قبل أن تبدأ القضية الفلسطينية فصلها الجديد في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي ترى جبهتها المشتعلة في شمال الضفة المحتلة، تحديدًا في جنين وطولكرم ونابلس، ونفذت اجتياحات متكررة وقتلت واعتقلت مقاومين ومطاردين في الفصائل العسكرية المختلفة، وبعدما اندلع طوفان الأقصى كثفت من عملياتها العسكرية في مخيمات جنين ونور شمس وطولكرم وبلاطة، كي لا تندلع الجبهة المشتعلة بقوتها السابقة وجيش الاحتلال غارق في وحل غزة.
وبينما كانت آليات الاحتلال وجرافاته تجرف مرارًا وتكرارًا أزقة المخيمات في شمال الضفة، في مدن مثلث الرعب (نابلس وطولكرم وجنين)، وتعمل قوات الاحتلال على استنزاف المقاومين في الكتائب المسلحة بهذه المخيمات في ظل نقص إمداد الذخيرة والسلاح بفعل انقطاع قنوات الإمداد من قطاع غزة، كانت مدينة أخرى لم تدخل في حسبان الاحتلال تعدّ عدتها للاشتعال، وتدخل معادلة الضفة بعد الطوفان: مدينة قلقيلية.
المدينة المحاصرة
قلقيلية، هي المدينة التي تقع بين سلفيت جنوبًا وطولكرم شمالًا، وتحدها نابلس من شرقها والأراضي الفلسطينية المحتلة من غربها، فضلًا عن محاذاتها خط الداخل المحتل، ولها أهمية استراتيجية كبيرة لوقوعها فوق حوض المياه الغربي، الذي يشكل 64% من مياه الضفة الغربية الجوفية.
يحاصرها الاحتلال الإسرائيلي بجدار عازل يلتف حول أراضيها بطول 40 كيلومترًا، ليعزلها خلفه، ويمنع أصحابها من الوصول إليها إلا عبر بوابات وتصاريح خاصة، بينما يُبقي مدخلها الشرقي والوحيد متنفسًا لتنقل السكان، ولكنه يغلقه عسكريًا متى شاء.
إضافة إلى جدار الفصل العنصري، أقام الاحتلال الإسرائيلي 25 مستوطنة وبؤرة استيطانية تسيطر على نصف أراضي قلقيلية، ويقارب عدد المستوطنين فيها تعداد السكان الفلسطينيين بالمحافظة، ويقطن في مستوطنة قدوميم المستوطن المتطرف بتسلئيل سموتريتش وزير المالية في حكومة الاحتلال.
وعند تفكيك مستوطنات سيناء بعد معاهدة السلام “كامب ديفيد”، نُقل المستوطنون إلى مدن سلفيت وقلقيلية، كما نُقل إليها مستوطنو “غوش قطيف” في غزة بعد تفكيك مستوطناتهم وإخلائها في 2005.
وساهم في تسهيل حصار مدينة قلقيلية وابتلاع الاستيطان والجدار أراضيها، اتفاقية أوسلو عام 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، حيث حددت الاتفاقية 3% فقط من أراضي محافظة قلقيلية المقدرة بأكثر من 170 ألف دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع) بمناطق “أ” و”ب”، فيما سُلّم 97% مما تبقى منها مناطق “ج”، ويصعب الوصول إلى معظم تلك الأراضي.
وكبقية المدن الفلسطينية خلال حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين، أغلق الاحتلال مداخل قراها بالحواجز والبوابات الحديدية، ونصب عند بلدة عزون 3 أبراج عسكرية ومعسكرًا دائمًا، وحوّل المنطقة لثكنة عسكرية، وارتقى 23 فلسطينيًا في المحافظة.
كما اتخذ الاحتلال قرارًا عسكريًا عبر المحكمة العليا للإسراع في شق شارع التفافي استيطاني عبر قرى قلقيلية الشرقية، وضيَّق بشكل أكبر على تنقل الفلسطينيين بتشديد إجراءاته العسكرية على مدخلها، وصعَّد من اقتحاماته واعتداءاته على المدينة بحجة ملاحقة المطلوبين.
قلقيلية.. حيث فتح والسلطة
لم تكن المفارقة في مدينة قلقيلية فقط بظهور حالة المقاومة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فيما كانت بقية ساحات الضفة مشتعلة قبل طوفان الأقصى، بل كانت المفارقة الكُبرى في خصوصية مدينة قلقيلية كإحدى معاقل حركة فتح والسلطة الفلسطينية منذ قدوم السلطة عام 1993، وفوز قوائم حركة فتح بانتخابات الهيئات المحلية.
في أعقاب الحسم العسكري في قطاع غزة، وسيطرة حماس على القطاع وطرد السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية عام 2007، كانت القبضة الأمنية للسلطة الفلسطينية بالضفة المحتلة تشتد في قلقيلية، حيث قتلت عناصر السلطة 10 فلسطينيين جراء ملاحقتها لكوادر كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس في المدينة.
ثم جاءت آخر انتخابات هيئات محلية شهدتها الضفة عام 2021/2022، حين لم تحقق قوائم فتح الرسمية فوزًا إلا في مدينتي جنين وقلقيلية، حيث فازت بـ7 مقاعد من أصل 15 مقعدًا في قلقيلية مقابل 5 مقاعد لكتلة “الأمل” المكونة من تحالف حماس والجبهة الشعبية، و3 مقاعد للكتلة المستقلة.
وقبيل الطوفان وخلالها، شهدت مدينة قلقيلية أعلى الأرقام في مدن الضفة الغربية من حيث الاعتقال السياسي، جميعهم أسرى محررون في سجون الاحتلال، ثم غيّبوا لأشهر في سجون السلطة الفلسطينية وقد وجهت إليهم تهم حيازة السلاح وجمع الأموال، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقالهم مرة أخرى بعد الإفراج عنهم من سجون السلطة مثل موسى نزال الصوي ومؤيد شريم وزكي داوود، أو ملاحقتهم وإطلاق النار واستهدافهم كما حصل مع الناشطة زهرة خدج.
مع ذلك.. مقاومة!
بين المستوطنات وجدار الفصل العنصري من جهة، والقبضة الأمنية للسلطة الفلسطينية من جهة أخرى، خرجت مدينة قلقيلية خلال طوفان الأقصى لتثبت القدرة على المواجهة، وللمرة الأولى منذ سنواتٍ طويلة، تشتبك قلقيلية مع قوات الاحتلال بالرصاص والعبوات المتفجرة وتزرع له الكمائن.
ففي بلدة عزون شرق مدينة قلقيلية، فككت الأجهزة الأمنية في 24 ديسمبر/كانون الأول 2023، 3 عبوات متفجرة كبيرة الحجم في البلدة، مع مصادرتها لمجموعة من القنابل محلية الصنع، وهي عبوات وقنابل يجهزها المقاومون للتصدي لاقتحامات جيش الاحتلال.
وأعلنت كتائب شهداء الأقصى التي تتبع تاريخيًا لحركة فتح (رغم أن الحركة حلّتها عام 2005) في قلقيلية أنّ مقاتليها تمكنوا من التصدي لقوات الاحتلال وآلياته العسكرية المقتحمة للمدينة بالأسلحة الرشاشة والعبوات الناسفة، أكثر من مرة.
أما كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فسبق أن تبنت تفجير عبوة ناسفة عند الحاجز العسكري الإسرائيلي شمالي المدينة، وما لبثت أن أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ كمين مسلح، وأطلقت النيران صوب حافلة للمستوطنين وأصابت اثنين منهم، أحدهما بجراح خطيرة، والأخطر أنها صورت الكمين واستدرجت جنود الاحتلال لمركبة مفخخة استخدمتها في العملية.
وخلال حرب الإبادة، نفذ الاحتلال الإسرائيلي عمليتي اغتيال لمقاومين في مدينة قلقيلية، في المرة الأولى قتل المقاومان علاء نزال وأنس قراقع مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، من خلال قوات إسرائيلية خاصة أطلقت النار عليهما في مركبتهما، والثانية حين اغتال إيهاب أبو حامد ورفيقه محمود منصور.
وأخذت المقاومة في قلقيلية بداية “الطابع الفردي” وجسَّده الشهيد علاء نزال، لكن مقاومين سارعوا بعدها إلى تشكيل “مجموعات ليوث المجد” التابعة لكتائب شهداء الأقصى والمحسوبة على حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
وبعد أشهر، تشكلت “كتيبة قلقيلية – سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ورغم خفوت وميضها بداية، فإنها عادت وأعلنت في بيان لها، مطلع شهر يونيو/حزيران، إطلاق أول أعمالها المقاومة بتفجير عبوة ناسفة بقوة تابعة للاحتلال اقتحمت المدينة.
ولم تصمت قلقيلية على ثأرها، فقتلت خلال يومين في شهر يونيو/حزيران 2024، مستوطنين اثنين، حين قتل شبان مستوطنًا بالهجوم عليه، بعد إعدام الاحتلال طفلًا فلسطينيًا يدعى نعيم سمحة، 15 عامًا، بعد إطلاق الرصاص بصورة مباشرة عليه، ما أدى لاستشهاده.
وبعد اغتيال أبو حامد ومنصور، قتل شبانٌ مستوطنًا دخل المدينة بإطلاق النار عليه داخل مركبته، قبل أن يتنبه الاحتلال بعد دقائق طويلة على العملية ويغلق مدخل قلقيلية الأساسي.
تكمن أهمية حالة المقاومة التي تعيشها قلقيلية خلال طوفان الأقصى، بأن متصدري الحالة مقاومون محسوبون على حركة فتح بشكل أساسي، ما يعني بالضرورة فقدان السلطة الفلسطينية لمركز آخر من مراكز سيطرتها ونفوذ تنسيقها الأمني، إضافة إلى قدرة ساحة جديدة على الدخول لخط المواجهة رغم كل الاعتقالات وعمليات القتل التي نفذها الاحتلال في الضفة المحتلة لتحييدها عن المقاومة.