الأمة الإسلامية بطبيعتها كالجسد الواحد، إذا اشتكى فردٌ منها، تداعت له سائر الأمة، ولكن الأمة اليوم في أسوأ حالاتها، لا يدري الواحد فينا مصيبة جاره في الحي، وهذا ما يؤرق المتفكر في مصائب الأمة اليوم، الساعي لوحدتها ونهضتها، لم نعد جسدًا واحدًا، فرقتنا الحدود المرسومة والاستعمار بالوكالة، أصبح الواحد فينا لا يدري أهو من الأمة فعلًا أم أنه عنصر دخيل!
الغُوطةُ، بالضمِّ، هي أحدى جنان الدنيا الأربعة، والثانية أُبُلة البصرة، والثالثة شِعبُ بوان، أما الرابعة فسغدُ سمرقند، قال أبو عبد الله بن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة بوصف دمشق: “فإنها أحسنُ بلادِ الشامِ مكانًا، وأعدلها هواءً، وأطيبها نشرًا، وأكثرها مياهًا، وأغزرها فواكه، وأوفرها مالًا، وأكثرها جندًا، ولها ناحيةٌ تعرفُ بالغوطة طولها مرحلتان في عرض مرحلة، وتشتمل هذه الغوطة على خمسة آلاف بستان وثلاثمائةٍ وخمسةٍ وأربعين بستانًا، وعلى خمسمئة وخمسين كرمًا”.
اليوم لم تعد هي أحسن بلادِ الشام، ولا هي أعدلها هواءً وأكثرها مياهًا، اليوم يموت فيها أهلها من الجوع، اليوم لم تعد تقام فيها الصلاة في المساجد، ليس لأن البلد احتلها الصليبيون كمسجد الحمراء، بل بسبب الإبادة الجماعية والقتل بالجملة، مآذن مدمرة تبكي، وشيخ يصرخ وينادي فجرًا: “صلّوا في بيوتكم، لا صلاة في مسجدي هذا اليوم”.
هذا ما أصبح روتين الحياة اليومي في الغوطة الشرقية عمومًا ودوما تحديدًا، تتصاعد وتيرةُ القصف ويزداد حجم الدمار، إنها حالةٌ غير مسبوقةٍ في التاريخ الحديث، أصبحت البيوت بلا أسقف، سقطت على رؤوس أصحابها، عائلات بأكملها قُتلت، نساءً وأطفالا، تستعمل جميع أنواع الأسلحة، المحرمة منها والكيماوي حتى.
الأيام الأخيرة وحدها كانت حصيلتها أكثر من 300 شهيد، و1600 جريح، محصلة أربعة أيامٍ فقط من القصف الهستيري على المدنيين من نساءٍ وأطفالٍ وشيوخ، مدنٌ محاصرة لا يدخل إليها حليبُ أطفالٍ أو حتى معلباتٍ غذائية، يستمر القصف العشوائي ليلًا ونهارًا، حولوا حياة المدنيين إلى جحيمٍ لا يطاق.
يجمعنا الدين والدم ولكن ألا يكفي دعاؤنا لكم! أصبح حالنا كحال جحا، طالما لم يصل الدمار إلينا فإننا غير معنيين بالأمر
مجرد مشاهدتي للصور يجعل روحي تئن، تشعرني الغوطة بخواء الإنسانية، يحاصرني صراخ النساء والأطفال، أبحث عن مخرجٍ فلا أجد، ودون أن ألاحظ، أنسى كما ننسى جميعًا أن الغوطة جزءٌ من هذه الأمة، ننسى أحاديث رسولنا بأن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، للأسف.. تجاهلها المسلمون، وتجاهلوا أهلها الموحدين، حصار ستة أعوامٍ يعانون ويموتون فيها من الجوع، لقد أكلوا ورق الشجر، أكلوا القطط والكلاب، وما قيمة البلد بلا أهلها، فهي ليست جنة بأرضها، بل بأهلها وناسها، ونحن كما كنا، كنا ولا زلنا، نهرب من واقعنا، إما بروايةٍ أو حكاية أو نهاية درامية ننهي بها حياتنا، ننسى أننا خليفةُ الله في الأرض، ننسى مهمتنا ووظيفتنا، وننام عن نصرة أخوتنا، بأهداف دنيويةٍ صغيرة.
والمصيبة تبدأ بأننا لسنا معنيين بالأمر، لا من قريب ولا من بعيد، حتى مفكري المسلمين ومثقفيهم اليوم في فجوة بين الفكر والنظرية والواقع، والحال اليوم في سوريا كحال فلسطين أو أشد، فلسطين اليوم أصبحت القدس فقط، والمشكلةُ لا تعنينا إنما تعني الفلسطينيين وحدهم، نلومهم على خروجهم منها، نَعيبُ اجتهادهم في بلاد الغربة، ألا فلتعودوا لتحرروا أوطانكم، فشأنكم الداخلي لا يعنينا.
يجمعنا الدين والدم ولكن ألا يكفي دعاؤنا لكم! أصبح حالنا كحال جحا، طالما لم يصل الدمار إلينا فإننا غير معنيين بالأمر، تمامًا كما حصل بالأقاليم الشرقية من الدولة العثمانية عندما احتل الاتحاد السوفييتي الدولة تلو الأخرى ولم يكن المسلمون عمومًا والعرب خصوصًا يدرون ما يحصل في شرق الدولة، أحسنهم حالًا ومعرفةً بأمورهم كان يقتصر أمره على قراءة صحيح البخاري في المساجد فقط.
والنتيجة الحتمية أن انتهى الأمر بتفكيك دولة الخلافة وبعثرة الدول وتقسيمها وتغييرها ديموغرافيًا، أما عند استقلالنا من دول الاستعمار لم نكن أحسن حالًا، اقتصر أمر المسلمين كلٌ على دولته، يغني وينادي بعلمانية وشيوعية وقومية زادت الفرقة تفرقًا، صح ما قاله سيد قطب عند خروج الاستعمار ووصّف الحال الجديدة: “خرج الإنجليز الحمر، وبقي الإنجليز السمر” نعم، داءنا هم الإنجليز السمر، مخيفة كمية الشر التي تجدها فيهم.
أترانا نستحق العيش بعد كل هذا، ألهذا خلقنا، أهذا معنى أخوة المؤمنين! يا لنا من نموذج يحتذى به للأجيال القادمة! فما أحوجنا اليوم لثورة على النفس، ضد الانقياد السلبي الأعمى، على ما عمّت به البلوى، والحديث هنا موجه لي قبل أن يوجّه لك، وليس لأحدٍ آخر، وظيفتنا اليوم بالتفكير في الفرص والحلول، ودمتم مؤثرين فاعلين إيجابيين، وجعلكم الله مباركين أينما كنتم، وآمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبير، حتى لا نكون مَن قال فيهم اللهُ في كتابهِ:
﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.