تحرير وترجمة: نون بوست
مع قيام المزيد والمزيد من الدول بقطع العلاقات وفرض العقوبات على “إسرائيل”، تستمر العلاقات بين قبرص و”إسرائيل” في التطور.
في الأسبوع الماضي؛ هدد زعيم حزب الله حسن نصر الله، في خطاب متلفز كبير، قبرص بهجوم عسكري إذا واصلت تعاونها العسكري مع “إسرائيل”، التي يقوم جيشها بالتدريب في الدولة الجزيرة استعدادًا للهجوم على لبنان.
وكان نصرالله واضحًا في خطابه؛ حيث قال إن “فتح المطارات والقواعد القبرصية أمام العدو الإسرائيلي لاستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية جزء من الحرب، والمقاومة ستتعامل معها كجزء من الحرب”.
والحقيقة أن القبارصة لم يصبحوا مجرد أصدقاء مقربين لـ “إسرائيل” فحسب، بل أصبحوا أيضًا حلفاء رئيسيين للولايات المتحدة؛ حيث زار وزير الخارجية القبرصي كونستانتينوس كومبوس الولايات المتحدة في 17 حزيران/ يونيو وقام بالتنسيق مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن بشأن أي دور يخصصه الأمريكيون لقبرص في الوضع المستمر في الشرق الأوسط.
وردًّا على نصر الله، نفى الرئيس القبرصي نيكوس كريستوليدس أي تورط قبرصي في حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة ضد الفلسطينيين وحربها ضد لبنان. وأكدت قبرص أيضًا أنها لا تملك أي سيطرة على القاعدتين العسكريتين البريطانيتين في البلاد، اللتين تتعاونان عسكريًا مع “إسرائيل”.
ومع ذلك، رد كورنيليوس كورنيليو، السفير القبرصي لدى “إسرائيل”، بشكل أكثر عدائية على نصر الله. وأكد من جديد العلاقة الوثيقة بين “إسرائيل” وقبرص، والتي خلص بسرور إلى أنها لا بد أن تكون مزعجة لزعيم حزب الله.
علاقة غرامية
كانت علاقة الصداقة الأخيرة بين قبرص و”إسرائيل” في طور التكوين منذ أكثر من ثلاثة عقود. ومع ذلك؛ فإن تقارب هذه العلاقة لم ينكشف حتى آذار/ مارس 2011، عندما ذهب الرئيس السابق ديميتريس كريستوفياس، من “الحزب التقدمي للشعب العامل” الشيوعي، في زيارة رسمية إلى “إسرائيل”. ورد بنيامين نتنياهو بالمثل في سنة 2012؛ حيث أصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يقوم بزيارة رسمية لقبرص.
ورغم أن المصالح المشتركة الرئيسية بدت في البداية وكأنها تتعلق باحتياطيات الغاز في البحر الأبيض المتوسط الواقعة بين قبرص وشواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط، إلا أن الأمر كان يتطلب تحقيق المزيد من التعاون، بما في ذلك مساعدة “إسرائيل” في تعميق العلاقة بين الولايات المتحدة وقبرص.
ولم يكن الزعيم اليساري القبرصي العضو اليساري الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي عزز علاقات وثيقة مع “إسرائيل”، فقد أصبح التحالف مع “إسرائيل” هو الوضع السائد منذ وصول حزب سيريزا اليساري إلى السلطة في اليونان في سنة 2015، وفي سنة 2021؛ شاركت قبرص واليونان في مناورات بحرية مع “إسرائيل”.
ولكن إذا كانت قبرص لم تبدأ في التقرب من “إسرائيل” إلا مؤخرًا في تاريخها، فإن الصهاينة المسيحيين واليهود كان لهم دور أطول كثيرًا في الشؤون القبرصية؛ فعند استيلاء البريطانيين على قبرص في سنة 1878؛ كتبت صحيفة جويش كرونيكل اللندنية: أن “قبرص كانت ذات يوم مقرًا لمستعمرة يهودية مزدهرة من اليهود. لماذا لا يكون الأمر كذلك مرة أخرى؟”.
ودعا المقال يهود فلسطين وسوريا الكبرى إلى الهجرة إلى الجزيرة، حيث “تقدم” لهم قبرص “نفس عوامل الجذب المغرية التي قدمتها لليهود القدامى، بل وأفضل. فهي تقع على مسافة إبحار يوم واحد من البر الرئيسي. ولأول مرة في تاريخ العالم؛ تتاح ليهود فلسطين فرصة العيش في ظل المؤسسات الخيرية للقواعد الأكثر استنارة والأكثر ليبرالية في بريطانيا، دون الخضوع لآلام الهجرة والظروف المناخية السيئة، والتخلي عن نمط حياتهم الشرقي”.
لقد ضم البريطانيون قبرص في سنة 1914 عندما انضم العثمانيون إلى القوى المركزية، وأصبحت قبرص مستعمرة بريطانية في سنة 1925.
مستعمرة صهيونية؟
لطالما أشار الصهاينة إلى المستعمرات العبرية القديمة في قبرص – والتي تحمل اسمها العبري القديم (الذي لا يزال مستخدما في العبرية الحديثة) هو “كافريسيم”، بما في ذلك بافوس وسلاميس – كسابقة للاستعمار المستقبلي. ومع ذلك؛ كان البريطانيون الإسرائيليون هم المجموعة البروتستانتية البريطانية الأكثر حماسًا التي تدعم الاستعمار اليهودي.
تأسست المجموعة سنة 1874، وكانت تضم صهاينة متحمسين يهدفون إلى إرسال اليهود إلى “الأرض المقدسة”. وقاموا بإنشاء صندوق الاستعمار السوري (المعروف أيضًا باسم جمعية إغاثة اليهود المضطهدين)، الذي تلقى تبرعات في إنجلترا وتمكن من شراء الأراضي القريبة من فلسطين.
وبدأوا في إرسال المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية من إنجلترا إلى مستعمراتهم الجديدة. وتم إنشاء أول مستعمرة يهودية في مدينة اللاذقية الساحلية في شمال غرب سوريا سنة 1882 ولكنها استمرت لمدة سنة واحدة فقط.
وفي سنة 1883؛ تم نقل المستعمرين اليهود من اللاذقية، إلى جانب المزيد من اليهود من روسيا، إلى قبرص لإنشاء مستعمرة يهودية هناك. وأقاموا المستعمرة في الجنوب الغربي من الجزيرة بالقرب من قرية كوكليا. ولكن المستعمرين كانوا غير راضين عن العمل الزراعي هناك وقرروا المغادرة بحلول سنة 1884.
وكانت قبرص بالفعل موضع اهتمام ديفيس تريتش، الذي كان منذ وقت مبكر ناشطًا صهيونيًّا يهوديًّا ألمانيًّا. وفي سنة 1893، أعرب تريتش عن اهتمامه بما يجب فعله مع قبرص، حيث قال “كانت هنا أرض لم يعرف الإنجليز ماذا يفعلون بها، بينما كان اليهود في كل مكان يبحثون عن مكان يستقر فيه إخوانهم. وكانت قبرص تقع في المنطقة المجاورة مباشرة لفلسطين. وكنت أعلم أن اليهود يرغبون في استعمار فلسطين، لكن هذا… لم يكن من الممكن تحقيقه بسبب موقف الحكومة التركية. وبدا لي حينها أن الفكرة الطبيعية والجميلة المتمثلة في العودة إلى الأرض القديمة يمكن دمجها مع الاستعمار في قبرص – سواء بقيت إنجلترا هناك أم لا”.
وعندما عثر على كتيب مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل بعنوان “دولة اليهود”، الذي نُشر سنة 1896؛ تشجع تريتش وسافر لحضور المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سنة 1897. وبعد أسابيع قليلة من المؤتمر، كتب إلى هرتزل لتوضيح فكرته واستمر في مراسلته حول هذا الموضوع.
وبدعم من هرتزل، ألقى تريتش خطابًا أمام المؤتمر الصهيوني الثالث في سنة 1899 حول هذه المسألة، لكن قليلين اتفقوا معه. وقد ناقش في المؤتمر الصهيوني الخامس سنة 1901 فكرة “فلسطين الكبرى”، والتي ستكون قبرص جزءًا منها. ولذلك فإن استعمار الجزيرة سيكون جزءًا من المشروع الصهيوني وليس بديلاً له؛ وهنا أصبحت قبرص موقعًا محتملاً للاستعمار اليهودي.
“فلسطين الكبرى”
في سنة 1897، أنشأت جمعية الاستعمار اليهودي مستعمرة يهودية في قبرص لليهود الروس، الذين انضم إليهم المستوطنون اليهود الروس من فلسطين. وكان عدد سكان المستعمرة في مارجو تشيفليك، على بعد 14 كيلومترًا من نيقوسيا، أقل من 200 نسمة وتم تفكيكها أخيرًا في سنة 1927 عندما اختار مستعمروها استعمار فلسطين بدلاً من ذلك.
وبعد وقت قصير من تعريف هرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، لبريطانيا بأنها الراعي المثالي للاستعمار اليهودي، أجرى محادثات خاصة مع المسؤولين البريطانيين؛ حيث كان دقيقا بشأن مكان بدأ الاستعمار اليهودي.
وعندما التقى هرتزل مع وزير الاستعمار البريطاني جوزيف تشامبرلين، اقترح قبرص (حيث كانت لجمعية الاستعمار اليهودي مستعمرة بالفعل)، والعريش وشبه جزيرة سيناء. وكان تشامبرلين – وهو مسيحي صهيوني ومعاد للسامية ومعارض للهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا – متعاطفًا لكنه أكد أن بريطانيا لن تطرد اليونانيين و”المسلمين” من قبرص من أجل المستعمرين اليهود.
وأوضح هرتزل خطته لتأسيس “شركة يهودية شرقية” برأس مال قدره 5 ملايين جنيه استرليني (24.5 مليون دولار) لاستعمار سيناء والعريش، وهو المال الذي من شأنه أن يجذب القبارصة، حيث قال إن “المسلمين سيبتعدون، وسيبيع اليونانيون أراضيهم بكل سرور بسعر جيد ويخرجون إلى أثينا أو كريت”.
ولكن نظرًا لتحفظات تشامبرلين بشأن طرد القبارصة، أصبح البديل المصري أكثر عملية، فسافر هرتزل وصهاينة آخرون إلى مصر سنة 1903. والتقوا بحاكمها الاستعماري البريطاني، اللورد كرومر، للتفاوض بشأن استعمار اليهود للمنطقة الواقعة بين نهر النيل وقناة السويس. لكن المشروع لم يتحقق بسبب الظروف القاحلة في المنطقة، وهو ما توصل إليه المبعوثون الصهاينة في المنطقة.
واختلف هرتزل وتريتش في المؤتمر الصهيوني السادس سنة 1903 بسبب التخلي عن مشاريع فلسطين الكبرى في قبرص وسيناء والعريش. وحدث هذا في ضوء العرض البريطاني الجديد لتكون أوغندا مكانًا للاستعمار اليهودي، وهي منطقة لم تكن جزءًا من “فلسطين الكبرى” التي تصورها الصهاينة. كما أن الخطط الخاصة بقبرص لم تتحقق أبدًا.
وبعد الحرب العالمية الأولى؛ حصل الصهاينة على الرعاية البريطانية لمشروعهم الاستعماري في فلسطين. والحقيقة أن الصهاينة استغلوا الأساليب الاستعمارية البريطانية المستخدمة في قبرص لتقسيم القبارصة المسلمين والمسيحيين.
وفي كانون الثاني/يناير 1922؛ ابتكر المندوب السامي الصهيوني البريطاني في فلسطين الانتدابية، هربرت صموئيل، مكتبًا طائفيًا جديدًا للمسلمين الفلسطينيين أطلق عليه اسم المجلس الإسلامي الأعلى لتقويض التضامن بين الطوائف بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين؛ حيث صاغه على غرار السياسة الاستعمارية البريطانية السابقة تجاه المسلمين الأصليين في قبرص.
دولة منبوذة
قبل أن تتبنى قبرص سياسة الاتحاد الأوروبي المؤيدة للصهيونية، كما فعلت اليونان، دافعت قبرص تاريخيًّا عن الفلسطينيين وحقوقهم واعترفت بدولة فلسطين. وبلغ موقفها المؤيد للفلسطينيين حدًّا دفع “إسرائيل” في سنة 1993 إلى إعلان السيدة الأولى أندرولا فاسيليو، زوجة الرئيس القبرصي جورج فاسيليو، شخصًا غير مرغوب فيه في “إسرائيل” عندما حاول وفد برئاستها الاجتماع مع ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، الذي وضعه الإسرائيليون قيد الإقامة الجبرية في مبنى مكتبه في رام الله.
واليوم، مع قيام المزيد والمزيد من الدول بقطع العلاقات وفرض العقوبات على “إسرائيل”، تستمر العلاقات القبرصية مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في التطور؛ حيث يبدو أن عزلة البلاد وتحولها إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي لا تشكل أي أهمية في نظر القبارصة.
وإذا كان القبارصة يجدون بالفعل أن الاستعمار اليهودي وحروب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في مختلف أنحاء فلسطين أمر لا يمكن الاعتراض عليه إلى الحد الذي يجعلهم يواصلون تعزيز العلاقات والتعاون العسكري، فربما يمكنهم أن يعرضوا بلادهم للاستعمار اليهودي وإحياء الأحلام الصهيونية بالاستيلاء على الجزيرة. وخاصة أن سفارة قبرص في تل أبيب تحتفل بالمستعمرات العبرية القديمة في بلادها. والغريب أنها لا تحتفل بالمستعمرات في كوكليا أو مارغو تشيفليك.
وفي ضوء هذا الترحيب القبرصي، ربما يمكن للصهاينة بدء دعوة جديدة لـ “عودة” اليهود المعاصرين إلى المستعمرات العبرية القديمة في كافريسيم والمستعمرات الصهيونية الأحدث في كوكليا ومارغو تشيفليك، لأن هذا قد يقلل من استعمارهم المستمر للأراضي الفلسطينية.
المصدر: ميدل إيست آي