منذ العام 2003 استخدمت المذهبية أو المناسبات “الدينية” في إشغال وإشعال مشاعر الجماهير العراقية بشكل لافت للنظر بحيث صرنا أمام مناحرات مذهبية لدعم هذا الطرف الانتخابي أو ذلك للوصول إلى قبة البرلمان العراقي.
وقد ألِفَ العراقيون هذا الأسلوب السياسي الذي يقحم الدين أو المذهبية في الدعاية الانتخابية، من غالبية الشخصيات التي برزت في الساحة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وقبل أيام تطور الأمر لدرجة أن النائب في البرلمان العراقي عباس البياتي، قد شَبَّهَ الكتل الشيعية الخمسة الكبرى (التي ستدخل الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة منتصف مايو/أيار القادم) بأهل الكساء من آل البيت النبوي الشريف رضي الله عنهم وأرضاهم.
النائب البياتي قال في مداخلة تليفزيونية مع قناة الميادين نهاية الأسبوع الماضي: “انقسام السياسيين الشيعة إلى خمسة ائتلافات، هي النصر برئاسة حيدر العبادي ودولة القانون برئاسة المالكي والفتح برئاسة هادي العامري والحكمة برئاسة عمار الحكيم وسائرون برئاسة مقتدى الصدر، يشبه إلى حد كبير أهل الكساء الخمسة”.
ولا يمكن استيعاب أن استخدام الدين لغايات سياسية قد وصل لهذه الدرجات الخطيرة! وتصريحات البياتي تؤكد أنه – والساسة الذين من أمثاله – لا يعتزون بآل البيت النبوي الشريف لأن من تابع اللقاء يجزم أن الرجل تحدث بطريقة الواثق من نفسه بأن تلك الكتل الانتخابية الخمسة – ومن بينهم متهمون بشبهات فساد أو قتل – يشبهون أهل الكساء، ومن بينهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم!
حديث أهل الكساء من الأحاديث الثابتة في السنة النبوية الشريفة، وهو حديث صحيح ذكره الإمام مسلم وغيره في صحيحه برقم 2424 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من (حديث عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل [كساء منقوش] من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، [ سورة الأحزاب : 33 ])، وعليه فإن النبي الكريم وآل بيته الكرام وصحابته الكرام هم رموز الأمة، ولا يمكن القبول بتشبيههم بهؤلاء الذين أثبتت الأيام أن غالبيتهم قتلوا وأجرموا وظلموا وعاثوا في الأرض فسادًا.
تهديد البطاط يؤكد أن هناك العديد من القوى الحاكمة في العراق وليس حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي فقط
عمومًا هذا التشبيه الخطير فتح على البياتي الباب على مصراعيه لكثير من ردود الفعل التي أظهرت حجم النقمة الشعبية على هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يمثلون سياسات آل البيت النبوي في العمل السياسي في عراق ما بعد 2003، ومنها هجوم رجل الدين الشيعي علي الطالقاني في كربلاء – 110 كيلومترات جنوب العراق – الذي أكد في تسجيل فيديو: “نحن اليوم أمام ظاهرة ليست لها سابقة إذ لم يعرف المسلمون منذ أكثر من 1400 عام سوى كساء محمد وآله فيأتي بعد ذلك شخص متخلف مراهق غير متزنٍ يتهجم على العقيدة الإسلامية بهذا الشكل وبهذا اللون، وينسب الكساء ويطلق هذه التسمية على أحزاب عُرف الكثير من أفرادها بالفساد والظلم والتعدي على الشعب، وعليه يجب طرد البياتي من مجلس النواب، وجميع المفاصل السياسية، وإذا لم يصار إلى ذلك فإن المسؤول الأول عنه حزبه والبيئة التي خرجته بهذه الوقاحة والابتذال”.
تصريحات البياتي أعقبتها كذلك تهديدات علنية بالقتل من زعيم مليشيا المختار (واثق البطاط) الذي هدد النائب البياتي علانية بالقتل ما لم يعلن توبته، وأكد للبياتي “إن لم تعتذر وتتوب، سأفتح المجال للمجاهدين بأن يقتصوا منك، واعتبر ذلك تهديدًا، وإن لم تفهم قدسية هذه الرموز، فإن البنادق والرصاص سيفهمك قدسيتها، وكل من يدافع عنك محكوم عليه بالموت”!
تهديد البطاط يؤكد أن هنالك العديد من القوى الحاكمة في العراق وليس حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي فقط، بدليل أن البطاط هدد البياتي علانية، في تسجيل نشر في العديد من القنوات التليفزيونية.
وهنا نقول لا شك أن البياتي قد ارتكب جرمًا يستحق عليه المثول أمام القضاء العراقي، أما أن كل طرف يهدد من جانبه فهذا مؤشر على أن العراق ليس دولة وإنما غابة يقودها الأقوى، وتتناحر فيه قوى كثيرة!
الأحزاب الدينية لا يمكن أن تمثل الدين الإسلامي ما لم تكن متخلقة بأخلاق الشريعة الإسلامية
كبوة البياتي شجعت بعض الأطراف في ائتلاف النصر الذي يقوده رئيس الحكومة حيدر العبادي، ومنهم القاضي منير حداد، للمطالبة بطرد البياتي من الائتلاف، وأكدوا أن هذه التصريحات “غير مسؤولة وإهانة واعتداء على الإسلام ورسول الله وآل بيته”؛ وذلك لأنهم على يقين أن الجماهير ستعاقبهم ولن تنتخبهم بسبب تصريحات البياتي.
وعقب الإدانات الواسعة، أصدر النائب البياتي بيانًا قال فيه”: “أعتذر من جميع الموالين (الشيعة) ومحبي أهل البيت عليهم السلام”!
والحق أن هذا الاعتذار غير كافٍ لأننا نتحدث عن قضية جوهرية من الدين، تتعلق بتشبيه نبي الأمة، ومعه بعض رموزها بشخصيات – غالبيتها – عليها ملفات خطيرة؛ لذا لا يمكن القبول بهذا الاعتذار لأننا لسنا أمام خطأ بسيط ارتكبه البياتي، وعليه من المهم تقديم البياتي لمحكمة مختصة، ليعاقب على هذا الاستخفاف العلني والصريح برموز الأمة، حتى يكون عبرة لغيره من السياسيين الذين لا يحترمون معتقدات مليار وخمسمئة مليون مسلم، ويتعاملون باستخفاف مع عقول الجماهير.
تصريحات البياتي الداخلة في باب الإساءة للدين يعاقب عليها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بعقوبات شديدة قد تصل أحيانًا إلى السجن المؤبد، والمادة 372 من القانون العقوبات العراقي تعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات على الاعتداء الواقع على “معتقد لإحدى الطوائف الدينية، أو من أهان علنًا رمزًا أو شخصًا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية”، وكلام البياتي السابق يدخل في باب الاعتداء على معتقدات الطوائف الإسلامية في العراق والعالم، وليس شيعة العراق فقط.
الأحزاب الدينية لا يمكن أن تمثل الدين الإسلامي ما لم تكن متخلقة بأخلاق الشريعة الإسلامية، أما مجرد رفع شعارات إسلامية، فإن هذه الإعلانات لا يمكن أن تخدع الجماهير التي أيقنت أن غالبية أعضاء الأحزاب الإسلامية في العراق أساؤوا للدين وللعراقيين، ولم يمثلوا الإسلام السياسي بطريقة حضارية، وغالبيتهم متهمون إما بجرائم قتل أو رشاوى أو اختلاس، أو بجميع تلك الجرائم معاً!
فهل رفع الشعارات الدينية يكفي لإقناع الجماهير، أم أن الشعب ينتظر الأفعال المطابقة للشريعة البعيدة عن أخلاق الأشرار، والداعية للخير والبناء، والمطابقة لأخلاق النبي الكريم وآل بيته وصحابته الأخيار؟