كتب الطبيب النفسي وعالم الحاسوب جوزيف ليكليدر، عام 1960 ملحوظة استبقت عصره وقال: “خلال سنوات معدودة، سوف ترتبط الأدمغة البشرية وأجهزة الحاسوب ببعضها ارتباطًا وثيقًا ومحكمًا، وسوف ينتج عن هذه الشراكة أفكار لم يفكر فيها أي دماغ بشري قبل اليوم وستعالج البيانات بطريقة لا تشبه ما نعرفه اليوم”.
لا تعد ولا تحصى المرات التي سمعنا فيها بأن التكنولوجيا وخاصة منتجات الذكاء الاصطناعي سوف تسيطر على حياتنا بشكل غير مسبوق، ولا شك أننا في يومنا الحاليّ نعتمد كليًا على هذه الشاشات والأدوات التكنولوجية الحديثة التي ترافقنا منذ بداية يومنا وحتى ونهايته، فلا يمكن إنكار القفزات النوعية التي شهدتها البشرية بسبب التقنيات الحديثة التي ساعدته على السفر إلى دول بعيدة والتواصل بسهولة مع الجميع في أي وقت ومكان.
المثير للغرابة والقلق هي التجارب الأولية التي تشير إلى إمكانية دمج التكنولوجيا بجسد الإنسان، بحيث يصبح كل من الإنسان والآلة كيان واحد، والغاية من هذه التقنية القضاء على الشيخوخة والمرض والإرهاق والتطوير من أداء جسم الإنسان وقدراته المحدودة، لكن هذه الخطوة التي ستلغي الحدود بين الطبيعة والتكنولوجيا، والإنسان والآلة، لها أبعاد أخرى وهواجس تقلق مضاجع العلماء، فما القطع الإلكترونية الصناعية التي يفكر الخبراء بدمجها في أجسادنا؟ ولماذا يشجع البعض هذه القفزة العلمية، بينما ينتفض البعض الآخر خوفًا من تحقيقها؟
ما أهمية فكرة دمج التكنولوجيا في جسد الإنسان؟
النتيجة النهائية لهذا المشروع العلمي هو خلق نوع جديد من المخلوقات التي تتكون من جزء بيولوجي حيوي وآخر صناعي إلكتروني عن طريق دمج رقاقات إلكترونية داخل مناطق محددة من جسده لتحويل الإنسان إلى كائن خارق وأكثر ذكاءً وقادر على القيام بمهماته اليومية بسهولة مثل فتح الأبواب ودخول المباني دون الحاجة إلى المفاتيح، كما تمكنه من فتح جهازه الخاص دون رمز سري، لأن جسم الإنسان سيحمل كلمات السر التي يتم إرسالها أو تلقيها عن طريق المساحات الضوئية لبصمة الأصبع، وذلك لحماية الشيفرة من الضياع أو النسيان.
باختصار، هي طريقة لتخليص الإنسان من أعباء العصر الحديث وإدخال التكنولوجيا في تركيبته البشرية وكأنها عضو من أعضائه، كالكلية مثلًا التي تقوم بمهامها دون أن نتحكم بها أو نشعر به، لكنها جزء مهم منا.
تعد زراعة قوقعة الأذن – جهاز إلكتروني يقوم بعمل الأجزاء التالفة من الأذن الداخلية عبر إرسال الإشارات الصوتية إلى المخ -، واحدة من أنجح وأقدم الإنجازات الطبية الإلكترونية
من ناحية أخرى تهدف هذه العملية إلى تحسين الوضع الصحي للذين تعرضوا إلى إعاقات جسدية جسيمة مثل الشلل والإعاقة البصرية والمصابين بالجلطات وحوادث العمود الفقري، وذلك من خلال رصد الإشارات الصادرة عن أدمغتهم واستخدامها في الحاسوب، والعكس عبر توليد تيار كهربائي داخل الرأس من أجل إعادة الحياة إلى الأطراف المعطوبة.
إذ ابتكر فريق من العلماء شرائح إلكترونية قابلة للذوبان والتحلل حيويًا داخل جسم الإنسان عندما تؤدي المطلوب وتنتهي مهمتها، وفي الوقت الحاليّ يقوم الخبراء بتطوير نماذج مختلفة لعلاج الإعاقة البصرية من خلال زرع عدسة أو عين إلكترونية، وتعد زراعة قوقعة الأذن – جهاز إلكتروني يقوم بعمل الأجزاء التالفة من الأذن الداخلية عبر إرسال الإشارات الصوتية إلى المخ -، واحدة من أنجح وأقدم الإنجازات الطبية الإلكترونية التي وهبت العلماء بعض الأمل في نجاح تجاربهم بشأن عملية الدمج التكنولوجي البشري.
لم يترك رجال وادي السيلكون هذه التطورات تغيب عن نظرهم، فلقد أعلن كل من مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك وبراين جونسون، نيتهم تأسيس مشاريع أو شركات لتطوير القدرات البشرية عن طريق الدمج التكنولوجي البشري، إذ أسس إيلون شركة باسم “نيورالينك” لاعتقاده بأن اللمس وكتابة الرسائل النصية وسائل تواصل بطيئة لذلك يعمل على تطوير آلية تواصل سريعة ومباشرة بين الدماغ والآلات وذلك خلال الخمس سنوات القادمة.
يهدف المشروع إلى تطوير رقاقة إلكترونية يمكن أن تحفظ الذاكرة وتسلمها للدماغ عند الحاجة لعلاج أمراض مثل الزهايمر والاكتئاب
بعد أسابيع قليلة، أعلن فيسبوك مشروعًا لإيجاد طرق تجعل الناس تستخدم أفكارها للكتابة على الآلة، أي أن الجهاز سيكون بمثابة الفأرة للدماغ ولن يعد الإنسان بحاجة إلى تحريك يديه للكتابة، فسيكون قادرًا على كتابة مئة كلمة في الدقيقة الواحدة بواسطة أفكاره، وهذا بالمقارنة مع الشخص العادي الذي يكتب 30 كلمة في الدقيقة الواحدة، ومن المتوقع أن تتم هذه التجربة من خلال تطوير مفعلات تمكن الأشخاص من سماع أفكارهم عبر الجلد، وبالتالي يمكنهم من إرسال فكرتهم إلى “جلد” شخص آخر وهكذا تكون وصلت الرسالة إلى الطرف المطلوب.
كذلك بالنسبة إلى براين جونسون مؤسس شركة كيرنيل المسؤولة عن تطوير جهاز عصبي صناعي لتحسين وظائف المخ الذي يهدف مشروعه إلى تطوير رقاقة إلكترونية يمكن أن تحفظ الذاكرة وتسلمها للدماغ عند الحاجة لعلاج أمراض مثل الزهايمر والاكتئاب، إذ يرى جونسون أن مشاركة التكنولوجيا في التطور البشري سوف يزيد من القدرات، وذلك خلال تصريحه لشبكة “سي إن بي سي” عندما قال: “هناك احتمال كبير أن نشارك غيرنا في تطوير تكنولوجيتنا”.
كيف يمكن تحقيق الدمج التكنولوجي البشري؟
يتم الاتصال بين الدماغ والحاسوب عن طريق موجات الدماغ أو من خلال إرسال إشارات من الحاسب إلى الدماغ التي غالبًا ما ستقوم بتزويد الأطراف المتضررة أو الأعضاء التالفة بالمساعدة المطلوبة، ويتم التركيز بشكل كبير على الإشارات الصادرة من القشرة المخية لأنها المسؤولة عن الحركة، ففي عام 2008 استطاع معمل شوورتز جعل القرد يتحكم بيد صناعية ويطعم نفسه عن طريق التفكير فقط في تحريكها، ويتم ذلك من خلال رقاقة صغيرة يتم زرعها في دماغ الإنسان ولها القدرة على تحليل الآلاف من الإشارات ونقلها لاسلكيًا للأجهزة أو الأطراف الاصطناعية.
ما المخيف في تكنولوجيا الجسد؟
الفجوة بين الإنسان والآلة بدأت بالتلاشي، إذ أصبحت الآلة جزءًا من العالم الحقيقي الملموس، ولم تعد القدرات البشرية محدودة أو محصورة في إطار معين، فهذا الدمج بين الحقيقة والافتراض نتج عنه تطور تكنولوجي وإلغاء لمفهوم الإنسانية بالمقابل، ورغم أن هذا التداخل يهدف إلى الوصول لنسخة محسنة من الإنسان فإن تغير تركيبة الجسد البشري سوف يؤدي إلى تشويه الحقائق فلن يستطيع العالم التمييز بين الإنسان والآلة.
وهناك مجموعة من الثغرات الأخرى، ومنها احتمالية تعرض الشرائح الإلكترونية للقرصنة وبالتالي اختراق العقل البشري وانتهاك خصوصيته أو إلحاق الضرر به من الهجمات الإلكترونية الخارجية، علاوة على ذلك، تحتاج هذه التقنية إلى إجراء عملية داخل دماغ الإنسان ولن يكون هذا الاقتراح مقبولاً عند الجميع، وبالتالي سيخلق فجوة اجتماعية بين من يستطيع الاستفادة من هذه التقنية ومن لا يستطيع، وهذا الاختلاف سوف ينتج عنه صراع لا محالة.
فكرة الأعضاء الاصطناعية أو الأطراف سوف تتحول إلى سوق تجاري يدر الملايين على أصحابه، فمن لا يرغب بالحصول على عضو أكثر مقاومة واستدامة وكفاءة من الأعضاء الطبيعية؟
كما يعتقد بعض الخبراء، أن فكرة الأعضاء الاصطناعية أو الأطراف سوف تتحول إلى سوق تجاري يدر الملايين على أصحابه، فمن لا يرغب بالحصول على عضو أكثر مقاومة واستدامة وكفاءة من الأعضاء الطبيعية؟ وهذا السؤال يأخذ بنا إلى محور جديد وهو إلغاء لمفهوم الفناء في الحياة البشرية والبحث بشكل أكبر عن الخلود.
وإلى ذلك، فإن هذه المشاريع والتجارب ما زالت تقودنا إلى نهايات مفتوحة ولا يمكن الجزم بمدى استحالة تحقيقها، ولكن لا شك أن تطبيقها سيجعل من الصعب إطلاق صفة البشرية على الإنسان بعد ذلك.