“يحب الأتراك الزهور كثيرًا، لدرجة تصل إلى أن تنفق سيدة كل أموالها من أجل شراء وردة لتزيين شعرها، كالنساء في جنوة الإيطالية، لهذا السبب تجد العديد من المحلات التجارية لبيع الزهور مفتوحة طيلة فصل الصيف، روعة جمال الزهور الصفراء والزرقاء والحمراء في حديقة السلطان إبراهيم باشا على ضفاف البوسفور أمر عجيب، الأتراك يحبون الزهور، دائمًا ما يحملون الزهور بين أيديهم أو على عمائم”، هذا ما قاله الحقوقي والدبلوماسي الفرنسي فيسنيه كاني، خلال إقامته في إسطنبول عام 1573 عن تعلق الأتراك بهذه النباتات العطرة.
تشتهر تركيا بجمال طبيعتها وتنوع ثقافتها، مما ساهم في جعلها واحدة من الوجهات السياحية الرئيسية في العالم، ومن أكثر الأمور التي يلاحظها الزائر فيها انتشار باعة الزهور – غالبيتهم من الغجر المتنقلين في جميع مدنها وشوارعها بحثًا عن المال مقابل جمال هذه الورود- ، ولكن اهتمام الثقافة التركية بهذه الزهور ليس بتلك السطحية، فهي جزء متأصل في تاريخهم القديم الذي يعود إلى عهد الدولة العثمانية.
يتضح اهتمام تركيا بشكل كبير بالزهور وزراعتها من خلال المهرجانات السنوية التي تنظمها الحكومة في فصل الربيع احتفالًا بملايين الورود التي تزرعها في الحدائق، ولا يقف اهتمامها عند هذا الحد، إذ تحتل الزهور مساحة واسعة من الأعمال الفنية والأدبية التركية أيضًا، مثل نقشها على الزخارف والسيوف والملابس، ورسمها على أغلفة الكتب واللوحات والمنسوجات والأرضيات.
الدولة العثمانية: الزهور بديلة للسيوف
حظيت الزهور باهتمام واسع في الإمبراطورية العثمانية بدءًا من عهد السلطان محمد الفاتح عندما دخل القسطنطينية عام 1453، وعرضت لوحة له حاملًا فيها زهرة بديلة للسيف، الأمر الذي جذب اهتمام وأنظار الناس، حتى امتلأت البلاد بعد ذلك بالحدائق، وأصبحت النساء تزين شعورهن بالزهور، ويحمل أعضاء المحكمة وردة بأيديهم، كما تذكر المصادر التاريخية أنه في القرن السادس عشر كان هناك أكثر من مئتي محل لبيع الزهور في المدينة.
ومنذ ذاك الوقت، استخدمت الزهور كوسيلة للتواصل والتعبير بين السكان، فمن الشائع جدًا في تركيا تزيين النوافذ والشرفات بأصص الزهور والنباتات المنزلية، وغالبًا ما تشير ألوانها إلى دلالة معينة، فمثلًا إذا وضعت ورود صفراء على الشرفة فهذا يعني أن أحد أفراد الأسرة مريض وهي وسيلة لإخبار المارين بأن يمروا بهدوء دون إزعاج أو ضجة احترامًا للمريض، أما إذا وضع أحدهم ورود حمراء فهذا يعني أن فتاة في عمر الزواج تسكن في هذا المنزل وتطلب من الجيران عدم الحديث بالسوء عنها حتى لا تضيع فرصتها في الزواج.
اهتم السلطان أحمد الثالث بزراعة الزهور وكان لديه شغف كبيرًا بالورود والقرنفل والأرجواني والياسمين والزنبق، فلقد سميت فترة حكمه بـ”عهد الزنبق” الزهرة التي أدخلت إلى أوروبا من تركيا في القرن السادس عشر، وبصفة عامة امتازت حدائق قصور السلاطين بمساحاتها الشاسعة وتنوع الأزهار الهائل والاهتمام الواضح بالألوان والأنواع النادرة منها، وخاصة قصر “طوب كابي”، وهذه العادات المختلفة عبر القرون جعلت من الزهور مكانة خاصة في الثقافة التركية.
يقيم أغلبية الغجر وخاصة ممن يسكنون في إسطنبول على أطراف المدينة بالقرب من مزارع ومشاتل الزهور حتى يستطيعوا شراءها بأسعار زهيدة ومناسبة لوضعهم المادي، ومن ثم يحملونها لبيعها في مركز المدينة للمارة
زهور الجمال والشفاء
بحسب صحيفة دايلي صباح التركية، بينت مصادر تاريخية أن ماء الورد أُنتج لأول مرة في الأناضول بمدينة نصيبين بالقرب من ماردين، حيث تم تخزينها في أباريق نحاسية واستخدمت في طهي الطعام وصناعة العطور والمستحضرات التجميلية.
وتحديدًا استعملت في الطب، فلقد اعتمدت الثقافة العثمانية على الزهور للشفاء، في القرن الرابع عشر، لتخفيف الغثيان وعسر الهضم وكمهدئ للأعصاب ومضاد للاكتئاب لأنها تحسن المزاج وتخفف من التوتر العصبي، ومن جانب آخر، استخدمتها النساء في تأخير علامات تجاعيد الوجه والشفاء من حب الشباب وإضافة النضارة والليونة إلى البشرة، وشاع استخدامها في الحمامات التركية أيضًا وخاصة في الأعياد والمناسبات مثل شهر رمضان، إذ تقوم بعض البلديات التركية في كل عام بغسل سجاد المساجد بمنظفات مخلوطة بماء الورد وترش به على الأرضيات والجدران وترسل كميات كبيرة منه إلى المسجد الحرام في مكة لمسحه بمياه الورد كتقليد سنوي.
جنة الورود في العالم
تعد مدينة إسبرطة التركية من أشهر مدن العالم بزراعة الزهور، إذ تنتج نحو 65% من زيت الورد في العالم و95% منها يصدر إلى الخارج، فهي تساهم في تلبية احتياجات قسم كبير من قطاع صناعة العطور، ولا سيما أن إنتاج كيلو غرام واحد من زيت الزهور يحتاج إلى أربعة أطنان من الورد، وهذا ما يجعل إسبرطة كنزًا تركيًا بالنسبة إلى الدول التي تستورد منها، مثل فرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية واليابان، ويعود الفضل في ذلك إلى مفتو زاده غولجو إسماعيل أفندي الذي أدخل زراعة الورود إلى إسبرطة بعد أن هربها من مدينة كيزانليك البلغارية عام 1888.
الغجر ملاّك تجارة الزهور في شوارع تركيا
يقيم أغلبية الغجر وخاصة ممن يسكنون في إسطنبول على أطراف المدينة بالقرب من مزارع ومشاتل الزهور حتى يستطيعوا شراءها بأسعار زهيدة ومناسبة لوضعهم المادي، ومن ثم يحملونها لبيعها في مركز المدينة للمارة، حيث يوجدون في أماكن معروفة وخاصة المناطق المزدحمة التي قد تجذب الناس الذين لا يستطيعون تجاهل منظر زهورهم الجميلة.
تزداد حركة البيع والشراء في المناسبات وبشكل خصوصي في عيد الحب الذي ترتفع فيه أسعار الزهور إلى الضعف لارتفاع نسبة الطلب، ولم تكن الأعياد وحدها عاملًا مشجعًا لتنشيط تجارة الغجريات، فالدراما التركية ساعدت على تسليط الضوء على بائعات الزهور من خلال مسلسل “سارقة القلوب” التي تقوم “توبا بويكستون” بدور البطولة وجسدت فيه شخصية بائعة ورود تنتمي إلى المجتمع الغجري، مسلطة الضوء على طريقة لبسهم ولهجتهم وأسلوب حياتهم في الرقص والتنقل.
تحتفظ زهرة التوليب بمساحة مستقلة لنفسها في الثقافة التركية، فلديها مكانة خاصة لدى الأتراك ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتراث العثماني الذي توارثه الأتراك عبر السنين
أشهر الزهور التركية
تحتفظ زهرة التوليب بمساحة مستقلة لنفسها في الثقافة التركية، فلديها مكانة خاصة لدى الأتراك ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتراث العثماني الذي توارثه الأتراك عبر السنين، إذ يقال إن أصل هذه الزهرة يعود إلى مواطن الأتراك الأصلية في آسيا الوسطى التي جلبوها معهم إلى الأناضول، وانتشرت من الدولة العثمانية إلى أوروبا عندما أهداها السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر إلى ملك هولندا الذي أعجب بها بدوره كثيرًا حتى قرر زراعتها في هولندا.
جدير بالذكر أن أحد عهود الدولة العثمانية سمي بـ”عهد التوليب” بين عامي 1718 و1730 بسبب استقرار الأوضاع الداخلية والخارجية في الإمبراطورية، وإلى هذا اليوم، تعتني الدولة بهذه الزهرة التي رافقتها منذ القدم في رحلتها التاريخية، وجعلتها شعار خاص لبلدية إسطنبول.