لم تشهد دولة البوسنة والهرسك، منذ انتهاء الحرب التي شُنت عليها نهاية العام 1995، أحداث عنف وهزة اجتماعية بحجم تلك التي عرفتها في الأسبوع الأول من شهر فبراير/شباط 2014 ولا تزال مستمرة، وإن كانت بوتيرة أقل حتى الآن.
وأدت الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشعب البوسني إلى تلك الغضبة الشعبية؛ حيث وصل عدد من هم على أو دون خط الفقر إلى 700 ألف شخص، في حين يُعاني من الجوع واحد من بين كل ستة مواطنين، وزاد من تأزم الوضع وانسداد أفق الإصلاح انتهاج سياسة متمثُلة في انعدام التواصل وغياب لغة مشتركة بين الطبقة السياسية الممثلة للإثنيات البوشناقية والصربية والكرواتية.
كذلك عجز الممثل السامي للمفوضية الأوروبية فالنتين إينسكو -الحاكم الفعلي للبوسنة والهرسك- عن حمل الأطراف السياسية على إيجاد حلول لمسائل؛ من قبيل تنظيم جيش موحد ومراقبة الحدود الدولية للدولة والتصرف في ممتلكات الدولة السابقة الموجودة خارج حدودها.
وضاعف تقسيم البلاد إلى كانتونات من ميزانية التسيير الحكومي، وزاد من عبء التكلفة على جيب المواطن البسيط ماديًا؛ ففيدرالية البوسنة تضم عشر حكومات مختلفة بالإضافة إلى الحكومة الفيدرالية وحكومة دولة البوسنة والهرسك (الفيدرالية وريبوبليكا-صربسكا) وحكومة الكيان الصربي، ولدى كل حكومة تشكيل وزاري موسع؛ مما يجعل عدد الوزراء في مختلف الكانتونات يتجاوز 200 وزير، وقس على ذلك عدد المساعدين والمستشارين وما يُصرف على المباني المخصصة لهم والسيارات والحوافز والرواتب الشهرية. ويُصرف على تسيير تلك الحكومات والبلديات البالغ عددها 74 داخل الفيدرالية، ما يُقدر بـ 150 يورو في الثانية (أي: 216 ألف يورو في اليوم).
هذه الأوضاع القاسية وغيرها التي وُجدت فيها الطبقة العاملة وعموم صغار الموظفين، انعكست بالضرورة على الجيل الشاب من أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في التلاشي بفعل اتساع الهوة بين الرأسماليين الجدد وعموم الشعب.
يمكن القول إن أهم مطالب المحتجين تمحورت حول حياة أكثر كرامة تتوفر فيها فرص للعمل ورعاية صحية شاملة ومحاربة الفساد المالي والسياسي المستشري، وعلى غرار ثورات الربيع العربي والثورات التي سبقتها في هذا الجزء من القارة الأوروبية -رومانيا، بولندا، أوكرانيا، مع عدة فوارق جوهرية طبعًا- فإن ما حدث في البوسنة والهرسك يمكن توصيفه بـ”الهزة الاجتماعية” القابلة إلى التحول إلى “ثورة” مكتملة الأركان في حال عدم الاستجابة لمطالبها، خاصة في ظل وجود تكتلات عمالية كانت قوية في السابق وعمال قادرون على تنظيم أنسفهم وصياغة مطالبهم.
ولعل مصنع “بوليهام” في مدينة توزلا المتخصص في الصناعات الكيميائية يبرز كمثال على غياب الرؤية وانعدام الشفافية في عملية الخصخصة؛ حيث تم بيع المصنع إلى شركة بولندية منذ العام 1998، إلا أن المالك الجديد لم يشغّل المصنع وقام بتسريح العمال وباع الآلات، وتخلّدت بذمته ديون ومستحقات تجاه العمال لم يجدوا من يسددها لهم رغم صدور حكم قضائي يُلزم الشركة البولندية بذلك، لكن أصحاب الشركة غادروا البلاد.
بسبب هذه الأوضاع نظّم عدد من عمال المصانع والمناجم ومن المسرّحين من القوات المسلحة والشرطة وصغار الفلاحين وغيرهم، مسيرات ووقفات احتجاجية واعتصامات كانت كلها سلمية، لكنها لم تؤد إلى نتيجة تُذكر.
فكانت مدينة توزلا التي تضم عددًا مهمًا من أكبر المصانع في البلاد، هي المكان الذي انطلقت منه في 4 فبراير الشرارة التي ألهبت الأحداث الأخيرة، وصب المحتجون جام غضبهم على مقرات حكومة الكانتون متهمين المسؤولين فيها بالفساد المالي والإداري والتسبب في إفلاس مصانعهم. امتدت موجة الغضب في اليوم التالي إلى مدن أخرى لتصل في 7 فبراير إلى زخم لا سابق له في تاريخ البلاد منذ الحرب الأخيرة (1992-1995).
رافقت الاحتجاجات أعمال عنف وتهشيم وحرق لمقر الرئاسة في سراييفو ومباني حكومات الكانتونات ومقرات الأحزاب السياسية، خاصة حزب جبهة العمل-بوشناقي التوجه، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي، وكلاهما حزبان قوميان، كما سقط عدد من الجرحى من رجال الشرطة والمواطنين، وخلّفت الأحداث خسائر مادية كبيرة.
أدت الأحداث إلى استقالة أربعة رؤساء وزارة في كانتونات مختلفة، وتم في 14 من مارس إعفاء وزير الداخلية، فخر الدين رادونتشيتش من منصبه، وتحميله مسؤولية الفشل في معالجة الأحداث.
حتى الآن، تتواصل المظاهرات في مختلف المدن ذات الأغلبية المسلمة أساسًا، وإن كانت وتيرتها وزخمها قد تضاءلا بعض الشيء، إلا أن بعض الاستثناءات يمكن تسجيلها فيما يتعلق بالإطار الجغرافي الذي تتنزل فيه؛ ففي مدينة موستار الواقعة في جنوب غرب البلاد اشترك المسلمون/البوشناق وكروات البوسنة والهرسك في إشعال النيران في مباني الحزبين القوميين الأكبر -حزب جبهة العمل الديمقراطي، وحزب التجمع الديمقراطي الكرواتي-. كما كان لكروات البوسنة والهرسك احتجاجاتهم في مدينتي “ليفنو” و”أوراشيا”، في حين نظّم أتباع الإثنية الصربية احتجاجات محدودة في مدن “برييدور” و”بانيا لوكا” و”ببيلينا” و”زفورنيك”.
يصعب التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في البوسنة والهرسك في قادم الأسابيع والأشهر، لكن من الاحتمالات الممكنة أن تؤدي الأحداث الأخيرة إلى مسارعة الأحزاب السياسية الكبرى إلى بلورة مشروع سياسي وإعادة فرز قواها على الأرض، وربما الدخول في تحالفات جديدة غير تلك القائمة حاليًا. أما في حال صمّت الطبقة السياسية آذانها عن تلك الصرخات الغاضبة فإن الموجة القادمة من الغضب الثوري قد تمسحها من الوجود تمامًا وتفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات قد لا يستطيع أكثر المتفائلين تصورها في بلد بُني الاستقرار فيه على معادلات سياسية وإثنية هشة.
توالت أيضًا ردود فعل الاتحاد الأوروبي بدوره، وربما تشهد الأشهر القليلة القادمة تكثيف دوره وفي حال تمكنت بروكسل من التوصل إلى اتفاق بين أعضاء دول الاتحاد الأوروبي في تفعيل ملف عضوية البوسنة والهرسك، فإن ذلك سيكون من دواعي التهدئة الاجتماعية على أن لا يطول موعده.
بقى السيناريو الأسوأ ضمن المآلات المحتملة هو استغلال المتطرفين من القوميين الصرب والكروات لتلك الأحداث وتوظيفها للمطالبة بانفصال ريبوبليكا صربسكا بدعوى فشل مشروع دولة البوسنة والهرسك الموحدة، وهو مشروع قائم منذ بداية الحرب لإلحاق صرب البوسنة والهرسك بالدولة الأم: صربيا، وهو ما يدعو إليه علنًا رئيس حكومة الكيان الصربي، ميلوراد دوديك.
المصدر: الجزيرة للدراسات