لقد باتت مسألة سيطرة الولايات المتحدة على مساحة واسعة من الأرضي السورية عبر حزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د” أمرًا معلومًا بالبديهة بالنسبة للمطلعين على الشأن السوري، وفي طور اتجاه الجهات الفاعلة في سوريا، لا سيما روسيا، لتسوية الأزمة السورية، بما يكفل لها مصالحها الإستراتيجية، بات التساؤل الأكثر طرحًا من المتابعين هو: كيف تخطط الولايات المتحدة للإبقاء على نفوذها الإستراتيجي في سوريا؟
تكاد ورقة مؤسسة راند الأمريكية بعنوان “خطة سلام من أجل سوريا *4” الأكثر مخاطبةً لإجابة هذا التساؤل، هذه الخطة الصادرة عن مؤسسة ذاع صيتها بقربها وتأثيرها في صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط، تحمل الكثير من التفاصيل عن خطة الولايات المتحدة للإبقاء على نفوذها في سوريا.
بداية، تنطلق الورقة من قناعةٍ مفادها أن الدول الداعمة للمعارضة باتت تدرك ضعف المعارضة في تحقيق هدف إسقاط نظام الأسد، معبرةً في ذلك عن ميلها للانطلاق من واقعية سياسية ترى أن التأثير الإستراتيجي في مسار الأزمة السورية أضحى ممكنًا من خلال ملف إعادة الإعمار.
إذًا، ورقة إعادة الإعمار هي الورقة الرئيسية التي تسعى الولايات المتحدة بالركون إليها لاستخدامها في تحقيق هدف البقاء طويلًا في سوريا، وبمسارٍ عام، تُشير راند إلى أن استخدام ورقة إعادة الإعمار سيتم في عملية بناء مجتمع ينعم بالتعددية السياسية، ويحد من النفوذ الإيراني ـ الروسي، ويقضي على مسببات ظهور تنظيمات متشددة كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
بقاء الولايات المتحدة، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في شمال شرقي سوريا، يخدم مصالحها وحلفائها من الخليجيين والإسرائيليين الذين يريدون تقليم أظافر النفوذ الإيراني
تؤمن الخطة بالفيدرالية اللامركزية، وبذلك تتفق إلى حدٍ كبير مع الطرح الروسي الذي عبر عن رؤيته غير المعلنة للحل وهي “الشيشنة”، حيث تصبو الخطة إلى حلٍ يُبقي على النفوذ الروسي وسيطرة النظام، مع إعادة فرز قوى المعارضة وفقًا للمعتدلة وغير المعتدلة، لا سيما في منطقة إدلب، حيث سيطرة الهيئة التي ترى الورقة أنها مرتبطة مباشرة بتركيا، غير أن نقطة الخلاف بين الخطة المطروحة وخطة روسيا، هو سعي كل طرفٍ لتحصيل نفوذ أكبر مقارنة مع الطرف الآخر.
قد أكون كررت هذه النقطة تكرارًا ومرارًا، لكن لا بد من إعادة التذكير بها والتأكيد عليها، ألا وهي نقطة تشابه عملية تسوية الأزمة السورية الحاليّة بمختلف الخطط والبرامج، بعملية التسوية التي تبعت حرب الوراثة الإسبانية، عُرفت عملية تسوية حرب الوراثة الإسبانية باسم “الأيلولة الإسبانية” التي يُقصد بها حرب الوراثة الإسبانية التي اندلعت عام 1701، واستمرت حتى 1714، بين فرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا على وراثة الملك تشارلز الثاني الذي كان آخر ملوك إسبانيا من سلالة الهابسبورغ، وانتهت الحرب بتوقيع اتفاقية “راشتات” عام 1714 التي قضت بتقاسم ممتلكات إسبانيا بين المتنازعين حفاظًا على موازين القوى بينهما.
وفي هذا السيناريو يكون هناك تقسيم جغرافي عسكري للمنطقة الواحدة، حيث تُقسم هذه المنطقة على الدول ذات الفاعلية، لكن تبقى على صعيد السياسة الدولية معترف بها كوحدة واحدة، وعلى الأرجح، ووفقًا لراند، قد ينتهي المصير السوري بدولة واحدة مستقلة ومتوازنة في علاقتها بالقوى المتنافسة التي ستتقاسمها جغرافيًا واقصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.
وطبقًا للورقة، رسخت تركيا بعمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، والولايات المتحدة بسيطرتها عبر قوات “قسد” في شمال شرقي سوريا، و”إسرائيل” في المناطق القريبة من الجولان، والأردن في سيطرتها غير المباشرة القريبة من درعا، وكذلك روسيا وإيران في الساحل والمناطق الداخلية لسوريا هذا السيناريو، وما قد يواجه هذا السيناريو هو الاعتراض الروسي الإيراني، لكن يبدو أن استغلال ورقة الإعمار، وفقًا للورقة، إلى جانب الضغوط الدولية قد يجعل سوريا دولة مُقسمة على نحو يكفل لأنقرة وواشنطن وعمان و”إسرائيل” مصالحها على المدى البعيد.
إن كانت الولايات المتحدة تُخطط لنشر معايير سياسية معينة تحفظ لها نفوذها في بعض المناطق السورية، لا سيما الشمالية والشمالية الشرقية منها، فهي بحاجة إلى دعم تركي كبير في هذا الإطار
وما يزيد من دلالات إيمان الورقة الراسخ بهذا السيناريو، إشارتها إلى أن بقاء الولايات المتحدة، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في شمال شرقي سوريا، يخدم مصالحها وحلفائها من الخليجيين والإسرائيليين الذين يريدون تقليم أظافر النفوذ الإيراني، لكن قد تواجه الولايات المتحدة اعتراض حقوقي على وجودها في سوريا، مما يجعلها مضطرة للتوافق مع العراق وتركيا لإقامة قواتها في مناطق حدودية، ولعل زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، إلى أنقرة تأتي في هذا المنوال.
إذ إن العلاقات بين أنقرة وواشنطن في أوج تدهورها، وبما أن واشنطن بحاجة إلى توقيتٍ تكون فيها العلاقات جيدة بين الطرفين، طغت على الزيارة أجواء وصفت بالإيجابية من الصحف التركية، حيث استمع تيلرسون لمطالب أنقرة التي تمحورت حول انسحاب قوات “ي ب ج” نحو الشرق من الفرات، والانتشار في منبج إلى جانب القوات الأمريكية.
وقد تستجيب الولايات المتحدة نسبيًا لهذا المطالب، نظرًا لسلم أولوياتها الذي يضع شرق الفرات، وليس غرب الفرات؛ حيث عفرين، في الحسبان، ولكن يبقى تحرك بعض الدول الخليجية، لا سيما الإمارات العربية المتحدة، نحو استخدام ورقة دعم النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د” وحتى المجلس الوطني الكردي ـ المحالف ضمنًا لتركيا ـ أمرًا محتملًا يشكل عائقًا أمام تركيا التي تسعى لاستغلال تلك الورقة لصالحها، وفرصةً أمام الولايات المتحدة التي تبحث عن بديل نسبي لتركيا.
حيث يمكن للولايات المتحدة الاعتماد على الأموال الخليجية التي يمكن أن تدخل عبر العراق وإقليم كردستان، وبالتالي تكون، أي الولايات المتحدة، غير مضطرة للخضوع الكامل لتركيا التي تملك النفوذ السياسي والميزة الجيوسياسية، حيث يمكن للولايات المتحدة بذاتها بناء نفوذ مباشر على فصائل المعارضة، يضطر تركيا لتقديم التنازلات في بعض النقاط.
إن كانت الولايات المتحدة تُخطط لنشر معايير سياسية معينة تحفظ لها نفوذها في بعض المناطق السورية، لا سيما الشمالية والشمالية الشرقية منها، فهي بحاجة إلى دعم تركي كبير في هذا الإطار، لجهة الموقع الجغرافي والنفوذ السياسي اللذين تتمتع بهما تركيا.
تسعى الولايات المتحدة إلى تنفيذ خطتها عبر مجالس محلية شرعية
في المقابل تجدر الإشارة إلى انعدام القدرة الكاملة لروسيا وإيران في تبني عملية الإعمار بالكامل، التي تبلغ تكلفتها ربع تريليون دولار أمريكي تقريبًا، مما قد يدفع روسيا إلى جانب النظام السوري إلى القبول بإيقاف الصراع العسكري، والدخول في عملية تقديم تنازلات متواضعة من أجل الحصول على تمويل إعادة البناء، لا سيما، ربما، في ظل نضوب تلك المصادر المتوفرة في العراق.
ماذا عن الصين التي أبدت استعدادتها الشديدة للاستثمار وإعادة الإعمار في سوريا؟ وماذا عن مجموعة البريكس (مجموعة الدول الأسرع نموًا في العالم) ؟ لا شك أن هذه الدول لا تستطيع تبني عملية إعادة الإعمار بالكامل، لكنها لا شك تُقدم دعمها للنظام في المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما قد يجعل النظام أقرب ما يكون إلى الاستغناء عن الدعم الغربي، لكن، يبقى الحصار الاقتصادي المفروض على نظام الأسد ورقة بيد الغرب لفرض رؤيتها في عملية إعادة الإعمار، مما يجعها صاحبة تأثير في مسار العملية السياسية، وبالأخص مواضيع شكل الدولة وغيرها.
على الأرجح، تسعى الولايات المتحدة إلى تنفيذ خطتها عبر مجالس محلية شرعية، وتأتي شرعية وجود النفوذ الغربي، وبالأخص الأمريكي، في سوريا عبر المجالس الشرعية عملًا بمبدأ إنشاء هيئات محلية تتمع بشرعية وقبول شعبي في محيط سيطرتهًا، واعتمادًا على مبدأ:
وبحسب ورقة راند، هذه الخطة تأتي بديلًا للقرارات التي تم التوصل إليها في جنيف وعبر مجلس الأمن، بمعنى أن الولايات المتحدة ترغب، بخطتها المعنية، مواجهة أو موازنة الهيمنة الروسية على المسألة السورية عبر مشروعٍ يمنحها شرعية شعبية توازن الهيمنة الروسية، حتى ولو صاغت روسيا الدستور ونظام الحكم السوريين، ففي هذه الحالة تكون روسيا قدمت شكل حكم نظري، والولايات المتحدة، عبر المجالس المحلية المنتشرة في أكثر من 35% من الأراضي السورية، صاغت تطبيقات خاصة بها.
وعن إمكانية نجاح هذه الخطة، عادةً في حال توفر هيكلية توازن القوى نسبيًا على النحو أدناه، تستطيع الولايات المتحدة عبر مجالسها المحلية الإدارية تحقيق النجاح المنشود:
1ـ داعم دولي.
2ـ مُحرك جسري محلي يحتاج إلى:
أـ براعة في التخصص البعيد عن الانتشار، أي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
بـ القدرة على تحويل المدخلات التمويلية والتجارية إلى مخرجات استثمارية تلبي حاجات المجتمع، للوصول إلى أسس التعاون التكافلي أو التكاملي وليس التبعي مع الفواعل الخارجية.
جـ براعة في بناء أمة أو شعب عبر إقناع فئات المجتمع بالقبول بسلطتها عبر الأساليب الناعمة والصلبة.
دـ إيلاء أهمية لإتاحة الفرصة للشعب وممثليه “كالمخاتير ورؤساء العشائر ومشايخ العقل”، للمشاركة في عمليات صنع القرار، أيضًا، لا بد من إيلاء أهمية إلى مشاركة الأقليات والنساء في العملية السياسية.
هـ- رعاية عملية توزيع الخدمات بين المواطنين، والمهام بين القائمين عليها.
ن- تأسيس هوية مواتية للبيئة المحيطة، فعلى سبيل المثال يحافظ على الأصول العشائرية في المناطق التي يطغى عليها مسار الحكم العشائر وهكذا.
ي- العمل على إنجاح الاندماج الإداري بين الهيئات القائمة والتغلغل في أطراف المجتمع الثقافية والاجتماعية والقضائية والسياسية والاقتصادية كافة، لكسب الشرعية التي تمكنه من منع تشكل “بيروقراطية أو برجوازية كمبرادورية” “سمسارية” أو “طفيلية”.
في الختام، تحاول الولايات المتحدة صياغة خطة معاكسة للتوجه الإستراتيجي الروسي، بغية إنشاء نفوذ إستراتيجي على نحوٍ بعيد، لكن يبقى التساؤل المطروح عن هذه الخطة هو: كيف سيكون دور المعارضة المهاجرة والائتلاف السوري وغيره، في الخطة المذكورة؟