منذ بداية الفتح الإسلامي لبلاد المغرب عرف المغرب الأقصى تعاقب دول إسلامية عديدة على حكمه لفترات متفاوتة، لعلّ من بينها الدولة المرينية التي حكمت المنطقة لأكثر من قرنين، عرف المغرب خلالها أحداثًا كبيرة.
الدولة المرينية ..بداية الحكم
حكم بنو مرين أو بنو عبد الحق بلاد المغرب الأقصى من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر ميلادي، وينحدر المرينيون من بني واسين وهم فرع من قبيلة زناتة الأمازيغية الشهيرة التي لعبت أدوارًا مهمة في تاريخ المغرب العربي.
كان بنو مرين في أول أمرهم مجموعة من البدو الرحل، غير أن الحرب التي نشبت بينهم وبين قبيلتي بني عبد الواد وبني واسين سنة 601 هجريًا جعلتهم يرتحلون إلى هضاب المغرب والنزول بوادي ملوية الواقع بين المغرب والصحراء، والاستقرار هناك في ظل حكم دولة الموحدين.
أول سلطان للمرينيين هو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي أعلن فك الارتباط عن الحفصيين
في عام 610 هجريًا الموافق لسنة 1213 ميلاديًا، استغلّ المرينيون، هزيمة الموحدين في معركة العُقاب أمام الممالك النصرانية الإسبانية، وتفتت كيان السلطة المركزية، فضلاً عن تفشي وباء الطاعون وهلاك الجند، وغياب الأمن في البلاد، فهجموا عليهم وألحقوا الهزيمة بجندهم، وشرعوا في التوسع في الريف والغرب، ووضعوا أنفسهم مؤقتًا تحت السلطة الأسمية للحفصيين، بعد أن دعا أهل مكناس عند فتحها إلى مبايعة الحفصيين.
ومن تلك السنة إلى عام 668 هجريًا الموافق لسنة 1269 ميلاديًا، دارت بين المرينيين والموحدين حروب عدة انتهت بفوز المرينيين والقضاء على الدولة الموحدية في مراكش والجلوس مكانها، إلا أنهم اتخذوا من مدينة فاس عاصمة لهم، وكان أول سلطان لهم هو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق الذي أعلن فك الارتباط عن الحفصيين.
علاقتهم بالأندلس
منذ بداية حكمهم، سيّر المرينيون جيوشهم نحو الأندلس لصد الخطر النصراني على دولة الإسلام هناك بعد أن استنجد بهم بنو الأحمر، فعبر السلطان يعقوب بن عبد الحق أربع مرات إلى الأندلس خاض خلالها حروبًا شرسة ضد الإسبان، وحقق انتصارات كبيرة وأجبرهم على الإذعان للسلم والرضوخ للشروط المرينية.
حاز السلطان يعقوب بن عبد الحق مجموعة من المدن الأندلسية، وصل عددها إلى 53 ما بين مدن وحصون، زيادة على 300 من القرى والبروج، أبرزها الجزيرة الخضراء وطريف وملقة وقمارش ورندة، غير أن ولده السلطان يوسف بن يعقوب تنازل عن الكثير منها مكتفيًا بطريف والجزيرة الخضراء، حسب ما ذكره العلامة التونسي عبد الرحمن بن خلدون.
تمكن المرينيون في كثير من المرات من صد الصليبيين
كان للمرينيين ممثل حكومي دائم في الأندلس، ويُختار عادة من الشخصيات البارزة في الدولة، ومنذ عهد أحمد بن أبي سالم، بدأ سلطان غرناطة يباشر شؤون الغزاة بنفسه وبذلك سقطت وظيفة شيخ الغزاة التي كان يتولاها بنو إدريس المرينيون، ودخلت العلاقة بين الطرفين مرحلة التوتر تخللتها بعض الحروب حتى عهد السلطان أبي عنان فارس المريني الذي بدأ سنة 1348 ميلاديًا، حيث ساد الهدوء والسلم أجواء العلاقات المرينية الغرناطية، والمرينية النصرانية.
حدود الدولة الجديدة
مع استقلاله بالحكم، بدأ السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور في توحيد المغرب الأقصى وضم كل المدن التي كانت منفصلة عن دولة الموحدين إلى دولته، واستطاع أن يضم إليه القبائل العربية ويستخدمها في محاربة هذه الأقاليم المنفصلة عن الدولة.
وتوسعت حدود دولة المرينيين خارج نطاق المغرب الأقصى في عهد السلطان أبي سعيد الأول، ويوسف بن يعقوب وخاصة أيام أبي الحسن المريني، الذي ضَمَّ لدولته المغرب الأوسط والأدنى فوحد المغرب الكبير تحت رايته، مسيطرًا على بلاد السوس ومعاقل الصحراء جنوبًا إلى مصراته قرب الحدود المصرية شرقًا، ورندة بالأندلس شمالاً.
ازدهار العمارة
بعد فترة حكم امتدت لأكثر من قرنين تمكنت الدولة المرينية أن تترك بصمات حضارية ما زالت ماثلة للعيان حتى وقتنا هذا، خاصة في النواحي المعمارية والثقافية والدينية والعلمية، فقد بنى المرينيون مدنًا جديدة كفاس الجديد وتطاوين والمنصورة والقاهرة والبنية وغيرها.
واتبع المرينيون سياسة عمرانية تقوم على “ثنائية المدينة” أو “المدن المزدوجة” مثل: فاس الجديد بفاس البالي، والمنصورة قرب تلمسان، وأفراك قرب سبتة، والرباط وسلا، وانتهج نفس السياسية عند قرار بناء البنية عقب نجاح المرينيين في فك حصار الجزيرة الخضراء.
تميزت العمارة المرينية بفن الزخرفة
الغاية من هذه السياسة العمرانية ترسيخ رموز السلطة المرينية، وإبراز قوتها أمام منافسيها وأعدائها على حد سواء، فكانت الغاية من مدينة الْبُنَيَّة “تقوية الوجود المريني بالأندلس عن طريق استخدام المنشآت المعمارية كعناصر دعائية، ورموز لقوة السلطة السياسية، فجاء البناء من خلال ضخامة المنشآت، وقوة الأسوار، ومناعة العناصر الدفاعية، لا ليظهر عظمة المملكة وقوتها ومقدرتها الاقتصادية والعسكرية فحسب، وإنما لإبراز حضور سلطة الأمير، وقدرة دولته التنظيمية والمادية”، حسب المؤرخ محمد الشريف في كتابه “أضواء على مدينة أندلسية مجهولة البُنيَّة: المدينة الملوكية المرينية بالأندلس”.
المساجد تعكس ازدهار العمارة المرينية
عرف المرينيون باهتمامهم ببناء دور العبادة من مساجد وزوايا، وتميّزت المساجد في العهد المريني بشكلها المستطيل وقاعة الصلاة التي تنقسم إلى بلاطات متعامدة مع جدار القبلة، وتتميز ببلاطتين واحدة محورية، والأخرى أمامية، عرضهما أكبر من ارتفاعهما، تعلوهما قبب.
من بين هذه الجوامع، الجامع الكبير بمدينة الرباط الذي تبلغ مساحته 1800 متر مربع، فيما يبلغ طول صومعته 15.33 متر وهي تحتوي على ست غرف مربعة الواحدة فوق الأخرى، ويحتوي هذا المسجد الذي يقع داخل الرباط العتيقة على سبعة صحون موازية للقبلة، وساحة مربعة وستة أبواب، ومقصورة للنساء، وأخرى للأمام، وأقواسه ضخمة ذات مسحات مرابطية وموحدية، ومحراب منقوش بالجبس بأسلوب أندلسي.
الجامع الكبير بمدينة وجدة
يعكس “الجامع الكبير” الذي يعود تاريخ تشييده إلى سنة 696 هجريًا في عهد السلطان المريني أبي يعقوب يوسف بمدينة وجدة المغربية، جمال المعمار المريني، ويتميز هذه الجامع بجمالية بنيانه وأشكاله المعمارية وزخرفة سقوفه وأعمدته وأقواسه وما يحتوي عليه من نقوش وخطوط عربية إسلامية.
وتتكون هذه المعلمة المرينية من قاعة للصلاة تحتوي على 19 رواقًا متوازيًا وأربعة صفوف من الأعمدة تلتقي في أقواس منخفضة، بالإضافة إلى خمس بلاطات متعامدة مع جدار القبلة، وتنتصب المئذنة بالزاوية الجنوبية الغربية لقاعة الصلاة وبالسور الشمالي للقصبة.
انتشار المدارس
اهتم المرينيون خلال فترة حكمهم بالتعليم وأنشأوا لذلك العديد من المدارس، من بينها مدرسة الصفارين، نسبة إلى سوق صناعة النحاس بعدوة القرويين الذي تنفتح عليه بواسطة بوابة يعلوها قوس منكسر ومتجاوز، ويطلق عليها أيضًا اسم “مدرسة الحلفاويين ” لوجودها بسوق تباع فيها الحلفاء.
بنى السلطان المريني، أبي سعيد عثمان، سنة 723 هجريًا “مدرسة العطارين”
بنيت هذه المدرسة على يد السلطان المريني يعقوب ابن عبد الحق، سنة 670 هجريًا، يتميز تصميم المدرسة بشكله غير المنتظم، ويضم مستويين رتبا حول صحن مكشوف، يحيط بهذا الأخير رواق تنفتح عليه مجموعة من الغرف المخصصة للطلبة وقاعة للصلاة، وفي الطابق الأول، توجد أربع غرف مخصصة لإيواء الطلبة ومنارة متناسقة الأجزاء زينت واجهاتها الأربعة بتشبيكات معمارية وبقطع من الزليج المتعدد الألوان، على شاكلة باقي صوامع الفترة المرينية.
كما بنى المرينيون مدرسة “دار المخزن” بفاس الجديد على يد السلطان أبي سعيد عثمان سنة 720 هجريًا، وجاءت، على عكس مدرسة الصفارين التي جسدت التجربة المرينية الأولى، وعند مدخل المدرسة، ينطلق درجان يؤديان إلى مستويين آخرين خصصا لغرف الطلبة، كما جهزت المدرسة بدار للوضوء تحتل الزاوية الجنوبية الشرقية للبناية، وتنتظم حول صحن مغطى، تحيط به مجموعة من المراحيض، وتزين وسطه فسقية للوضوء.
مدرسة “دار المخزن” بفاس الجديد
إلى جانب هاتين المدرستين، بنى السلطان المريني، أبي سعيد عثمان، سنة 723 هجريًا “مدرسة العطارين”، وحملت هذا الاسم نسبة للسوق الذي ينفتح بابها عليه، وهو سوق بائعي العطور، وترتفع المدرسة بالقرب من جامع القرويين.
مدرسة العطارين
تتكون المدرسة من مدخل مرفقي يؤدي إلى صحن مكشوف زينت واجهاته تزيينًا مبالغًا فيه بالزليج والجص المحفور والخشب المنقوش، ومن قاعة للصلاة مستطيلة الشكل وثلاث مستويات مخصصة كلها لسكنى الطلبة، وبالزاوية الشمالية الغربية، جرى بناء دار للوضوء.