المعروفة، وشرحت لهم حالتها وتفاصيلها، قاموا بزيارتها في مكان إقامتها والتحقق من ظروفها وأحقيتها للمساعد، وتبين أنها في حاجة بالفعل، وقرروا صرف كفالة شهرية لها تعينها على نفقة العيش، لكن الكفالة ليست سوى النذر اليسير، محض 600 جنيه لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا كل ما أمكنهم فعله لها، ماذا تفعل الـ600 جنيه لأم ترعى طفلاً قعيدًا يحتاج إلى نفقة تخصه وحده، كي تغطي نفقات علاجه وحاجته إلى أغذية بعينها؟
إنها لا تستطيع إطعامه سوى السيريلاك والزبادي والعصائر رغم أنه ابن عشر سنوات، لكنه يعاني من صعوبات في البلع، وأي طعام آخر يقف في مجرى تنفسه ويصيبه بالاختناق، ورغم أن هذه الأغذية تبدو رفاهيات بالنسبة لها، لكنها تضطر إلى شرائها له وتمنع عنها أخويه الآخرين حتى تكفيه إلى نهاية الشهر.
سألتها ذات مرة وماذا تطعمين أبنائك الآخرين؟ قالت لا شيء سوى المكرونة المسلوقة أو البطاطس، هذا كل ما يمكنها تحمل تكلفته، “إحنا الحمد لله اللحمة والفاكهة دول مبيدخلوش بيتنا نهائي”.
ناهيك عن حاجتها باستمرار إلى حفاضات الأطفال غالية الثمن، لعدم قدرة أدهم على قضاء حاجته بشكل طبيعي، عبثًا حاولت مرارًا تدريبه على الجلوس وقضاء حاجته لكنه لا يستطيع؛ فهو غير قادر على تحريك أي من أطرافه، تيبست عضلاته حتى لم يعد بإمكانه التصلب والجلوس.
ما أوردته محض مشاهد مقتضبة من فصول طويلة من المآسي التي تتعاقب برتابة وقسوة في حياة تلك السيدة
بالإضافة إلى والدتها المسنة التي تقيم معها ومصابة بالضغط والسكر والشلل الرعاش، وليس لها من ولد يكفلها بعد وفاة ابنها الأكبر في حادث.
تواصلنا مع صيدلية جزى الله أصحابها خيرًا، وفروا لنا أدوية الجدة المسنة وحفاضات أدهم القعيد، لكن تتكرر إصابته بين الحين والآخر بأنواع مختلفة من العدوى الشديدة خاصة في فصل الشتاء، وتدور به والدته بين أروقة المستشفيات وغرف العيادات في حيرة ولهفة.
في آخر مرة قابلتها كانت تعاني من زكام شديد، ولا تملك أن تجلب لنفسها دواءً يداويها من البرد، تحدثت مع مسؤولي الصيدلية وصرفنا لها علاجًا للزكام، وفي مرة سابقة أصابها خراج في أحد أضراسها ولم تكن تملك ثمن كشف طبيب الأسنان، تلك رفاهية بالنسبة لها.
أعلم أني أطلت الحديث، لكن ما أوردته محض مشاهد مقتضبة من فصول طويلة من المآسي التي تتعاقب برتابة وقسوة في حياة تلك السيدة وغيرها الكثيرات، ورغم ذلك، كلما قابلتها أجد بين ملامحها الحزينة قسمات من الرضا والتسليم بقضاء الله.
رغم صعوبة الابتلاء بطفل قعيد في حد ذاته حتى لو كانت الأمور المادية متيسرة، فإن قلبها يعتصر شفقة عليه عندما يستقبلونها ببرود، وتلاقي الإهمال من بعض العاملين بالمستشفيات الحكومية، وتبكيها كلمات محيطها الجاهل الذي يمطرها بكلمات من الرصاص “ربنا ياخده ويبقى ارتاح وريحها”، تخبرني “هي الناس دي معندهاش قلب؟ ده مهما كان روح زينا وهنتحاسب عليها، أنا خايفة أشيل ذنبه”.
لماذا من الصعب على بلادنا توفير العون لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، لماذا يجب على ذويهم أن يتسولوا الحاجة لكي يحصلوا على أدنى حقوقهم في الحياة؟ تلك السيدة لم تدخر جهدًا ولا مالاً لمدواة طفلها، ذهبت به إلى جميع الأطباء وسافرت به إلى كل مكان دلوها عليه، حتى ضاق بها الحال ونفد منها المال، ولم تعد تجد قوت يومها، ولماذا يجب أن يذوق أطفال العيوب الخلقية والأمراض الوراثية وغيرها، الأمرين هم وذويهم ولا يتوفر لهم سبل الحياة القويمة؟
لماذا يجري التعامل معهم كحالات ميؤوس منها، ولا جدوى من بقائها، بل إنهم يمثلون عالة على المجتمع، يسعى بكل جهده لقتلهم أحياء، وتركهم حبيسي أجسادهم العليلة والقضاء عليهم قبل أن يقضي عليهم المرض؟
بعيدًا عن الأسباب السياسية والأوضاع الاقتصادية المتردية التي ساهمت في فرض هذا الوضع على كثير مثلها، تبقى العناية الإلهية والرضا الذي ينزله الله على قلوب هؤلاء الكادحين عاملاً لا يمكن لأي منا الحياة من دونه
على الجانب الآخر، تشملهم بكامل الرعاية دول العالم التي تحترم الإنسانية، وتقدر قيمة الحياة وتدرك أنها هبة تستلزم الحفاظ عليها، ولا يحق لأي من كان أن يسلبها أحدهم أو يحقر من شأنها.
رأيت كثير من حالات الأطفال المصابين بمتلازمة داون أو العته المغولي، الذين يعيشون في بلادنا في وضع مأساوي، وفي عالم موازٍ تجري رعايتهم والاهتمام بحالتهم الصحية والتعامل مع مضاعفاتها، وتنمية مواهبهم الرياضية والفنية؛ حتى شاهدت عملاً فنيًا جميع أبطاله والقائمين عليه من المصابين بهذه المتلازمة.
بالفعل، توجد حالات من هذه المتلازمة، يمكنها العيش لأعمار طويلة إذا جرى الاهتمام بها على أكمل وجه، فضلاً عن ميلهم لحب الموسيقى والرياضة وغيرها من الأنشطة، التي يمكنهم التمتع بمزاولتها والعيش بشكل طبيعي، غير أنه في بلادنا، لا يملك كثير من الأصحاء رفاهية العيش على هذه النحو، فما بال المرضى!
لا أعلم كيف تتحمل تلك السيدة كل هذه الهموم وحدها، كيف تتعايش وتمضي حياتها يومًا بعد يوم؟ لا أعلم كيف وسط كل هذه المآسي التي تواجهها، تجد في قلبها المهترئ لي مكانًا؟ فكلما غبت عنها أجدها تحادثني من هاتف أختها لتسأل عني، وتخبرني: “لقيتك مبتسأليش قولت أسأل أنا، لقيتك غايبة فترة كدة وقلقت عليكي قولت اتصل اطمن”، فأخبرها أنني قد مررت بظرف ما بالفعل.
كذلك، لن أنسى سؤالها الكريم عليّ بعد وفاة والدي: “إزيك وإزي ماما؟ عاملين إيه دلوقتي؟ لو محتاجة أي حاجة قوليلي والله ما بعزم”،
إنها نموذج لم أره في حياتي سابقا من التعفف والرضا والصبر الجميل، وإنني لا أجرؤ على مقارنة همومي بهمومها أو حتى مجرد قول إنني أملك هموم، عندما أفكر بكل ما عايشته معها خلال ما يشارف على الثلاث سنوات.
صدقًا لا أدري مما خلقت هذه السيدة، إنها نموذج يعجز العقل عن استيعابه بالمنطق البشري، وبعيدًا عن الأسباب السياسية والأوضاع الاقتصادية المتردية التي ساهمت في فرض هذا الوضع على كثير مثلها، تبقى العناية الإلهية والرضا الذي ينزله الله على قلوب هؤلاء الكادحين عاملاً لا يمكن لأي منا الحياة من دونه، سواء في الشدة أو الرخاء يد الله تعمل في الخفاء.