كما الطبقات الجيولوجية، تستبطن المسألة السورية عدداً متراكماً ومتداخلاً من الأزمات. هنا ثورة شعبية، جمعت قطاعات واسعة من الشعب السوري، الأحياء منهم ومن قضوا تحت دمار البيوت، الذين اختاروا البقاء في البلاد ومن دفع إلى المنافي، من انخرط في الفصائل المسلحة ومن أصر على الابتعاد عن السلاح.
ربما تعني سوريا الجديدة، التي ينشدها كل هؤلاء، شيئاً مختلفاً لكل فصيل أو جماعة أو حزب، ولكن تجارب السنوات القليلة الماضية، بكل قسوتها، تشير إلى أن السوريين سيستطيعون، في النهاية، التوافق على دولة أكثر عدلاً، أكثر تعبيراً عن تعددية الشعب، وأكثر استجابة لإرادته. ولكن الثورة لم تعد الوجه الوحيد للمسألة السورية. ثمة حرب أهلية في سوريا، لم يعد من الممكن تجاهلها، بعد أن اصطفت فئات من الشعب السوري، لأسباب طائفية أو سياسية أو اجتماعية، إلى جانب النظام وجيشه، واختارت خوض الحرب ضد معارضيه، المسلحين منهم وغير المسلحين. كما اصطفت فئات أخرى، ولأسباب قومية، من أجل توكيد الهوية، وبناء كيان قومي حصري.
وهناك، بالطبع، صراع إقليمي، يشمل عدداً من القوى المشرقية، التي تفاوتت مستويات انخراطها في المسألة السورية خلال السنوات السبع الماضية، وتباينت طبيعة علاقاتها من مرحلة إلى أخرى. لعبت السعودية دوراً ما في مساندة الثورة خلال الفترة من 2012 إلى 2015، ثم انسحبت إلى ملفات أخرى. ووقفت تركيا، منذ نهاية 2011، إلى جانب الثورة والشعب، لتصبح أكثر اهتماماً بالتهديد الذي تمثله أجنحة حزب العمال الكردستاني السورية. ولكن إيران، وطيفاً واسعاً من أدواتها الشيعية، تبنت من البداية موقفاً مسانداً للنظام، أصبح أكثر طموحاً مع مرور الوقت، بحيث باتت إيران شريكاً كاملاً في إدارة شؤون البلاد وصناعة قرار النظام. مصر، التي تمسكت بموقف حيادي خلال حكم المجلس العسكري، وأصبحت أكثر ميلاً للثورة والمعارضة خلال ولاية مرسي القصيرة، انتقلت إلى موقع المساند لنظام الأسد بعد انقلاب 3 تموز/يوليو 2013.
الطبقة الأكثر بروزاً وأوقع أثراً في مجريات المسألة السورية مؤخراً هي تلك المتعلقة بالتدخل الدولي، والصراع الآخذ في الاحتدام بين روسيا والولايات المتحدة. انتهجت إدارة أوباما سياسة أقرب إلى عدم الاكتراث بالثورة السورية، انتهت إلى تفضيل بقاء نظام الأسد على انتصار فصائل الثورة المسلحة. ومع صعود داعش المثير في صيف 2014، اتخذ أوباما قرار العودة إلى العراق وسوريا بهدف محاربة الإرهاب. ولكن ثمة مؤشرات متزايدة على أن إدارة ترامب طورت سياسة مختلفة قليلاً.
تنفذ تركيا عملية عسكرية واسعة ومعقدة، لتطهير منطقة عفرين، من الوحدات الكردية المسلحة. والمدهش، أن واشنطن، أبدت تحفظاً على التحرك التركي، بينما اتخذت موسكو موقف التأييد الضمني.
لم تتخل واشنطن ترامب عن مكافحة الإرهاب وهدف اجتثاث داعش، ولكن ثمة اهتماما أمريكيا إضافيا بسوريا، يتعلق بالمواجهة الجيوسياسية مع روسيا والصين، التي تحتل أولى أولويات استراتيجية إدارة ترامب العالمية. لم يخف كبار مسؤولي إدارة ترامب عزمهم على البقاء عسكرياً في سوريا، والبقاء لأجل غير محدد. ما يريده الأمريكيون من هذا التواجد، المفروض بالقوة، وبدون مظلة قانونية دولية، ليس اقتلاع داعش وحسب، ولكن أيضاً الشراكة الفعلية في تقرير مصير سوريا. لتحقيق هذا الهدف، تبنى الأمريكيون الحزب الديمقراطي الكردستاني، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، أداة لهم، حتى لو أدى ذلك إلى استفزاز تركيا، حليف الولايات المتحدة الأقرب والأقدم في الشرق الأوسط.
وتكشف تطورات الأسابيع القليلة الماضية حجم التعقيد الذي يلف المسألة السورية، وحدة التدافع، المباشر وغير المباشر، بين أطرافها المحليين والإقليميين والدوليين.
واجه الأمريكيون، بقوة نيران هائلة، الهجوم الذي حاولت به قوات سورية حكومية، مدعومة بمرتزقة روس وميليشيات شيعية، التقدم إلى منطقة حقول نفط وغاز بالقرب من دير الزور، تسيطر عليها الوحدات الكردية العاملة تحت إشراف الجيش الأمريكي، يوم 7 كانون الثاني/يناير، موقعة عشرات القتلى ومئات الجرحي بالمهاجمين، بما في ذلك أعداد كبيرة من الروس. يدعي الأمريكيون أنهم لم يكونوا على دراية بوجود العناصر الروسية بين المهاجمين، وأنهم التزموا قواعد الاشتباك، التي أبلغوا بها موسكو ودمشق من قبل، بضرورة تجنب أية مواقع يتواجد فيها خبراء عسكريون أمريكيون. ولكن الأرجح أن القيادة المركزية الأمريكية، المسؤولة عن رعاية الوحدات الكردية، كانت تعرف طبيعة المهاجمين، وأنها أرادت إرسال رسالة قاطعة حول الوجود الأمريكي في سورية لموسكو ودمشق.
في الوقت نفسه، تنفذ تركيا عملية عسكرية واسعة ومعقدة، لتطهير منطقة عفرين، في شمالي غرب سوريا، من الوحدات الكردية المسلحة. والمدهش، أن واشنطن، التي أكدت عدم تعهدها أية نشاطات عسكرية في المنطقة، أبدت تحفظاً على التحرك التركي، بينما اتخذت موسكو موقف التأييد الضمني.
إيران، التي تتمتع بعلاقات أفضل مع تركيا منذ صيف 2016، شاركت نظام الأسد معارضة العملية التركية. ولكن التباينات بين أهداف ومصالح إيران وروسيا في سوريا لا تقتصر على عملية عفرين.
ثمة جهات محددة تتحمل المسؤولية الكاملة عن إيصال سورية إلى هذا الوضع الكارثي: نظام الأسد وحلفاؤه في إيران
الإيرانيون قلقون من دعم روسيا للدور التركي العسكري في مراقبة نظام عدم التصعيد، الذي أتاح لتركيا انتشاراً عسكرياً واسع النطاق في ريفي حلب وإدلب. كما أن إيران تبدو عاجزة عن تفسير صمت روسيا، التي يفترض أن تغطي دفاعاتها الجوية السماء السورية، عن استباحة الطيران الإسرائيلي للأجواء السورية، واستهدافها ليس إمدادات حزب الله وحسب، بل ومراكز لوجستية إيرانية. ما يحتمله الموقف الروسي من النشاطات الإسرائيلية العسكرية، إلى جانب التوغل الروسي الاقتصادي والمالي في سوريا، أن موسكو تعمل على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وأنها تجد تأييداً لسياستها هذه من دوائر نافذة في نظام الأسد.
خلال العام الماضي، سيما بعد نجاح قوات النظام في السيطرة على مدينة حلب، أعلن نظام دمشق وحلفاؤه الإيرانيون الانتصار على الثورة السورية؛ ولم يتردد بشار الأسد في التوكيد على أن بسط سيادة نظامه على كافة الأراضي السورية ليست سوى مسألة وقت. اليوم، تقسم سوريا إلى مناطق نفوذ؛ وقد أصبحت المسألة السورية أكثر تعقيداً مما كانت في أي منعطف منذ اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011. ثمة قطاع من البلاد يسيطر علية جيش النظام، مدعوماً بقوات إيرانية وميليشيات شيعية من كل صنف؛ قطاع لم يزل تحت سيطرة فصائل الثورة المسلحة المختلفة؛ قطاع روسي؛ قطاع أمريكي ـ كردي؛ وآخر تركي. قد يتسع نفوذ هذه الجهة قليلاً، أو يتقلص، ولكن أحداً لا يمكنه تقدير موعد خروج القوات الأجنبية المختلفة، وجلوس السوريين، نظاماً ومعارضة، للتوصل إلى حل سوري وطني. الحقيقة، أنه لم يعد هناك من حل سوري.
ثمة جهات محددة تتحمل المسؤولية الكاملة عن إيصال سورية إلى هذا الوضع الكارثي: نظام الأسد وحلفاؤه في إيران. الأسد والإيرانيون من دفع سوريا من مستوى تأزم إلى مستوى أكثر تأزماً. لم يستمع الأسد لحلفائه وأصدقائه العرب والأتراك، الذين نصحوه في بدايات الثورة بمقابلة شعبه في منتصف الطريق، وتصور إن من الممكن هزيمة الشعب بقوة السلاح، كما فعل والده في مطلع الثمانينيات. وعندما فشل في تحقيق الانتصار على الشعب، سارع الأسد إلى استدعاء الإيرانيين والميليشيات الشيعية.
وبالرغم من محاولات أنقرة المتعددة التوصل إلى حل توافقي للأزمة، يكفل مصالح الأطراف المختلفة ويحقق آمال السورييين، رفض الإيرانيون التعاون، وأصروا على بقاء الأسد ونظامه. وعندما أدرك الإيرانيون عجزهم عن حسم المعركة، استدعوا روسيا إلى حلبة الصراع. وبدخول الروس، أصبح تبلور دور أمريكي مواز مسألة وقت فقط. كلما ادعى الأسد والإيرانيون الانتصار، على الجميع التذكر أنهم أخطأوا حسابات هذه الحرب في كل مرة، وفي كل مرة بلا استثناء.