يقول جاستين بولار وهاورد ريد مؤلفا كتاب يتعلق بأصل المدن القديمة يُسمى “صعود وسقوط مدينة الإسكندرية” “كانت الإسكندرية أعظم بوتقة فكرية عرفها العالم، حيث صيغت الأسس التي سيقوم عليها العالم الجديد، بالأفكار وليس بالحجارة، في أروقة تلك المدينة” فهي نتاج ألفي عامًا من تطور الحضارة، وهي من إحدى المدن القليلة التي ترتبط بها الخرافات أو الأساطير حول تاريخها وتاريخ بنائها.
ولأن الإسكندرية هي مدينة نتجت من تطور حضاري استمر لأكثر من 2000 عامًا، هُدم منها أكثر ما بُني فيها، وطمست مياه البحر كثير من العمران الذي أُنشأ عليها على مدار تلك السنوات، مما سمح لكثير من الخرافات والأساطير أن تنتشر في التاريخ حول قصة بناء هذه المدينة التي تعدت حدود المياه لتُبنى عليها.
تعتبر قصة بناء الإسكندرية الأشهر المعروفة بـ “تحفة دينوقراطس” هي القصة الأكثر انتشارًا من بين الأساطير المختلفة حول قصة بناء الإسكندرية، والتي تعود إلى المعمار “دينوقراطس” تلميذ “هيبوداموس”، الرجل المسؤول عن بناء ميناء أثينا العظيم المعروف بأبي التخطيط الحضري، قدم “دينوقراطس” الإسكندرية، المدينة التي ستحمل اسم الإسكندر فيما بعد، كتحفة معمارية رغم الصعوبات التي واجهته، والتي اعتبرها الكثيرون نذير شؤم على المدينة، إلا وأنها قد كانت، إذ أن “تحفة دينوقراطس” غرقت دون أن يبقى لها أي أثر.
ما بين الحقيقة والخيال، شكل تاريخ بناء مدينة الإسكندرية كثير من الخرافات، التي امتزجت مع التاريخ وحكايات الأقدمين لتكون في النهاية ما نعرفه بمصطلح الأسطورة، ولقد تناول المؤرخون المسلمون أساطير مدينة الإسكندرية في كثير من المراجع التاريخية مثل “عرائس المجالس” أو “معجم البلدان”.
تُروى حكاية الإسكندرية في كثير من الكتب العربية والغربية، من بين الكتب العربية أربعة كتب لمؤرخين وجغرافيين عايشوا الإسكندرية في أربعة حقب مختلفة، هذه الكتب هي لـ ياقوت الحموي (جغرافي)، وتقي الدين المقريزي (مؤرخ)، وجلال الدين السيوطي (فقيه ومفسر ومؤرخ)، وأوليا جَلَبي (رحالة)، الذين عايشوا الإسكندرية في أوقات مختلفة.
تعتبر قصة بناء الإسكندرية الأشهر المعروفة بـ “تحفة دينوقراطس” هي القصة الأكثر انتشارًا من بين الأساطير المختلفة حول قصة بناء الإسكندرية
عاصر الحموي هجوم المغول على المشرق العربي، والمقريزي عاصر منتصف حكم المماليك لمصر والشام بما فيه من تحولات وأزمات، والسيوطي عاش فترة قايتباي الذي يوصف بأنه آخر السلاطين الأقوياء في دولة المماليك، أما أوليا جلبي فرحالة تركي من أبناء القرن السابع عشر الميلادي، وحضر صراع الإمبراطوريات الأوروبية مع الإمبراطورية العثمانية.
أسطورة تشبه رواية صاحب البستان
ميناء الإسكندرية قديمًا
أولى الأساطير عن الإسكندرية تشبه كثيرة قصة صاحب البستان المذكورة في القرآن، الذي تكبّر على الله فدمّر الله بستانه، تقول رواية ينقلها ياقوت الحموي إن مَلِكًا رزق بولدين هما “إسكندر” و”فرما”، وورّث كل منهما جزءًا من مصر، فورِث إسكندر من شمالها قرب قرية تُدعَى راقودة، وورث فرما أرضًا في شمال الصحراء الشرقية عند خليج السويس حاليًّا (خليج الفرما سابقًا)، ليبني لكل واحد منهم مدينة باسمه فأكرم الإسكندر مدينته وسكانها فأكرمه الله وعمرها، أما “فرما” فطغى فعاقبه الله بهلاك ما عمّره وبناه.
تكمن عبقرية “دينوقراطس” في مدّ خطوط تصميمه لتتعدى المياه، فبنى جسراً عرضه 600 قدم معروف باسم Heptastadion وهو أطول بسبع مرّات من الملعب اليوناني
الرواية الأخرى تتعلق بتأثير هذه المدينة على الحياة المعاصرة الذي يكمن في تصميمها، فقد تصّور كبير المعماريين لدى الإسكندر “دينوقراطس” تصميم المدينة على شكل ملعب كرة قدم، يجمع بين المساحات الخاصة والعامة وبين اليابسة والبحر.
وفي غياب الطبشور لتحديد شكل الطرق المستقبلية والمنازل وأقنية المياه، لجأ “دينوقراطس” إلى استعمال الطحين، ولكن حالما قام المساحون بحساب الزوايا، والعمّال بنثر الطحين المطلوب، انقضّت أسرابٌ من طيور البحر على الطحين المخصص لوضع مخطط المدينة، حيث اعتبر كثيرون أن ذلك نذير شؤم على بنائها.
ولكن استمر العمل، وحُددت الأماكن التي سيبنى عليها قصر الاسكندر، والمعابد للآلهة اليونانية والمصرية، والمنطقة التي تضم متاجر ومراكز للتجمع، قبل واقعة الطيور، وحددت المساحات السكنية، وجرّت الماء إلى المدينة من نهر النيل عبر جداول صغيرة تمر من تحت الشوارع الرئيسية، لتزويد منازل الأثرياء بالماء العذب.
تكمن عبقرية “دينوقراطس” في مدّ خطوط تصميمه لتتعدى المياه، فبنى جسراً عرضه 600 قدم معروف باسم Heptastadion وهو أطول بسبع مرّات من الملعب اليوناني، وأدى تشييده إلى خلق مساحة لبناء مرفأين على جانبه كما هو واضح في الصورة أدناه، والذي وصفته الكاتبة جوديث ماكنيز في كتاب “عمارة الإسكندرية” كالتالي “لدينا الجسر الضخم ومرفأين على جانبيه ومنارةٌ تطل عليهما، إنّها خطةٌ متكاملة ولقد نجحت”، وهو ما لم يحي الإسكندر الأكبر ليراه.
أمر الإسكندر ببناء تماثيل تحمل في يدها فأس لتخيف الكائنات الموجودة تحت الماء في حالة اقترابها من العمران لمنعها من هدمه
أسطورة عروس البحر
اكتشاف تماثيل تحت المياه في مدنية الإسكندرية غرقت منذ 1200 سنة
لأسطورة عروس البحر صيت واسع في الكتب والروايات الخيالية وحتى الأفلام أيضًا، إلا أن المركز الرئيسي لتصدير هذه الأسطورة كانت مدينة الإسكندرية، فكان لتاريخ المدينة العمراني باع طويل في اختلاق الخرافات حول أسباب انهدام العمران أكثر من مرة وغرق المدينة أكثر من مرة أو أسباب غضب الآلهة لمنع إتمام البنيان، كان من بين تلك الأسباب هي “عروس البحر”، نقل المقريزي أن الإسكندر حين أراد بناء مدينته على موقعها، علم أن أهل القرية لا يخرجون ليلًا قط، لأن من خرج ليلًا خطفته “شياطين البحر”، فبدأ في البناء بالنهار، لكن “الشياطين” أو في روايات أخرى “كائنات ماورائية تعيش في البحار” لم تتركه، حيث وجد كل ما بناه مخربًا في اليوم التالي.
أمر الإسكندر ببناء تماثيل تحمل في يدها فأس لتخيف الكائنات الموجودة تحت الماء في حالة اقترابها من العمران لمنعها من هدمه، فإذا اقتربوا يجدون تلك التماثيل تحت الماء فتُخيفهم ليهربوا، تبدو هذه الأسطورة بعيدة كثيرًا عن التصديق إلا أن قبل خمسة أعوام تم اكتشاف مدينة كاملة مغمورة بالمياه تحت الإسكندرية من بينها تماثيل مهدومة غرقت قبل آلاف السنين.
أسطورة المدينة محروسة بالتعاويذ
صورة قديمة للإسكندرية
ذكر المقريزي والحموي رواية أخرى، عن راعي غنم شاب عاصَر بداية بناء المدينة، وكان إذا ترك أغنامه ليلًا عاد فوجد منها واحدة ناقصة، فشك أن شيئًا يخرج من البحر يختطفها فسهر واختبأ ليجد فتاة من “أهل البحر” تخرج من الماء، لها شعر طويل منفوش، تحاول خطف شاة من قطيعه، فوثب عليها وصارعها حتى شل حركتها وحملها إلى بيته، ثم لاطفها فتعلقت به، وعاشت معه وأنجبت منه.
فلما أنجبت وأصبحت زوجًا له، فشكا لها أن البنيان في الإسكندرية لا يستقر، وأنهم كلما بنوا منه شيئًا ثَقُل على التربة وغاص فيها، لتصنع له الفتاة طلاسم وتعاويذ لتثبت العمران الذي امتد على البحار.
بناة الإسكندرية: قوم عاد وذو القرنين
صورة قديمة مرسومة للإسكندرية
يحمل تاريخ بناء الإسكندرية الكثير من الروايات عن إعادة بنائها أكثر من مرة بعد غرقها تحت مياه البحر في العديد من المرات، لذلك يحمل التاريخ العديد من المفارقات والروايات المختلفة حول أول من بنى المدينة، وعلى الرغم من أن العديد من الروايات تتضمن أساطير خيالية لها علاقة بكائنات ماورائية إلخ، يحمل تاريخ بناء الإسكندرية ارتباطًا بالمعتقدات الدينية أيضًا، فكان لها ارتباطًا بقوم غاد و ذو القرنين في الأساطير أيضًا.
أما قوم عاد، فقيل في ما كتب ياقوت الحموي إنه شخص يدعى “يَعمُر بن شداد بن عاد”، قد كتب على حجر فيها نقشًا نصه: “أنا يعمر بن شداد، أنشأت هذه المدينة وبنيت قناطرها ومعابرها قبل أن أضع حجرًا على حجر، وأجريت ماءها لأرفق بعمالها حتى لا يشق عليهم نقل الماء، وصنعت معابر لممر أهل السبيل وسَيّرتُها إلى البحر”، كما روى المقريزي أيضًا أنه كان مكتوب بلغة أهل حِمْيَر (في اليمن) على حجر: “أنا شداد بن عاد، الذي نَصَب العماد وجنّد الأجناد وسد بساعده الواد” وروي أن المقصور بـ”إرم ذات العماد” هي مدينة الإسكندرية، إلا أنه لم يُثبت صحة ذلك.
لا تنتهي أساطير بناء الأسكندرية عند هذا الحد، إذ أنها من أكثر المدن التي استفزت الجيوش للسيطرة عليها من شتى بقاع الأرض
كما روت بعض الروايات الخاصة ببناء الإسكندر للمدينة أنه هو المقصود به “ذو القرنين”، حيث روى “معجم البلدان” للحموي أنه حين أراد بناء المدينة دخل هيكلًا مقدسًا، فقرب القرابين وسأل ربه أن يريه شأن مدينته، فنام فرأى رجلًا يبشره بأنها مدينة تكون محصنة من الوخم والمرض، عامرة بالناس، محروسة من الأعداء والجيوش، ذائعة الشهرة. فبناها وسماها باسمه، ثم سافر إلى بابل فمات هناك، لتناسب رواية أن ذو القرنين غلام من الروم منحه الله الملك.
لا تنتهي أساطير بناء الأسكندرية عند هذا الحد، إذ أنها من أكثر المدن التي استفزت الجيوش للسيطرة عليها من شتى بقاع الأرض، واستفز سحر تشييدها وبنائها الكثير من المؤرخين للكتابة عنه و اختلاق الأساطير التي تشرح ذلك السحر في العمارة، لتختلط الخرافات بالحقيقة والواقع بالخيال والماضي بالحاضر.