أسابيع قليلة تفصلنا عن ليلة الأوسكار، وبتنا نعرف الأسماء التسعة المرشحة للجائزة الكبرى، وفي قائمة تخلو من رائعة دنيس فيلنوف “بلايد رنر 2049” أحد أفضل أعمال السنة المنقضية (إن لم يكن أفضلها)، استعادت الأكاديمية فلسفة السنوات الأخيرة في الاختيار، فقدمت الفانتازيا (شكل الماء The shape of water) على الخيال العلمي، وسينما القضايا على سينما المؤلف.
فيلم عن المثلية، فيلم عن السود، فيلم عن النسوية، فيلم عن العسكر… لقد بات وجود هذه المواضيع سنةً حميدة هناك، أما قائمة الاستثناءات، فيتصدرها فيلم البريطاني مارتن مكدوناغ Martin McDonagh المسمى ثلاث لافتاتٍ خارج إيبنغ ميزوريThree Billboards outside Ebbing Missouri، فعدا ترشيحه لسبعة أوسكارات، يبدو وكأن الفيلم يملك كل ما يغري الأكاديمية لتتويجه في نهاية السهرة.
الأكاديمية تحب الحديث عن أمريكا
تصنع إستوديوهات هوليوود في لوس أنجولس نسخة مختزلة للعالم، وبفضل آلاف المهاجرين إلى أرض الحلم الأمريكي، استطاعت هوليوود أن تنفتح على العالم كما لم تفعل صناعة سينمائية أخرى، غير أن الأكاديمية حافظت على حساسية مفرطة تجاه الرائحة الأمريكية، وليس غريبًا أن الأفلام الخمس الأخيرة المتوجة، تحدث كلها في فضاء أمريكي وتهتم بقضايا الشارع الأمريكي دون سواه (يمكن استثناء الرجل الطائر Birdman الذي يحمل بعدًا أكثر إنسانية وإن كان الفضاء محليًا).
يتفوق فيلم ثلاث لافتات في هذا الجانب على ستة أفلام منافسةٍ على الجائزة، فهو يحدد إطارًا مكانيًا أمريكيًا منذ العنوان، ورغم كونه إطارًا متخيلاً (هل ظننت إيبنغ ميزوري بلدة حقيقية؟ أنا أيضًا ظننت ذلك!)، فهو يعكس خصائص أمريكية نقلها إلى أحداثه وشخصياته.
ففي بلدة إيبنغ بولاية ميزوري (الولاية حقيقية طبعًا)، تلجأ السيدة ملدرد Mildred إلى شركة إعلانات صغيرة لتنشر رسالة على ثلاث لافتات كبيرة خارج البلدة، تتهم فيها صاحب الشرطة المحقق ويلوبي Willoughby بالتقصير في البحث عن قاتل ابنتها اليافعة ومغتصبها، توجد الشرطة في العالم كله طبعًا، وكذلك جرائم الاغتصاب والقتل، ولكن في أمريكا وحدها، لا نستغرب موافقة شركة إعلانات على كتابة رسالة نارية كتلك مقابل حفنة من المال، في أمريكا وحدها، نشعر باستقلالية كبيرة لقسم الشرطة المحلية، وبتمتعه بذلك الهامش من حرية القرار.
العنوان إذًا مغالطةٌ ساخرة، فاللافتات الثلاثة خارج إيبنغ، ولكن الفيلم نفسه داخلها، في أحشائها
كانت اللافتات فتيلاً للأحداث التي تدافعت في كل اتجاه كألعاب نارية، لتضيء للمشاهد خريطة إيبنغ الاجتماعية، المحقق ويلوبي وقد قبل تحدي ملدرد، يتسلى باستفزازها، يوقفها، يطلق سراحها، يتصرف كأنه شريف بلدة في زمن رعاة البقر، أما زميله دكسن، فكان أقرب إلى البقرة نفسها في الواقع، بمشيته المضحكة، ورعونته واندفاعه.
نعرف عداءه للسود وللمثليين لكننا لا نرى منه غير إيقافه لصديقة ملدرد السوداء بتهمة حيازة مخدرات خفيفة، والكثير من التحرش اللفظي، طالت شماريخ اللافتات، وجوهًا أخرى من البلدة: طبيب الأسنان الذي يقحم أنفه فيما لا يعنيه، القناة التلفزية المحلية بتحقيقاتها الشعبوية التي تتعمد فيها الإثارة، أم دكسن التي تقدم له النصائح الضرورية ليجيد لعب دور الشرير، طليق ملدرد الذي لم يقبل طريقتها ولم يتخلص كذلك من طباعه العنيف تجاهها، صديقها الجديد الذي فضل التستر على جريمتها ودعوتها للعشاء، الجندي السابق الذي نكتشف تورطه في جريمة قتل، وأخيرًا، تيارٌ محافظ يحاول فرض نسقه على البلدة الصغيرة في زمن فقد خلاله السيطرة، فكانت وقفة القس المخزية أمام ملدرد أنموذجًا قاسيًا له.
العنوان إذًا مغالطةٌ ساخرة، فاللافتات الثلاثة خارج إيبنغ، ولكن الفيلم نفسه داخلها، في أحشائها، ولأنها فضاءٌ متخيلٌ فهي تمثل وجوبًا كل الفضاء الذي تستمد منه عناصرها، أعني بذلك الفضاء الأمريكي، لذلك، فبينما تحدثنا ليدي بيرد Lady Bird مثلاً عن سكرامنتو Sacramento، فإن ثلاث لافتات خارج إيبنغ ميزوري، تحدثنا عن أمريكا كلها.
الأكاديمية تحب القضايا المعاصرة
يصل هوس الأكاديمية أحيانًا بهذه المسألة حدًا سخيفًا، فمنذ سنتين، تفوق فيلم بقعة الضوء على تحف فنية جريئة وطريفة، ويعود السبب أساسًا إلى حساسية القضية المتناولة.
إن تقييم عملٍ سينمائيٍ بالنظر إلى “قيمة” القضية التي يتناولها، يعني ببساطة أن تلك الأعمال الجليلة التي تنظر في التفاصيل الصغيرة، هي أعمال تافهة، وهذا يعني أيضًا أن أفضل الأعمال هي تلك الملاحم الإيديولوجية أيًا كانت جودتها.
وعلى كل حال فلقد صارت الأكاديمية تدفع بشكل واضح في اتجاه رؤى ليبرالية تقدمية في مواجهة واقع أمريكيٍ محافظ، يتمتع الفيلم بأسبقيةٍ كبيرة إن كان يدافع عن حقوق المثليين مثل (سمني باسمك)Call me by your name، أو عن المساواة بين الجنسين مثل (ليدي بيرد) Lady Bird، أو عن التمييز العنصري مثل Get Out، من هذه الناحية، يبدو فيلم ماكدوناغ متأخرًا قليلاً عن الركب، أو هكذا يخيل إلينا أول وهلة، في الحقيقة، لقد كان في مقدمته!
يلخص مشهد تهجم طليق ملدرد عليها، الكثير عن مسألة المساواة، والحقيقة أن الفيلم لا يولي اهتمامًا حقيقيا بأي من هذه القضايا، فالقضية الأساسية هنا، تتعلق بالعنف كوسيلة لتحقيق الأشياء، وكل القضايا الأخرى تسبح في فلكها
لقد كانت هذه المسائل مذكورةً عرضًا خلال الفيلم، فرد ولبيRed Welby صاحب شركة الإعلانات، مثليٌ تعرض لاعتداءٍ فاحش أجاب عنه بحلمٍ عظيم، أما التمييز العنصري فذكر في مشهد متميز بين ملدرد ودكسن:
– “كيف تسير تجارة تعذيب الزنوج؟”
– “بل هي تجارة تعذيب الأشخاص الملونين هذه الأيام لعلمك، وأنا لم أعذب أي شخص”.
كما يلخص مشهد تهجم طليق ملدرد عليها، الكثير عن مسألة المساواة، والحقيقة أن الفيلم لا يولي اهتمامًا حقيقيًا بأي من هذه القضايا، فالقضية الأساسية هنا، تتعلق بالعنف كوسيلة لتحقيق الأشياء، وكل القضايا الأخرى تسبح في فلكها، غير أن المشهد العام الذي تشكل من وراء كل هذا، هو ذلك الصراع الإديولوجي الذي تعبر عنه هوليوود وتتبناه بكل قواها، إن وقفة ملدرد في منزلها أمام القس الذي جاءها ناصحًا، فردته ملعونًا ذليلاً، تشبه كثيرًا وقفة ميرل ستريب Meryl Streep أسطورة هوليوود، حين خاطبت رئيس دولتها الجديد ـ آنذاك ـ خطاب التحدي والاحتقار.
في إيبنغ، كانت تقاليد البلدة الأمريكية المحافظة، تنحسر لصالح المد الليبرالي الكبير، لم يعد صاحب الشرطة ذلك الشريف الذي يصول ويجول بجواده، فقد دخل جواده إلى الإسطبل ولم تعدْ منه فائدة، ولم يعد الشرطي فارسًا بلا رقيبٍ ولا نذير، يفعل ما يروق له، ليحفظ الاستقرار، بل بات في مواجهة دائمة مع القوانين الكثيرة التي لا يكاد يحفظها، نرى ذلك في كل مواجهة بين الشرطة والمدنيين تقريبًا: استذكارٌ للقانون، بحثٌ في الإخلالات الممكنة، محاولاتٌ بائسة للعب دور موظف الدولة الذي يفترض أن يكونوه.
يحاول رجل الدين الاستئناس بالمؤمنين من سكان البلدة، ليستعيد دوره الريادي في الاهتمام بالشأن العام، لكنه يكتشف أن عجزه بات حقيقةً بسيطة ليس أمامه إلا تقبلها، لقد انتهى الصراع منذ زمن، أما اليوم، فهي حقبة تقبل الهزيمة لا أكثر!
يمنح ضيق الفضاء ثراءً أكبر للدراما، ويضفي لصدفها شرعيةً مقبولة
الأكاديمية تحب الدراما
لنتفق أولاً أن كل الأفلام المرشحة من صنف الدراما، لكن أغلبها لا يرتكز كثيرًا على الجانب الدرامي (ليدي بيرد، اخرج)، وبعضها بسيط الأحداث رغم تعقيد كتابتها (المنشور، أحلك ساعة)، وبعضها الآخر لم يعن بشخصياتها (دنكرك طبعًا)، لذلك يبدو ثلاث لافتات خارج إيبنغ ميزوري، الفيلم الأكثر نضجًا على المستوى الدرامي، فعدا النص المتميز، كانت البنية السردية فريدة من نوعها، تتفرع عن نفسها كشجرة ياسمين كثيفة، راحت تتمدد أفقيًا وفي كل اتجاه، حتى لم يعد يعرف أي خطوطها رئيسيٌ وأيها فرعي.
تسري الأحداث داخل شبكة اجتماعيةٍ مغلقة، كلما لمست أحد أعضائها، انتقلت إلى آخرين عبر علاقات مباشرة تجمعهم به، فتنمو أحداثٌ جديدةٌ وهكذا، إننا نعرف عن ملدرد بقدر ما نعرف عن طليقها، وبقدر ما نعرف عن المحقق ويلوبي، نعرف عن زميله دكسن، يساعد الفضاء الضيق على الانتقال بين الشخصيات بشكل بديع.
فحين تعجز الحبكة القصصية على خلق الروابط، يتدخل ضيق الفضاء ليذكرنا أننا في بلدة صغيرة، وأن البطل الحقيقي ليس ملدرد بل الفضاء القصصي، ببساطة عابرة، تقف ملدرد في حانةٍ رفقة دكسن وجيمس، لا معنى لاجتماع ثلاثتهم، سوى تقديم ثالثهم للمشاهدين، بشكل طبيعي وسلس في خلفية حوارٍ ساخر بين طرفيْ الصراع.
وبذات البساطة، نرى في خلفية صراع دكسن مع الجندي المجرم في الحانة، يجلس عامل الإعلانات رفقة صديقة ملدرد، بعد أن تعارفا صدفة أمام اللافتات في مشهد عابر سابق، يمنح ضيق الفضاء ثراءً أكبر للدراما، ويضفي لصدفها شرعيةً مقبولة، وفي بعض الأحيان، تتفاعل الشخصيات فيما بينها دون الحاجة إلى مشهدٍ جامع، إذ تصطدم ملدرد بأم دكسن دون أن ترى إحداهما الأخرى، وفي النهاية، فالأحداث وإن كانت منطلق الدراما (تنصيب الإعلان)، لم تكن جوهرها، ولو أن أمرًا ما ينمو ويتطور داخلها، فهو حتمًا شخصياتها.
لا تتمتع شخصيات الفيلم بفرادة مطلقة، إحساس “شاهدت هذا من قبل” حاضرٌ مع كل الشخصيات تقريبًا، ربما لو استثنينا دكسن Dixon، على أنها جميعًا امتازت بحضور دراميٍ متميز نقل به الدراما من مستوى الأحداث إلى مستوى الشخصيات، حتى أقل الشخصيات قيمةً، ترك هالته وراءه، فلم ننس صديقة تشارلي بليدة الذهن، ثقيلة الدم، ظريفة الغباء، ولم ننس عامل الإعلانات بعد حواره العبثي المضحك مع دكسن.
كتبتْ كل شخصيةٍ بعناية سمحتْ بتمييزها عن البقية بيسر تامٍ، وظهر هذا العمل خصوصًا في قسم الشرطة، إذ قدم لنا ماكدوناغ أربعة رجال شرطة أساسًا، لا أحد منهم يشبه الآخر، وكلٌ منهم يتميز بطابع خاص (ربما يتميز صاحب الشرطة المعوض لويلوبي بكونه عاديًا لا يتميز بشيء سوى لونه الأسود، ولكنه تميز على كل حال).
لا شك أن التغيير مسألة زمن لا أكثر، وفي هذه النقطة، يبدو الفيلم فريدًا حقًا
لم تحدث الدراما على مستوى الشخصيات بشكل مباشر، بل حدثت على مستوى العلائق بين الشخصيات، حيث انبنت على صراعات صغيرة كثيرة وشديدة التنوع، ولا يمكن حصرها، في مقدمة الصراعات، تقف ملدرد المرأة المدنية في مواجهة الشرطة، تيار الدفع نحو التغيير، أمام تيار محافظٍ، تثقب إصبع سلطة القبيلة ورأيها العام، تشتم ضميرها الطهراني وتطردها من منزلها، تواجه عنف زوجها بمساعدة ابنٍ لا تخلو علاقتها به من صراعٍ، تهاجم بسوقيةٍ مفرطة إعلام الحرائق والفضائح، تحاول كسب سلطة رأس المال لصالحها، تعامل باحتقارٍ عاشقًا لزجًا، وتستعد للانتقام من مجرم حربٍ تجاوزته عدالة القانون وتغاضت عنه.
في الجهة المقابلة، يشن دكسن حروبًا مختلفة، تبدأ من البيت، حيث يعيش مع أمه التي نشعر بثقلها العظيم على شخصيته، فالعمل حين يحاول الظفر برضا رئيسه المريض ويلوبي، أو حين يحاول إثبات نفسه كشرطيٍ قادرٍ على فهم طبيعة عمله، وتنتهي بالحانة، بالمجتمع، حين يحاول التخلي عن إرثه العنصري القديم، وإثبات نفسه كشخص قادر على فهم طبيعة زمنه.
المثير أنْ لا أحد خرج منتصرًا بشكل قاطع في مختلف صراعاته، وظل أغلبها مفتوحًا بشكل ما، لكننا نلمس تطورًا في المحاولة، لا شك أن التغيير مسألة زمن لا أكثر، وفي هذه النقطة، يبدو الفيلم فريدًا حقًا.
إذا كان الفضاء جسد البناء الدرامي، فإن العنف شرايينه، نجده لغة الحوار/الصراع بين الشخصيات، سواء كان عنفًا جسديًا أم لفظيًا، ونجده كذلك مفتاحًا لتطوير العلاقات بين الشخصيات، وانتقالها (الشخصيات نفسها) من حالة إلى أخرى، أي أنه كان مفتاح التقدم بالدراما.
يخيل إلينا لأول وهلة أن الفيلم إدانة للعنف في كل حالاته، ولو تجاوزنا الإدانات العابرة للعنف ضد السود والنساء والأطفال والمثليين، إلخ، فنحن أمام شخصيتين متقابلتين في الصراع، يتبنى كلاهما العنف، وإن كان ذلك واضحًا في حالة دكسن، كما رأيناه في مشهد اعتدائه الفظيع على رد ويلبي، فإنه أكثر تواريًا في حالة ملدرد. ذلك أننا نفترض منها الوقوف في وجه العنف، بمطالبتها القبض على قاتل ابنتها، غير أن ما يحدث، كان انغماسًا أكثر فيه، كانت ملدرد عنيفة في كل علاقاتها، حتى الأكثر توددًا، وربما لم نفهم ذلك إلا مع مشهد هجمة المولوتوف العبقري.
ساهم أداء الممثلين بشكل كبير في مصداقية هذا التناقض
ولو أن للفيلم رسالة ما أو مغزى فهي غالبًا تتركز عند هذه النقطة، العنف ليس حلاً مطلقًا، لقد فهم طرفا الصراع الرئيسي (ملدرد ودكسن) الدرس بعد أن بلغ عنفهما أوجه (الاعتداء على رد ولبي، والاعتداء على مركز الشرطة)، وهكذا تحول صراعهما إلى تحالف، أما ويلوبي Willoughby، فقد فهم الدرس منذ البداية.
فمنذ أن أعلن مرضه عن نهاية صراعه معه، أدرك أن كل صراع جانبيٍ لهو صراعٌ سخيفٌ، فساعد ملدرد التي هاجمته بشكل مباشر في لافتاتها، وحملته المسؤولية، ودفع ثمن إعلاناتها حين أعوزها المال، وأباح خده الأيسر لمن صفعه، وكان ذلك دافعًا فيما بعد لدكسن ليتغير بدوره.
لا شك أن وحش العنف كان طاغيًا في الفيلم، ومحور مشهده الرئيسي، ولا شك أن قراءة أولية في الفيلم، تجزم بإدانته لكل من يستعمل العنف أيًا كان نبل دوافعه، وكان تطور الشخصيات الرئيسية يمضي في اتجاه التخلي عن العنف تدريجيًا، لقد احتاجت ملدرد إلى الكثير من التجربة والأعصاب، لتقف أمام طليقها دون أن ترد الفعل على حرقه للافتاتها، واحتاج دكسن إلى رسالة ويليوبي بعد أن طرد من عمله، كي يعزم على التغيير.
لكن، الفيلم في محاولة إدانته للعنف، يثبته في كل مرة كشرارةٍ أولى، وكعامل لا مناص منه للتغيير، لقد احتاجت ملدرد إلى حرق قسم الشرطة لتظفر بتعاون جدي مع دكسن، واحتاجت أن تهاجم ويليوبي بيافطة إعلانية كي تتدحرج كرة الثلج.
أما دكسن، فقد احتاج إلى صدمات متتالية ليتغير: فما كان لرسالة صديقه أثر لو لم ينتحرْ قبلها، وما كانت لحركة رد ولبي النبيلة في المستشفى من أثر لولا عظامه المهشمة ووجه غريمه المحترق، وحتى خلال سعيه لمحو آثامه، كان العنف حلاً مثاليًا، فتلذذ بتلقي اللكمات والصفعات كأنه يتشفى في نفسه، ويعاقبها على آثامها.
أخيرًا، فأكثر مشاهد الفيلم عنفًا، كانت مباغتة المرض لويلوبي حين استجوابه لملدرد، الحقيقة أن المشهد كان قاسيًا مثل الحقيقة، وكان نقطة تحول في تفكير صاحب الشرطة، وبعنف مماثلٍ لعنف مرضه، أنهى حياته بطلقة رصاص دوت في قلب رفيقه دكسن، وفي قلب المدينة التي يبدو أنها ستتبنى توصياته بالعثور على قاتل الفتاة، العنف بشكل ما في الفيلم، كان مدانًا وكان حلاً أيضًا، والحقيقة أنني لا أعرف إن كان ذلك نقطة ضعف في الفيلم أم نقطة قوة، فهو تناقضٌ أقرب إلى تناقض الحياة نفسها.
ساهم أداء الممثلين بشكل كبير في مصداقية هذا التناقض، لست ممن يعتقدون أنه أفضل أدوار فرانسس ماكدورمند Frances McDormand ولكن شخصية ملدرد هي حتمًا من أفضل ما قدمت الممثلة الأمريكية، وتملك حظوظًا كبيرة للظفر بجائزة أفضل أداء عن دور رئيسي، وبحظوظ أقل، يراهن الممثل الرائع وودي هارلسنWoody Harrelson على جائزة أفضل أداء عن دوره الثانوي في شخصية المحقق ويلوبي Willoughby، لا لأن هارلسن لم يجد دوره، بل لأن الترشيحات شملت سام روكول Sam Rockwell عن آدائه الخارق لشخصية دكسن Dixon، لقد كان سام الأكثر إقناعًا والأكثر إبداعًا في هذا الفيلم وهو يتجه نحو حصد الجائزة عن جدارة.
وعموما فثلاث لافتات خارج إيبنغ ميزوري فيلمٌ دراميٌ بامتياز، يتركز على تشابك العلاقات بين شخصياته، وتطورها أكثر من تطور الأحداث.
الأكاديمية تحب إرضاء الجميع
لا ننسى أن الأكاديمية تضم الكثير من أهل السينما المنتمين إلى إستوديوهات متنافسة، ورغم ما قد يبديه أعضاؤها من أمانة وحرفية في انتقاء أعمال جديرة بهذه الجائزة أو تلك (وهذا ما يجعل منها جائزة قيمة على كل حال) فالحسابات الأخرى تجد لها دومًا سبيلاً إلى مظاريف النتائج.
وحين يشتد التنافس بين فيلمين، يمنح أحدها جائزة الإخراج، ويمنح الآخر جائزة الفيلم الأفضل، حدث هذا السنة الماضية مع Moonlight وLa La Land، وسنة 2013 مع 12 years a slave وفيلم Gravity، وسنة 2016 مع العائد وبقعة الضوء.
يفضل لجائزة الإخراج، العمل الذي يقدم الشكل الإبداعي ويحتفي به، بينما يفضل لأفضل فيلم ذلك العمل الذي يتميز بطابعه الواقعي، واتسام قضاياه بالوضوح والمباشرتية، ولو كان لفيلم ماكدوناغ من منافس هذا العام، فهو حتمًا فيلم غييارمو دلتورو Guillermo Del Toro العجائبي : شكل الماء The Shape of water، فقد رشح لـ13 جائزة كاملة لن يدهشني حصوله على نصفها، لذلك فإن ذات السيناريو قريب الحدوث.
قد يتميز ثلاث لافتات خارج إيبنغ ميزوري بكل تلك العناصر المغرية للأكاديمية، وقد يكون في مقدمة الترشيحات ليتوج فيلمًا للعام، ولكن بعيدًا عن ذلك، يجب أن نقر أيضًا بجمال هذا الفيلم، وبخصوبته كمشهد وصفي للمجتمع الأمريكي، وكشاهدٍ دقيق للحظة انتقالية في تاريخهم.