مدينة الفن والتاريخ، مدينة المآذن، عاصمة الزيانيين الأولى وغرناطة إفريقيا، كلّها أسماء وألقاب للؤلؤة المغرب العربي، تلمسان الجزائرية، تلك المدينة التي جمعت كل الحسن والجمال في منطقة واحدة لتبهر كل زائريها وتحبّب غيرهم في زياراتها والتعرف على سماتها عن كثب.
تاريخ مدينة تلمسان
على بعد قرابة 450 كيلومترًا غرب العاصمة الجزائر، على الحدود الجزائرية المغربية الشمالية، تعترضك مدينة تلمسان وقد بسطت ذراعيها على هضبة تحيط بها أشجار الزيتون والكروم، ترحّب بكل القادمين إليها.
ورغم اتفاق المؤرخين على أن اسم “تلمسان” يعود في الأصل إلى اللغة الأمازيغية فقد اختلفوا في معناه، فهناك من يرى أن معناه “المنبع الجاف”، فيما قال البعض الآخر إن معناها “مدينة الينابيع”، ويقول آخرون إن الكلمة مكونة من مقطعين: “تلم” وهو التجمع، و”مسان” ومعناه “اثنان” لأن المدينة جمعت بين موقعي “تقرارات” (المعسكر بالأمازيغية) و”أغادير”.
فتحها القائد العثماني “بابا عروج” الذي استنصر به “أبو زيان” من بني عبد الواد على عمه “أبو حمد الثالث”
منذ تأسيسها على يد الأمازيغ، عرفت مدينة تلمسان تعاقب عديد من الحضارات عليها، خاصة بعد أن طورها الرومان في نهاية القرن الثالث ميلادي قبل أن يغزوها الوندال القادمين من أوروبا، ويفتحها العرب الفاتحين سنة 671 ميلاديًا.
وشهدت المدينة حكم قبيلة بني زناتة ثم الأدارسة والفاطميين والمرابطين فالموحدين، وبني عبد الواد الذين اتخذوها عاصمة لدولتهم “الزيانية”، وبعدهم المرينيين، فالعثمانيين بعد أن فتحها القائد العثماني “بابا عروج” الذي استنصر به “أبو زيان” من بني عبد الواد على عمه “أبو حمد الثالث” الذي انتزع منه الحكم، لتقع بعد ذلك تحت الاحتلال الفرنسي إلى غاية سنة 1962.
مدينة المآذن
تعاقب هذه الحضارات على المدينة، مكّنها من امتلاك عديد من المآثر التاريخية التي تتباهى بها بين المدن، ومن بينها المدينة القديمة تلك المتحف المفتوح المحاطة بالأسوار التي تزخر بالكثير من المعالم الإسلامية على غرار المساجد الجميلة العتيقة.
وأبرز تلك المساجد الجامع الكبير الذي بناه علي بن يوسف بن تاشفين سنة 1136 ميلاديًا، الذي ينتظم على شاكلة الجوامع المرابطية (نسبة إلى دولة المرابطين)، في تصميم يعتمد البلاطات المتعامدة مع حائط القبلة، وصحن مستطيل الشكل، محاط بأروقة على الجانبين الصغيرين، ويمثّل النموذج المغاربي الأول للعمارة الدينيّة.
الجامع الكبير
كما يبرز مسجد سيدي أبي الحسن الذي أسسه السلطان أبو سعيد عثمان، تخليدًا لذكرى الأمير أبي إبراهيم ابن يحيى يغمراسن بعد وفاته، كما تدل على ذلك الكتابة المنقوشة على لوح من المرمر مثبت على الحائط الغربي لقاعة الصلاة.
فضلاً عن مسجد سيدي الحلوي الذي يحمل مميزات العمارة المرينية، فهو ذو تناسق تام ويتخذ شكل مستطيل، يشبه في ذلك مسجد حسان بالرباط وجامع قرطبة، يحيط بالبوابة الكبيرة للمدخل الرئيسي إفريز من الزليج مكون من أشكال نجمية ذات ثمانية رؤوس، يعلو هذه الأخيرة شريط لزخارف هندسية فوقها نقيشة كتب عليها تاريخ البناء واسم مؤسس المسجد.
مسجد سيدي الحلوي
ومن المساجد التاريخية أيضًا، نجد جامع “سيدي أبي مدين” الذي شيد سنة 1339 ميلاديًا بقرية العباد المبنية بسفح جبل البعل بغابته الخلابة غير بعيد عن قرية الصفيف تحيط به البساتين والحدائق والأشجار الدائمة الخضرة.
غرناطة إفريقيا
عقب سقوط الأندلس سنة 1492 في أيدي الإسبان، فتحت تلمسان أبوابها لاستقبال العائلات الأندلسية القادمة خصوصًا من مدينتي غرناطة وقرطبة نتيجة علاقة الدولة الزيانية ببني الأحمر، فكانت مركز استقرار لهم، مما مكنها من اكتساب العديد من التقاليد الأندلسية.
نشأ فن الحوزي بمدينة تلمسان وترعرع بأحوازها فتناقلته الأجيال المتعاقبة بغيرة متناهية
وفضلاً عن كونها مدينة المآذن، اشتهرت تلمسان بكونها إحدى عواصم الغناء الأندلسي التراثي القديم، خصوصًا ما يسمى مدرسة الغرناطي (نسبة إلى مدينة غرناطة) الذي يعتمد على مفهوم النوبة وعلى مجموعة مصطلحات تشترك فيها أنماط الموسيقى الأندلسية المغاربية.
ومن المدارس الفنية أيضًا مدرسة الحوزي، ذلك الفن الموسيقي الذي رأى النور في غرناطة بالديار الأندلسية حسب المهتمين بالتراث، ونشأ بمدينة تلمسان وترعرع بأحوازها فتناقلته الأجيال المتعاقبة بغيرة متناهية عن طريق المشافهة أو التدوين.
مغارة بني عاد
فضلاً عن غاباتها الغناء وسهولها الساحرة وهضابها الرائعة، تتوفر المدينة على ثاني أكبر المغارات في العالم بعد مغارة المكسيك، وهي مغارة بني عاد التي تتربّع على مساحة تقدر بنحو 2500 متر مربع وتصل إلى عمق 45 مترًا تحت سطح الأرض وتتشكل من عدة جيوب ذات ألواح طبيعية خلابة.
مغارة بني عاد ثاني أكبر المغارات في العالم
تتكون هذه المغارة التي تقع في أعالي جبال عين فزة، من صخور كلسيه رسوبية تكونت من مياه الأمطار التي تسقط على الأرض، حيث تترسب عبر الثقوب إلى داخل المغارة على شكل قطرات الماء المحمل بالكلس مع ثاني أكسيد الكربون ثم تتبخر وتنزل على الأرض بنفس التركيبة التي كانت في السماء، فتكون صاعدة ومع الزمن تتكون عدة صواعد فتلتحم وتشكل عمود إعانة للمغارة.
قصر المشور
من بين الآثار التاريخية التي تحتضنها المدينة أيضًا قصر المشور الذي بناه يغمراسن سنة 1235 ميلاديًا، ويختزل هذا القصر الذي حوّل متحف حكايات سلاطين وملوك، صنعوا في فترة ما مجد هذه المدنية العريقة، ويقال إن كلمة المشور تعني المكان الذي يعقد فيه أمير المسلمين السلطان اجتماعاته مع وزرائه وكتابه وضباطه، لمناقشة شؤون الدولة والتشاور في أمور الرعية وقت السلم ووقت الحرب.
أعمدة قصر “المشور”
رغم اندثار أجزاء كبيرة منه، فقد تمكنت الجزائر من إعادة تشكيله بناءً على التصاميم وبعض الزخرفة الأولى التي بقيت بادية على جدران المبنى، واستعملت أدوات ومواد بناء تقليدية، كما استعملت في تزيين هذا الصرح التاريخي الزخرفة التي كانت شائعة في عصر الزيانيين مثل النقش على الجص لتوشيح الجدران والأقواس المتعانقة وإحاطتها بالزليج المزركش بمختلف أشكاله الدقيقة والبراقة مع جعل الحوض المائي المبني بالمرمر الخالص محورًا لهذا القصر.