صفعتان قاسيتان تلقتهما دولة الإمارات الأسبوع الماضي في غضون 48 ساعة فقط، الأولى كانت من غرب القارة الإفريقية حيث قرّرت جمهورية تشاد استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع قطر بعد أن قطعتها في أغسطس/آب 2017 استجابة لإغراءات إماراتية واضحة، وقبل أن تفيق أبوظبي من صدمة الخطوة التي اتخذتها تشاد، فوجئت بإنهاء حكومة جيبوتي عقد الامتياز الممنوح لمواني دبي من أجل تشغيل محطة حاويات “دوراليه” في ميناء جيبوتي الواقع على ساحل البحر الأحمر.
هذا إلى جانب الضربة الأولى التي تلقتها الرياض وأبوظبي من السنغال في أغسطس/آب الماضي بعدما قررت الأخيرة إعادة سفيرها إلى الدوحة واستئناف العلاقات بشكل طبيعي.
خطوات إغراء تشاد لقطع العلاقات مع قطر
فور بداية الأزمة الخليجية (5 من يونيو/حزيران 2017)، استدعى الرئيس التشادي سفيره في الدوحة أبو بكر الصديق شرومة للتشاور بعد 3 أيام فقط من اندلاع الأزمة، في تصرفٍ يهدف للتضامن مع دول حصار قطر، وفي الوقت نفسه عمل على إبقاء شعرة معاوية مع قطر أملًا منه في انتهاء الأزمة سريعًا، ولكن عندما طالت القضية حدّد نظام إدريس ديبي موقفه (بعد أن أغرته أبوظبي)، واتخذ قراره لصالح دول الحصار، كما يرى القيادي المعارض محمد شريف جاك.
الخطوة الثانية في مسلسل انضمام إنجمينا لمعسكر أبوظبي ـ الرياض، تمثلت في زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي إتنو إلى الإمارات منتصف يوليو/تموز من العام الماضي، حيث التقى بولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الذي يوصف بأنه العقل المدبر لسيناريو حصار قطر.
ونقلت وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية حينها عن ابن زايد حرصه على تعزيز العلاقات وتنميتها مع جمهورية تشاد وتوثيقها في مختلف المجالات وتكثيف الحوار معها للوصول بالعلاقات إلى مستويات رفيعة من التعاون والعمل المشترك.
وأضافت الوكالة “بحث الجانبان آخر التطورات والمستجدات إقليميًا ودوليًا وبصفة خاصة التطورات السياسية في ليبيا وسبل دعم جهود الأمن والاستقرار فيها إضافة إلى ملف التطرف والإرهاب وأهم القضايا ذات الاهتمام المشترك”.
لنتوقف قليلًا عند العبارة الأخيرة، من المعروف أن أبوظبي تتدخل في ليبيا جارة تشاد علنًا وليس سرًا فقط، فهي تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر وتؤكد تقارير أممية إغراق الإمارات ليبيا بالأسلحة في خطةٍ واضحة تهدف لتمكين حفتر من بسط سيطرته على كامل التراب الليبي، وتقويض كل مساعي رأب الصدع بين أطراف الأزمة الليبية.
الخطوة الثالثة تكفّل بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي زار العاصمة التشادية إنجمينا قبل ستة أيام من قرار قطع العلاقات مع قطر، والتقى السيسي بالرئيس إدريس ديبي في ختام جولةٍ إفريقية شملت كل من تنزانيا ورواندا والغابون، ونلفت إلى أن كلمة السر في زيارة السيسي كانت “إدانة الرئيسين للأعمال الإرهابية التي ارتكبت في بعض البلدان الإفريقية”، كما ذكرت وسائل إعلام مصرية.
كان المقابل المادي الذي دعمت به الإمارات تشاد ضعيفًا جدًا ولا يتناسب مع اتخاذ قرار خطير مثل قطع العلاقات مع قطر، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دعت الرئيس إدريس ديبي إلى للتراجع واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة
في 23 من أغسطس/آب 2017 اتخذت تشاد قرارها قطع العلاقات مع قطر، وبرر بيانٌ لوزارة الخارجية التشادية القرار بأنه جاء بسبب “التورط المتواصل لدولة قطر في محاولات زعزعة استقرار تشاد انطلاقًا من ليبيا”.
القرار التشادي احتفت به وسائل الإعلام التابعة للدول الأربعة (السعودية، الإمارات، مصر، البحرين) أيما احتفاء، معتبرة أنه يسهم في عزل قطر ويكشف تآمرها وتورطها في دعم الإرهاب، على تعبيرها، كما أغدقت قناة العربية وموقع 24 الممول إماراتيًا المدح على الرئيس التشادي إدريس ديبي واصفةً إياه بثعلب الصحراء الذكي ذي المواهب العسكرية والاستخباراتية الخارقة!
ما الثمن الذي دفعته أبوظبي لتشاد؟
بعد نحو أسبوعين فقط من قرار تشاد قطع العلاقات مع الدوحة، نظَّمت الإمارات مؤتمر “التنمية والاستثمار في تشاد” الذي احتضنته العاصمة الفرنسية باريس وشارك فيه وزير الدولة الإماراتي سلطان الجابر.
وأعلن الجابر في المؤتمر الذي حضره الرئيس التشادي إدريس ديبي مساهمة بلاده بـ150 مليون دولار عبر صندوق أبوظبي من أجل دعم خطط التنمية الشاملة في جمهورية تشاد للأعوام 2017 ـ 2021.
إذًا، فقد كان المقابل المادي الذي دعمت به الإمارات تشاد ضعيفًا جدًا ولا يتناسب مع اتخاذ قرار خطير مثل قطع العلاقات مع قطر، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دعت الرئيس إدريس ديبي إلى للتراجع واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة.. سنعود إلى ذلك بشيء من التفصيل خلال السطور القادمة.
كيف تراجعت إنجمينا عن قطع العلاقات مع قطر؟
بطبيعة الحال لعبت الدبلوماسية القطرية دورًا فاعلًا في توجيه الضربة القوية لمحور أبوظبي ـ الرياض من خلال سياستها الهادئة التي تقوم على النفس الطويل، فقد تبيّن تدريجيًا لإدريس ديبي خطأ قراره الانضمام لدول الحصار في وقتٍ كانت فيه تشاد تتمتع بعلاقات جيدة مع قطر، حيث نفّذ الهلال الأحمر القطري وجمعية قطر الخيرية مشروعات إنسانية كبيرة أسهمت في تخفيف الفقر والمعاناة التي يكابدها المواطن التشادي.
وبنت المؤسسات الخيرية القطرية عدة مراكز صحية، وحفرت آبار إرتوازية ومضخات مياه قللت بدورها من نسبة انتشار الأمراض الناجمة عن فقدان الماء الصالح للشرب أو صعوبة الوصول إليه، ومكّنت المشروعات الإنتاجية التي ملكتها قطر الخيرية آلاف السكان من الاعتماد على أنفسهم معيشيًا وزراعة المحاصيل الشتوية في المناطق التي تم تنفيذ المشايع الزراعية بها، وتسويق منتجاتهم الزراعية وتزويد العاصمة بالخضراوات الطازجة، وفقًا لما ذكره خالد هدى مدير مكتب قطر الخيرية في تشاد في يناير/كانون الثاني من العام الماضي.
كما أن هناك زيارتين إلى إنجمينا أحدثتا تحولًا في مواقف إدريس ديبي، إذ قام الرئيس السوداني عمر البشير برحلةٍ إلى تشاد مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي للمشاركة في احتفالات البلاد بأعيادها الوطنية رافقه مدير جهاز الأمن آنذاك محمد عطا المولى، وتردد في تلك الأيام أن البشير لعب دورًا في إقناع إدريس ديبي بالتخلي عن قرار قطع العلاقات مع قطر.
قطر مهتمةً بوجود حلقة تواصل مع تشاد، لأن الأخيرة ترعى اتفاقية الدوحة لسلام دارفور
وفي ديسمبر نفسه وصل العاصمة التشادية إنجمينا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرافقه وفد رفيع المستوى يضم رئيس الأركان وعدد من الوزراء ورجال الأعمال، ويُعتقد كذلك أن أردوغان الذي يربطه تحالف وثيق مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، أكمل ما بدأه البشير من مساعٍ لتغيير موقف حكومة تشاد.
وبالعودة إلى ما ذكرناه عن ضآلة المقابل المادي الذي منحته الإمارات لتشاد عقب اتخاذها قرار قطع العلاقات مع قطر، قد يكون الرئيس إدريس ديبي شعر بالإحباط في “مؤتمر التنمية والاستثمار” إذ ربما كان يتوقع من أبوظبي بعد استدعائه في يوليو الماضي دعمًا لا يقل عن مليار دولار ومثلها استثمارات أو ودائع تنعش حال بلده الفقير.
وربما شعر ديبي بالندم والغيرة من جيرانه في دول غرب إفريقيا الستة التي زارها أمير قطر في جولته الأخيرة خلال أواخر العام الماضي والمكاسب التي خرجت بها دول مثل السنغال وساحل العاج ومالي وغيرها من زيارة الشيخ تميم والاتفاقيات التي وُقعت في مجال الاستثمار والبنية التحتية.
أهمية تشاد إفريقيًا
تتتوسط تشاد القارة الإفريقية وهي مدخل مناسب لدول غرب القارة السمراء، كما تتشارك مع جارها الشرقي “السودان” إثنيًا فهناك العديد من القبائل المشتركة بين الدولتين وعلى رأسها قبيلة الزغاوة التي ينحدر منها الرئيس إدريس ديبي.
واحتضنت مدينة أبشي التشادية أولى جولات التفاوض بين الحكومة السودانية وحركات التمرد في دارفور، لذلك ستكون قطر مهتمةً بوجود حلقة تواصل معها نسبةً لأن الأخيرة ترعى اتفاقية الدوحة لسلام دارفور، وقد شارك الرئيس ديبي في احتفالٍ بالاتفاقية أقيم في مدينة الفاشر السودانية العام الماضي إلى جانب أمير قطر الشيخ تميم والرئيس السوداني البشير.
فضلًا عن تقاطع جمهورية تشاد بحكم الجوار مع ليبيا التي أصبحت تحتضن حروبًا بالوكالة بين عدد من الدول، هذا إلى جانب كونها (تشاد) إحدى دول الساحل الإفريقي الذي يشهد نزاعات وتهديدات أمنية واسعة، حيث حصلت القوة العسكرية الإفريقية لدول الساحل على دعم مالي وسياسي كبير في اجتماع بروكسل الجمعة الماضية الذي حضره نحو 32 رئيس دولة وحكومة من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وممثلون عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى رؤساء الدول الإفريقية الخمسة، تشاد وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وبالنظر إلى الأهمية الاقتصادية لجمهورية تشاد، نجد أنها تضم الجزء الأكبر من بحيرة تشاد التي تمتد على أراضي ثلاث دول إفريقية أخرى، هي الكاميرون والنيجر ونيجيريا.
وتعتبر البحيرة مصدرًا اقتصاديًا مهمًا وموردًا مائيًا لأكثر من عشرين مليون شخص يقطنون الدول الأربعة، وهي قادرة على سد حاجة القارة الإفريقية كاملة من الغذاء في حال وجدت الاهتمام المناسب كما قال وزير الزراعة والثروة الحيوانية التشادي قمر السليك، مشيرًا إلى أن البحيرة تتمتع في الوقت نفسه بقدرات كهرومائية.
وبجانب ذلك، ستنعكس عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدوحة وإنجمينا إيجابًا على شركة الخطوط الجوية القطرية حيث ستتمكن من استخدام المجال الجوي التشادي في رحلاتها من وإلى غرب القارة الإفريقية والأمريكتين.
وبشكلٍ عام، يُنظر إلى أن توقيع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن ووزير الخارجية التشادي شريف محمد زيني على مذكرة تفاهم تقضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ظهر الأربعاء الماضي بأنه ضربة قوية لأطماع السياسة الإمارتية ومنهج الهيمنة على الدول بالقيمة المادية ومساعي أبوظبي لعزل دولة قطر عن محيطها الإقليمي والدولي، كما أنه يدل على نجاح الدبلوماسية القطرية فى إدارة ملفات العلاقات الدولية حسب المحلل السوداني أحمد سالم.