على مدى خمسة عشر عاماً أوثق المؤتمر الشعبي صلاته ضمن قوى المعارضة السودانية، عاملاً هو الأفعل في خطة برنامج عام تواضعت عليه تلك القوى يهدف لأسقاط النظام، لكن الرؤية العامة للمؤتمر الشعبي في الآونة الأخيرة، مهما استمسك ببرنامج تحالف المعارضة، خرجت في تمثلاتها الأخيرة ترجو تحولاً سلمياً في الحكم يقوم على الطوع تنازلاً من هنا وهناك يجنب البلاد اضطرابات ثورة شعبية لا تتضابط قواها وجمهورها وفق برامج حاكمة وتصورات بيّنة تضمن سلامة الوطن ووحدته، منذئذٍ بدت رؤية المؤتمر الشعبي مجافية لما أقرته خطط تحالف المعارضة يختط طريقاً جديداً يفضي إلى حوار السلطة وحزبها، ذات التوجه الذي انتهى باللقاء الرسمي الأول بين قيادة المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني مساء الجمعة منتصف شهر مارس من العام (2014) وقد خلص الإجتماع بين الطرفين على حسب ما أعلن عنه متحدثون من الطرفين، إلى أتفاق على أن لا يستثنى حزب أو تنظيم من الحوار السياسي وقضاياه والعمل على بدء مشروع الحوار الوطني الشامل بأسرع وقت على أن تحدد القوى السياسية موضوعات الحوار والمدى الزمني الحاكم له.
وكان المؤتمر الشعبي قد نشر ورقة تنظيمية بين يدي لقاء أمينه العام بالبشير مساء الجمعة حملت عنوان (قراءة المؤتمر الشعبي للحوار الوطني) وقد جاءت الورقة محاولة لتوضيح المنطلقات التي يتحرك من عندها المؤتمر نحو الحوار من بعد مواقف متشددة لا ترجو غير اسقاط النظام وتفسر ورقة الشعبي التحول الذي حدث في موقفهم بالقول: “أن الله قد هيّأ سبيلاً كان يرجوه المتحذرون من المخاطر الكبرى الماحقة، إذ بدرت بادرة لين في القول نادرة من أصحاب السلطة، وخرجت ألفاظ تعقل ما ألفها الناس من قبل، بل وقدمت كلمات دعوة للجنوح إلى السلم، واستعداد لطرح أزمات البلاد كلها على مائدة متكافئة مرعية ومشهودة من العالم، فذهب الرأي مشورة نحو اختبار الواقعة، وفحص مقدار جديتها وقياس إمكان تحقيقها لذات المأمولات التي سعت لها الحركة في مصابرتها ومسيرها وإتفاقاتها، فإن كانوا قد جنحوا فعلا للسلم “.. فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ” ، فإن تحققت توبة وأوبة لقيم الدين وهديه ، فإن الحركة من شأنها أن تدفع بتلك التوبة والأوبة إلى أقصاها، معينة أهلها لا مخذلة لهم، “فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”
لكن منذ أن طفت إلى السطح بادرة استجابة المؤتمر الشعبي لدعوة رئيس المؤتمر الوطني لحوار حول القضايا الوطنية ظلت مخاوف عديدة تنتاب القوى السياسية في الساحة لا سيما القوى التي تحمل توجهات ورؤى علمانية تناقض تصورات المؤتمر الشعبي في السياسة والحكم التي تحمل صبغة أسلامية، وقد تسربت تلك المخاوف إلى الشارع العام يحملها أفذاذ من الجمهور يعرب عن خشية أن يفضي التلاق بين البشير والشيخ الترابي إلى وحدة تنظيمية وأصطفاف إسلامي، همه الأول يسبق كل هم وطني يضع مصلحة البلاد والعباد في المقدمة.
كانت قيادة تحالف قوى الإجماع الوطني هي الأسبق في التعبير عن مخاوف انتابتها فور شهود الأمين العام للمؤتمر الشعبي على خطاب البشير الذي ألقاه في قاعة الصداقة وأطلق من خلاله مبادرته للحوار الوطني، إذ سرعان ما أتخذ التحالف قرارات جرّد بموجبها الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي من تكاليف رئاسة لجنة الإعلام التي كانت تقدمه بصفته ناطقاً بسم التحالف، ثم أتبع تلك الإجراءات بأخرى تبعد كل منسوبي الشعبي عن رئاسة أي لجنة وتجردهم من كل وظيفة في مستويات الشباب والطلاب ضمن هياكل قوى الإجماع الوطني، وإذ لم يخرج التحالف بياناً يحمل حيثيثات توضح الدوافع التي أملت تلك الإجراءات فإن مجيئها في ذلك التوقيت مثل إشارة واضحة أعقبتها تصريحات عديدة لقيادات في التحالف تحذر من مغبّة أنخراط المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني في حوار تتحرف فيه فصائل الإسلاميين إلى فئتها بما يفضي إلى إعادة لحمة الحركة الإسلامية وتوحيد صفوفها من جديد كتلة واحدة تقوم في مواجهة القوى السياسية المعارضة بما يطيل من عمر النظامويعضد دعائم حكمه التي بدت تتهاوى شيئاً ما بحسب ما ترة المعارضة.
هذا وكان الحزب الشيوعي السوداني قد أعلن –منذ البداية- رفضه دعوة للحوار تلقاها من المؤتمر الوطني قبل أن يعود القيادي في الحزب صديق يوسف يجدد بالأمس رفضهم لأي حوار مع الحكومة وصفه بأنه لا يعدو أن يكون (حوار طرشان) وطالب الأحزاب والجماهير بحشد قواها لإجبار النظام على القبول باستحقاق الحوار الوطني، لكن التعبير عن الرفض الأشد لأي فرصة تعيد تكتل الإسلاميين ومحاولة إحياء مشروعهم في السلطة جاء على لسان رئيس حزب الأمة الإمام الصادق المهدي الذي قال: “أن أحزاب المعارضة اتفقت مع السلطة الحاكمة، على تنظيم مؤتمر تحضيري خلال الأيام المقبلة، للتفاوض على تحديد آلية للحوار، فضلًا عن تحديد مدى زمني معين لكل مطالب المعارضة بشأن الانتخابات المقبلة.
وأكّد المهدي أنه لا غبار حول الحوار بين المؤتمر الشعبي والوطني إن جاء في سياق الوفاق الوطني وليس محاولة إعادة التمكين في السلطة وأستدرك المهدي خلال حديث لبرنامج “ضيف اليوم” – أذيع على قناة الغد العربي قائلاً: “إذا لم توافق السلطة الحاكمة على مطالب المعارضة، سنقوم بتعبئة الشعب على انتفاضة شعبية” مذكراً بأن: “الحكومة الحالية هي التي دعت إلى الحوار، لأن الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد سيئة للغاية.”
لكن الورقة التي حملت قراءة المؤتمر الشعبي للحوار الوطني لم تغفل أن تستعرض مخاوف تلك القوى وعلى رأسها حزب الأمة الذي ردت مخاوفه إلى محاذرة اقتطاع تيار الإسلاميين العريض رصيده السلطوي وجماهيره لا سيما وهو يعاني من تسرب قطاعات كبيرة من جماهيره بفعل الإنقطاع الطويل عن تعدها بالوصل ورد المؤتمر الشعبي مخاوف الأحزاب الطائفية إلى: “أنها تمركز حول إمكانية أن يفضي هذا الحوار إلى تكتل للقوى الإسلامية لا سيما في وحدة تنظيمي المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني ، مما قد يسفر عن قوة سياسية كبيرة للتيار الإسلامي غير طائفي، الأمر الذي يخصم من نصيب هذه القوى ورصيدها السلطوي والجماهيري، إذ أنها تعاني من فقدان رصيدها الجماهيري بفعل انقطاعها الطويل عن قواعدها ومواقفها غير المرضية، لاسيما في أطراف البلاد التي تعاني من توترات أفضت للنزاع المسلح..”
ورد المؤتمرالشعبي الشبهات التي تثيرها جملة الأحزاب العلمانية إلى تخوفها من مد سورة التوجه الإسلامي في المجتمع وأضمحلال دعواتها التي تجانب بين الدين والسياسة، سوى أملها في ذهاب ريج الحركة الإسلامية حال سقوط النظام بفعل الثورة الشعبية يقول: “والأحزاب التي تقوم مشاريعها السياسية العلمانية المناقضة بطبيعة الحال للتوجهات الإسلامية ، كون أن هذه المشاريع كانت تراهن كثيراً على نهاية كارثية لحكم الإسلاميين في السودان مما يستأصل شأفتهم ويخلي الساحة لصراع سياسي يخرج منه الإسلاميون ، أو يكونون فيه بلا روح أو تأثير كبير ولو بعد حين، ثانيها أن هذه القوى ستعتبر نجاح الحوار هو هزيمة لمشروعها الطموح في إسقاط النظام ، وثالثها خشية هذه القوى من تضاعف تأثير الإسلاميين في المجتمع والسلطة لاسيما في وحدتهم المروج لها ، ونجاحهم في حل الأزمة السياسية بخسائر أقل ، مما قد ينعكس في عظم تأثيرهم القادم في السلطة ومزيداً من الضعف للقوى العلمانية الضعيفة أصلاً . أما رابع المنفرات هو الخشية من أن يكون الحوار مجرد مناورة سياسية وليس رغبة حقيقة في حل الأزمة السودانية …”