بدأت جماعة الحوثي في نوفمبر/تشرين الأول الماضي شن هجمات متقطعة على سفن الشحن الإسرائيلية أو المرتبطة بها – خاصة في البحر الأحمر – بصواريخ ومسيّرات، تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة الذين يشن عليهم كيان الاحتلال الصهيوني عدوانًا همجيًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
سارعت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون بالرد على هجمات الحوثيين، إلا أنهم لم يستطيعوا ثني اليمنيين عن تضامنهم مع الفلسطينيين، فأغرقوا سفنًا وأحرقوا أخرى بينما تم احتجاز البعض منها.
أثرت هذه الهجمات المتبادلة على التجارة العالمية، فمركزها باب المندب، وهو ممر ضيق بين اليمن وجيبوتي في أقصى جنوب البحر الأحمر، ويعدّ أحد أكثر الممرات البحرية ازدحامًا في العالم، إذ يعبر من خلاله ما يوازي خُمس الاستهلاك العالمي من النفط.
تأثرت مصر أيضًا بهذه الهجمات، فالسفن التي تمر من قناة السويس – مصدر دخلها الأساسي – إلى البحر الأبيض المتوسط، اضطرت للتحول إلى مسار أطول وأعلى تكلفة يربط آسيا بأوروبا مرورًا برأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الإفريقية.
أدت هذه التطورات إلى تراجع إيرادات قناة السويس، ما دفع القيادة المصرية إلى محاولة تفعيل خط التجارة العربي، وهو أول خط شحن لوجستي يربط عدة دول من الخليج العربي بمصر في طريقه إلى الموانئ الأوروبية والأمريكية.
إحياء مشروع قديم
المشروع المرتقب يتنزل ضمن مبادرات إحياء طريق الحرير ومسارات التجارة القديمة لتحقيق تعاون دولي واسع يمتد عبر القارات، ولكن عجلت هجمات الحوثيين بالبدء في تنفيذ هذا المشروع الواعد، الذي يجمع بين مصر والأردن والعراق، على أن يربط دول الخليج وباقي الدول العربية بالقارة الآسيوية بدول شمال إفريقيا من خلال مصر، ومنها إلى أوروبا وأمريكا.
من المخطط أن يجمع المشروع بين عدة وسائل نقل وشحن لتسيير التجارة من خطوط برية وخطوط سكة حديد وموانئ بحرية وممرات نهرية، حيث يضم ميناء البصرة العراقي المطل على الخليج العربي ومهمته استقبال البضائع القادمة من آسيا ودول الخليج على أن تصل لبغداد وميناء العقبة القديم بالأردن ومن ثم ميناءي نويبع وطابا بمصر ومن هناك تمتد سكك حديدية وطرق سريعة لإيصال البضائع لموانئ مصر على البحر المتوسط وهي العريش وبورسعيد ودمياط والإسكندرية.
جزء من هذا المشروع جاهز بالفعل، بما يشمل الموانئ في الدول الثلاثة، وبعض الكيلومترات من السكك الحديدية في العراق والأردن ومصر.
وتعمل مصر حاليًا، وفق وزارة النقل، على إنشاء خط سكة حديد “طابا العريش بئر العبد الفردان” بطول 500 كيلومتر وهو أحد الممرات اللوجستية السبع الدولية في المشروع، والذي سيربط ميناءي نويبع وطابا على خليج العقبة بميناء العريش على البحر الأبيض المتوسط.
ويمر المشروع عبر 3 مراحل: المرحلة الأولى تتمثل في نقل البضائع من العراق إلى الأردن، أما الثانية فتتمثل في نقل البضائع من الأردن إلى مصر، فيما تشمل الثالثة نقل هذه البضائع إلى الموانئ الأوروبية والأمريكية عن طريق شركة الجسر العربي البحرية.
هذه الشركة هي نتاج اتفاق بين حكومات: الأردن ومصر والعراق، وقد تم تأسيسها في نوفمبر/تشرين الثاني 1985 برأسمال قدره 6 ملايين دولار أمريكي مقسمة بالتساوي بين الدول الثلاثة المؤسسة، وقد استمرت زيادة رأس المال منذ سنة 2002 إلى أن وصل في سنة 2014 إلى 100.5 مليون دولار، وفق موقع الشركة.
يذكر أن هذه الشركة الثلاثية تمتلك أسطولها الخاص المكون من سبع وحدات بحرية تقدّر قيمتها بأكثر من 140 مليون دولار، وقديمًا كانت تعمل ببواخر مستأجرة، وتخطط الشركة لتعزيز قوة أسطولها في المستقبل والتوسّع في عملياتها.
“الشام الجديد”
يمكن تنزيل هذا المشروع المرتقب ضمن مشروع التعاون الذي أطلق بين هذه البلدان الثلاثة في سبتمبر/أيلول 2020 والذي يحمل اسم “الشام الجديد“، وهو مشروع اقتصادي على النسق الأوروبي، يهدف إلى تكوين تكتل إقليمي قادر على مواجهة التحديات، وفق رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي.
يشار إلى أن هذا التعاون الثلاثي طُرح خلال ولاية رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، إلى أن عزمت حكومة الكاظمي على إكماله بعد أن تلقت الضوء الأمريكي وذلك بهدف تقوية علاقات العراق مع مصر والأردن بعيدًا عن إيران.
وشهدت العلاقات الثلاثية في السنوات الأخيرة تطورًا كبيرًا، ففي غضون عامين فقط، التقى زعماء هذه البلدان أربع مرات، كما تضاعفت الاجتماعات على المستوى الوزاري وكبار مسؤولي الدول الثلاثة وهو ما تسعى إليه واشنطن.
جدير بالذكر أن هذه الدول الثلاثة أسست قبل 30 سنة “مجلس التعاون العربي” وذلك بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية مباشرة وكان معهم آنذاك اليمن الشمالي، وكان مخططًا أن يكون هذا المجلس منافسًا لمجلس التعاون الخليجي الذي يجمع 6 دول عربية مطلة على الخليج العربي عدا العراق، إلا أنه سرعان ما تم حله نتيجة الحرب العراقية ضد الكويت.
التقارب لم يكن دبلوماسيًا فقط وإنما شمل الجانب الاقتصادي أيضًا، إذ عرف التعاون الاقتصادي بين الدول الثلاثة انتعاشًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، ففي سنة 2017 بدأت مصر باستيراد النفط العراقي، ولحق بها الأردن بعد سنتين، فيما يستقبل العراق العمالة المصرية والأردنية.
وتوجد بين الدول الثلاثة العديد من الاتفاقيات والمشروعات، ومنها الربط الكهربائي وتبادل الطاقة والخبرات، فضلًا عن مشروعات تخص الصناعة والزراعة والنقل، وتخدم مصلحة الدول الثلاثة دون استثناء.
أهداف كثيرة
يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل من العراق ومصر والأردن مجتمعين نحو 800 مليار دولار، في حين تصل الكثافة البشريّة فيهم إلى نحو 155 مليون شخص، ما يعني وجود آفاق كبيرة في حال تفعيل بنود التعاون بين الدول الثلاثة، فمصر تمتلك كتلة بشرية ضخمة، فيما يمتلك العراق الثروة النفطية، أما الأردن فيتمتع بموقع جغرافي مهم يربط العراق بمصر.
فضلًا عن ربط آسيا بإفريقيا وأوروبا وأمريكا وتحويل دول المشروع إلى نقاط لوجستية كبرى في مسار التجارة الدولية، من شأن بدء عمل هذا الممر التجاري الجديد أن يساهم في تنمية الدول الثلاثة وتدعيم العلاقات بينها دبلوماسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، إذ سيزيد المشروع حجم التنسيق بين الدول الثلاثة وسييسر التبادل التجاري بينها ويسهل تدفق النفط والبضائع من الشرق حيث ميناء البصرة إلى الغرب، ومنه إلى البحر المتوسط وأوروبا.
تبلغ نسبة التجارة العربية البينية نحو 13.8% من إجمالي التجارة الخارجية للدول العربية، وهي نسبة متواضعة نسبيًا، ولا تلبي الطموحات بالمقارنة مع التكتلات الاقليمية الأخرى
من حيث المسافة، يعتبر خط التجارة العربي أقصر مسافة من المرور عبر الخليج العربي ثم المحيط الهندي فالبحر الأحمر، حيث يختصر هذا الممر المسافة الطويلة التي كان يتوجب على السفن قطعها للوصول إلى الموانئ الأوروبية.
فضلًا عن الجوانب الاقتصادية، من شأن هذا المشروع الواعد أن يدعم مكانة الدول الثلاثة المكونة له في خريطة التجارة العالمية ويدعم نفوذها إقليميًا، فمن يتحكم في التجارة تكون له اليد العليا والقرار الأبرز.
وسيمنح المشروع العراق فرصة تنويع علاقاته الإقليمية خارج الوصاية الإيرانية، فقادة العراق يسعون لتطوير علاقاتهم مع جيرانهم العرب، فيما تبحث كل من مصر والأردن عن فرص إضافية لتقليل الاعتماد على المملكة العربية السعودية.
فرص النجاح
يمكن أن يوفر مشروع خط التجارة العربية فرصًا اقتصادية وسياسية كثيرة للدول المشاركة فيه، لكن هناك العديد من التحديات التي يمكن أن تقف حائلًا أمام استكمال هذا المشروع، لا سيما أنه يُراد له أن يكون بديلًا لقناة السويس، لكن في حال توقف الحرب الصهيونية ضد الفلسطينيين واستتباب الأمر في مضيق المندب ستعود السفن للمرور من هذه القناة فهي الأسهل والأقل تكلفة.
يعني ذلك أن المستفيد الأبرز من هذا الممر هي مصر، فإن توقفت السفن عن المرور عبر قناة السويس يمكن للشركات أن تستعمل الطريق الجديد وإذا عادت القناة للعمل كالسابق فالسفن ستمر عبرها، ما يعني أن مصر ستستفيد في كلتا الحالتين عكس العراق والأردن ما سيقلل من حماسهما تجاه المشروع.
إحدى المصاعب التي يمكن أن تعرقل سير المشروع أيضًا، ضعف الإنتاج المحلي في مصر والعراق والأردن، أي أنه لا توجد بضائع كثيرة لتشغيل هذا الممر وأغلب البضائع المنتجة في هذه الدول الثلاثة مُعدّة للاستهلاك المحلي.
عدا عن أن مصر والأردن في ضائقة مالية كبرى وليس من السهل عليهما تمويل مشروع عملاق وسيضطران للاقتراض من جهات خارجية لا تمنح قروضًا إلا في حال تحقق مصالحها، فضلًا عن وجود صعوبات تقنية يمكن أن تعترض الدول الثلاثة في إنجاز المشروع، خاصةً في ظل انتشار الفساد والبيروقراطية في هذه الدول.
يضاف إلى ذلك، صعوبات جيوسياسية فبعض القوى في المنطقة لا تريد للمشروع أن ينجح، من ذلك كيان الاحتلال، فخط التجارة العربي سيؤثر سلبًا على مشروع قناة بن غوريون أو القناة الإسرائيلية وهو مشروع مقترح لقناة مائية في كيان الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى الربط بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط.
إيران أيضًا غير متحمسة لهذا المشروع، فإن نجح هذا الخط ستفقد سيطرتها على العراق الذي سيوطد علاقاته مع الدول العربية، وبالتالي ستخسر طهران العديد من المميزات في هذا البلد، لذلك يُترقب أن تعمل قصارى جهدها لإفشال المشروع المرتقب.
وتبلغ نسبة التجارة العربية البينية نحو 13.8% من إجمالي التجارة الخارجية للدول العربية، وهي نسبة مما لا شك فيه متواضعة نسبيًا، وفق صندوق النقد العربي، ولا تلبي الطموحات بالمقارنة مع النسب المثيلة المسجلة في التكتلات الاقليمية الأخرى.
وتعتبر الحواجز الجمركية المرتفعة من أبرز العقبات أمام تطور التبادل التجاري بين البلدان العربية، فرغم تخفيض بعض الدول متوسط التعريفات الجمركية وهي تقترب من المستويات العالمية حاليًا، فإنها ما زالت مرتفعة، كما أن الافتقار لرؤية واحدة ومشتركة واختلاف المعايير الفنية والصحية ساهم أيضًا في هذا التردي.
رغم كل هذه العراقيل، فإن نجاح المشروع ممكن إذا وُجدت الإرادة، وفي حال نجاحه سيكون أداة سياسية فعالة للمساعدة في استعادة النمو، وخلق فرص العمل، والحد من المخاطر الجيواستراتيجية التي تواجه الدول الثلاثة ولما لا تنضم إليهم دول عربية أخرى حتى تعُم الفائدة أكثر.