يكشف الارتباط العاطفيّ الطريقة التي يتصل به أحدنا عاطفيًا مع شخصٍ آخر، ما ينعكس على أمانه وشعوره بالثقة في تلك العلاقة، التي تنعكس بدورها على الكثير من جوانب حياة الشخص الفردية والاجتماعية والعملية وغيرها. وتستند نظرية الارتباط العاطفي على فكرةٍ رئيسية مفادها أنّ ارتباطنا مع والديْنا في مرحلة الطفولة المبكّرة تؤثر لاحقًا على بناء شخصياتنا كبالغين بما في ذلك علاقاتنا الحميمية والعاطفية.
يرى عالم النفس جون بولبي في نظريته الشهيرة أنّ الطفل يولد عاجزًا فيحتاج الارتباط مع والديه أو مع من سمّاهم “مقدّمي الرعاية”، كحاجةٍ أساسية ملحة توفّر له قاعدة آمنة لنموّه وخبرته، تُبنى عليها فيما بعد نظرته لنفسه ولما حوله، وتساعده في استكشاف عالمه الخارجيّ بطرقٍ صحية ذهنيًا وعاطفيًا ونفسيًا.
اعتبر بولبي أنّ القرب الجسمانيّ أو الفيزيائي بين الطفل وأمه في الفترة ما بين الشهر السادس وحتى العامين تعوّل كثيرًا على طبيعة نظرة الطفل للعالم من حوله. ففي اللحظة التي يختبر الطفل قربه من أمه ويجده آمنًا، فإنه سيكتسب الشجاعة اللازمة التي تجعله مستعدًا لاستكشاف بيئته بعيدًا عنها وعن وجودها، فهو مطمئنٌ لوجودها حتى وإنْ ابتعدت أو غابت عنها. إذن فالتحوّل الحاسم ما بين السعي نحو القرب من الأم إلى السعي نحو استقلالية الذات عند الطفل هو جوهر نظرية الارتباط.
هنالك ثلاثة أنماط للارتباط، الآمن والقلِق والتجنبيّ، تعمل ثلاثتها على تكوين شخصية الطفل وعواطفه وأفكاره وعلاقاته بطرق مختلفة تستمرّ معه لمراحل متقدمة
وبكلماتٍ أخرى، عندما يكون ارتباط الطفل بأمه آمنًا بشكلٍ دائم، يصبح الطفل مطمئًا وواثقًا أنّ أيّ ابتعادٍ عن الأمّ في مرحلةٍ ما لن يشكّل خطرًا على علاقته وارتباطه بها وعلى العاطفة الناتجة عن ذلك، فالقاعدة الآمنة توفّر له راحة الاستكشاف وراحة الدنوّ متى ما أراد.
تطوّرت نظرية الارتباط بعد بولبي لتشمل ثلاثة أنماط رئيسية هي؛ الارتباط الآمن “secure attachment” حيث تكون علاقة الطفل بأبويه متزنةً ومستقرة بشكلٍ منظم، يلجأ إليهما متى ما احتاج إليهما فيجدهما أمامه. والارتباط القَلِق “anxious attachment” حيث تكون العلاقة مضطربة يحضر فيها الارتباط حينًا ويغيب أحيانًا أخرى، دون أنْ يحكم علاقة الطفل بأبويه استقرار عاطفيّ واستجابات مفهومة ومتوقعة. أما في الارتباط التجنّبي “avoidant attachment“، يغيب الوالدين أو الأم عن دائرة العلاقة التي تتسم بكونها باردة جافة، فيكونان عاجزيْن عن مدّ طفلهما بحاجاته النفسية والعاطفية الأساسية.
تميل أنماط الارتباط العاطفي لأنْ تكون ثابتة ومستقرة مع مرور الوقت، وتمتدّ لعلاقات الفرد خارج نطاق علاقته مع أمه أو أبويه
ولتوضيح الفكرة أكثر، فالارتباط الآمن للطفل بوالديه يعمل على تكوين قاعدة آمنة وراسخة يستطيع الطفل من خلالها تنمية فضوله واعتماده على ذاته واستقلاليته وبالتالي يصبح أكثر قدرة وكفاءة على التكيف مع العالم الخارجي بما فيه من مواقف وعلاقات وما يتبعها من صعوبات أو تحديات.
لسوء الحظ بالنسبة لكثيرين، يبدو أنّ أنماط الارتباط تميل لأنْ تكون ثابتة ومستقرة مع مرور الوقت، وتمتدّ لعلاقات الفرد خارج نطاق علاقته مع أمه أو أبويه. فمن كان لديه ارتباطًا آمنًا معهما يميل لأنْ يكون أكثر أمانًا واستقرارًا في علاقاته العاطفية طويلة الأمد، في حين أنّ الأفراد الذين اختبروا أنماط ارتباطٍ غير آمنة أو قلقة فيميلون لأنْ تكون تجاربهم العاطفية أكثر سلبيةً، خاصة حين يتعلّق الأمر بالخلافات والمشاكل التي قد تحدث بين طرفيْ العلاقة.
لكنَ الحكم على استحالة الخروج من دائرة نمط الارتباط وآثارها الممتدة قد يكون غير منطقيّ البتة. ففي دراسة طويلة الأمد، كشف عدد من الباحثين النفسيين أنّ احتمالية تغيير نمط الارتباط يعتمد على قابلية الفرد للتغيّر وانفتاحه عليه، الأمر الذي يعتمد في الوقت نفسه على ى مدى استقرار ما يُعرف في علم النفس بمصطلح “النموذج العقليّ” الذي ينطوي على كيفية تمثيل العالم الخارجيّ المحيط بما فيه من علاقات وأشياء وتصوره عن أفعاله أو عواقبها ونتائجها داخل عقل الفرد. وبكلماتٍ أخرى، فالنموذج العقليّ هو صورة العالم الخارجيّ من حولنا داخل عقولنا، وبالتالي يلعب كلّ نموذج فرديّ دورًا كبيرًا في الإدراك والتفكير وصنع القرارات واتخاذ الأحكام وحل المشكلات وتوقّع الأحداث.
احتمالية تغيير نمط الارتباط يعتمد على قابلية الفرد للتغيّر وانفتاحه عليه، الأمر الذي يعتمد في الوقت نفسه على مدى استقرار ما يُعرف في علم النفس بمصطلح “النموذج العقليّ”
هنالك ثلاثة نماذج عقلية يمكن للطفل تطويرها بناءً على نوعية ونمط ارتباطه بأبويه. أولها الثقة، والتي تنشأ نتيجة الارتباط الآمن وتؤدي لاحقًا إلى إيمان الطفل في مراحل حياته المختلفة أنّ الآخرين عمومًا جديرين بالثقة، خاصة حين يتعلّق الأمر بالشريك العاطفي كالحبيب أو الزوج. أما في أنماط الارتباط غير الآمنة حيث تغيب ثقة الطفل بأمه، يصبح الشكّ وانعدام الثقة حاضريْن بقوّة في إطار العلاقات البالغة.
النموذج العقليّ الثاني هو تقدير الذات “Self-worth” ، والذي ينشأ بطبيعة الحال جرّاء الارتباط الآمن، إذ يطوّر الطفل نظرةً صحية لذاته ونفسه وطريقة تعامله مع عالمه ومن حوله، خاصة تطويره لشعور استحقاقه بالاهتمام والحبّ والتواجد. أما في في حالات الارتباط غير الآمن فتغيب ثقة الشخص باستحقاقه للحبّ وينظر لنفسه على أنه غير جديرٍ بمشاعر الاهتمام التي يتلقاها من شريكه، أو قد يعتبر نفسه أقلّ شأنًا من الآخر.
أما النموذج الثالث فهو الارتباط أو الاتصال بالآخرين “Relating“. حيث يؤدي الارتباط الآمن إلى سهولة اتصال الفرد بالآخرين نظرًا لثقته بهم من جهة وثقته بذاته وصورتها من جهةٍ أخرى، فيكون من السهل عنده التواصل مع الآخرين والاتصال بهم، على عكس ما قد ينتج عن الاتصال غير الآمن الذي يفتقر للثقة بالآخرين ويمتاز بانخفاض تقدير الذات عند الشخص.
يتغيّر نمط الارتباط العاطفي بتغيّر شخصية الفرد، إضافةً إلى درجة التنظيم العاطفيّ الذاتي عنده
ونظرًا لأنّ النماذج الثلاثة السابقة تُعتبر جزءًا من شخصية الفرد التي تمتاز بقدرتها على التغيّر نظرًا للعوامل البيئية المحيطة أو نظرًا لرغبة الفرد وميله نحو ذلك عوضًا عن مرحلته العمرية، فيمكننا القول أنّه من الممكن أنْ يتمّ تغيير نمط الارتباط وطريقة نظرنا للعلاقات العاطفية أو الحميمية في حياتنا. خذ على سبيل المثال مرحلة المراهقة التي تمتاز بالخبرة الأقل إضافةً للاندفاع المحكوم بيولوجيًا، والذي قد يؤثر على نمط العلاقات و الارتباط بها بطريقةٍ تختلف عن ما قد نكون عليه في مراحل عمرية لاحقة تتسم بنضوجٍ أكبر وخبراتٍ أكثر.
كما يلعب التنظيم العاطفي الذاتي، أحد الأركان الأربعة للذكاء العاطفي، والذي ينطوي على قدرتنا على توظيف إدراكنا لعواطفنا بهدف الحفاظ على مرونتها اجتماعيًا وتوجيه سلوكنا بإيجابية بما يسمح بالسيطرة على الإثارة العاطفية وتنظيم نوعية الأفكار وردود الأفعال تجاه الآخرين، دورًا كبيرًا في تجاوزنا لآثار نمط الارتباط غير الآمن الذي قد تكون اتّسمت به علاقاتنا مع والديْنا.
ومع ذلك، يحتاج تغيير نمط الارتباط وتبديل آثاره إلى الكثير من الوعي والجهد، إذ أنّه لا يعتبر جانبًا بسيطًا من حياة الفرد وإنما هو هيكلٌ معقّد من السلوكيات والإدراكات وطرق تمثيل العالم والعلاقات من حولنا، الأمر الذي يحتاج وقتًا ويصبح أكثر ليونة مع الخبرات ومحاولة الاستفادة منها.