يتكهن خبراء الغذاء وشركات الأطعمة التجارية بمستقبل الطعام، فمن المرجح أن تختلف أنظمة التصنيع والإنتاج وحتى أنواع الأغذية التي نتناولها بشكل روتيني في وقتنا الحاليّ، فقد تختفي ويحل مكانها بدائل أخرى، وذلك تكيفًا مع الظروف التي سيمر العالم بها من تغيرات في المناخ وتطورات تكنولوجيا وما يصاحبها من زيادة في عدد السكان واختلاف نمط الحياة بفعل عوامل مختلفة.
بعيدًا عن صورة المستقبل، وعودة للماضي للتعرف على مطابخ العالم القديم، يعرض لنا كتاب “الطبخ في الحضارات القديمة” من تأليف كاثي كوفمان، شرحًا مفصلًا عن ثقافة الغذاء لدى الشعوب القديمة مثل مصر والعراق والرومان واليونان، بالاعتماد على النصوص المكتوبة قديمًا بشأن الأدب المطبخي الذي كان حكرًا على النخبة المثقفة من الأطباء والأدباء والفلاسفة، كما يوضح لنا اختلاف قيمته وفقًا لكل شعب.
فعلى سبيل المثال قدس الإنكشاريون فن الطبخ، إذ وصفهم المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي بأنهم “يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام، فهم مثلًا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب ويدافعون عنها دفاعًا مستميتًا”، هذا بالإضافة إلى أرقام المؤن الهائلة ومواد المطبخ التي كانت ترافق الجيش الإنكشاري، وحين قضى المماليك على الجيش الإنكشاري قضى على ثقافته المطبخية أيضًا، وبالتزامن مع الاحتلال الإنجليزي تراجعت نظرة الاحترام والتقدير للعاملين في المطبخ، وبالتالي تخلى الأدباء والأطباء عن الكتابة عنه.
ما أهمية الأدب المطبخي؟
تنبع هذه الأهمية من الخلفية الثقافية التي تملكها كل وجبة، فلكل نوع من الطعام معتقد فلسفي أو ديني أو عرف اجتماعي حدد مصيره بين الانتشار أو الاندثار، كما يعتبر التفاوت الطبقي عاملًا أساسيًا في هذا المحور، ومن هذه المؤثرات يمكن الإجابة عن أكثر من سؤال ومنهم: كيف كانت الشعوب القديمة تحضر الطعام؟ وما الخيرات التي كانوا يتمتعون بها في ذاك الوقت؟ وماذا كان يأكل الحكام والعبيد قبل آلاف السنين؟ وما الأطعمة التي كانت تدل على الترف أو الفقر؟ وما الظروف المناخية والجغرافية التي جعلتهم يعتمدون على نوع من الأطعمة أكثر أو أقل من غيرها؟
هذا ويرى المؤرخون أن إجابات هذه الأسئلة قادرة على خلق صورة كاملة عن قيم وأفكار وأطباع وعادات كل مجتمع، وكفيلة بأن تعرفنا على ممارساته التجارية وحياته الاقتصادية والأدوات والأساليب التي استخدمها للتكيف مع التحديات الجغرافية والسياسية والتكنولوجية التي مر بها لتوفير طعامه.
رغم أن العلماء وجدوا الكثير من الصعوبات في تعقب الكتابات النصية القديمة لاستكشاف هذه العوالم وموقفها تجاه المطبخ وأنواع الطعام المختلفة، لا سيما أن اللغات القديمة اشتهرت بصعوبتها وتعقيدها وهناك أجزاء بقيت مفقودة، إلا أنهم نجحوا في التوصل إلى أبرز المعلومات الأساسية عبر التخمين استنادًا إلى أدلة أدبية وتراثية أخرى، التي يمكن أن تفهمنا من أين جاء طعامنا؟ ولماذا تغير عبر الأزمنة وبين الحضارات؟
هل اجتمع أغنياء العالم القديم مع الفقراء في غرف الطعام؟
يسلط الكتاب الضوء على اختلاف الأطعمة بحسب الطبقة الاجتماعية، إذ لم يعتد الفلاحون أكل ما يأكله رجال الدين والإداريون والملوك وأصحاب المناصب، وكان بينهم فرقًا شاسعًا في أنواع الطعام وآداب الجلوس على المائدة وعدد الوجبات اليومية.
ومثال على ذلك، اعتبرت الأطعمة المصنعة من الحنطة أو الشعير مثل الكعك والخبز، من أهم المأكولات، وكان ينظر إليها على أنها علامة على التحضر، بالعكس من الأغذية التي تعتمد على الحليب واللحوم فلقد كانت تعتبر واحدة من الأطعمة غير المتحضرة لاعتماد البدو والبرابرة عليها بشكل كبير.
ولاحقًا، أثر نظام ملكية الأراضي على الثروة الغذائية وأمن الطعام، فلقد أصبحت لحوم الحيوانات الداجنة غالية جدًا ومتوفرة فقط لمن يملك أرض ويربي الحيوانات في مزرعته الخاصة، وهذا بالعكس من الفقراء الذين اتجهوا إلى الأطعمة البرية التي نظر إليها الأغنياء بازدراء، لكنهم في نفس الوقت، كانوا يتمتعون باصطيادها كنوع من الترف المعيشي على اعتبار أنها هواية رياضية.
كانت تزين موائد الطبقات الغنية بالأواني الفضية والذهبية والبرونزية، بينما تكسى موائد الفقراء بالخشبيات والفخاريات، وفي أحيانٍ كثيرة كان يتم الاستغناء عن هذه الأدوات لتناول الطعام بأطباق جماعية
بعد ذلك، ومع انتقاص الطرائد البرية توجه البدائيون للاعتماد على الزراعة، ورغم أنها أرغمتهم على انتظار نموها طويلًا، فإنها كانت توفر فوائض طعام لهم، وهذه الزيادة كانت تحفظ في مخازن ومستودعات ليستخدموها مجددًا عند الحاجة ويحموها من السرقة والتلف، ونتيجة لهذا الاستقرار، تشكلت القرى والبلدات والمدن ومن ثم الحضارات، وتحول البدائيون إلى مزارعين مستقرين، وهذا بالمقارنة مع طراز حياة الصيد التي كانت لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات يوميًا لتأمين قوت اليوم.
لم تنته مظاهر التفاوت بين الفقراء والأغنياء إلى هذا الحد، فلقد كانت تستثنى الطبقات الأدنى من المشاركة في الوجبات والاحتفالات الرسمية، بالجانب إلى النساء والأطفال، وذلك بحسب كل ثقافة، ووصل الاختلاف إلى الأدوات المستخدمة في الطهي والأكل، فلقد كانت تزين موائد الطبقات الغنية بالأواني الفضية والذهبية والبرونزية، بينما تكسى موائد الفقراء بالخشبيات والفخاريات، وفي أحيانٍ كثيرة كان يتم الاستغناء عن هذه الأدوات لتناول الطعام بأطباق جماعية وعن طريق الأصابع.
عادات الطعام في البلاد القديمة
اختلفت الوجبات الغذائية ومكونات الطعام باختلاف الظروف المناخية والعوامل الجغرافية، فبالنسبة إلى المشروبات، اعتمد أغلب سكان مصر وبلاد الرافدين على شرب الجعة يوميًا والأغنياء منهم كانوا يفضلون الخمر، هذا بالجانب إلى الرومان والإغريق الذين فضلوا الخمرة عن الجعة، وذلك باستثناء الرومان الفقراء الذين عاشوا في مناطق لم تسمح لهم الظروف المناخية بزراعة الكروم.
أما التوابل، فمن المتعارف أنها كانت باهظة الثمن وكانت تستورد منها بكميات قليلة جدًا لاستخدامها في العطور والأدوية، مثل الزنجبيل والقرفة وجوزة الطيب والقرنفل، باستثناء الفلفل الأسود الذي استخدمه الإغريق بكميات قليلة والرومان بكيمات كبيرة، وفتحوا طرق التجارة إلى الهند وما ورائها.
وحظي زيت الزيتون بمكانة مهمة فكان ينظر إليه بترف ويصدر إلى مصر وبلاد الرافدين بعد أن اعتادوا لأزمنة طويلة على زيتي السمسم وبذر الكتان، بينما كانا يستخدما بكثرة في الحضارة الإغريقية والرومانية.
أما السكر فلم يعرف سوى في القرن الرابع قبل الميلاد واستعمل كدواء لسنين طويلة، لذلك استخدمت الشعوب القديمة العسل والتين والعنب والتمر لتحلية الأطعمة، ومن أوجه الاختلاف الإضافية بين الماضي والحاضر، لم توجد البطاطا والقهوة والفانيلا والشيكولاتة والطماطم والفلفل الحلو والفاصولياء واليقطين في تلك الأيام، لذلك تفتقر أطباقهم لهذه المكونات.
والمثير للدهشة، أن بعض الأغذية التي نستخدمها في يومنا الحاليّ لم تكن بنفس الهيئة، فقديمًا، كان البطيخ أقل بدانة، وكان الخس من النوع الطويل المهلهل وله مذاق مر نوعًا ما، أما الخس المدور الحديث فهو لم يوجد في تلك الفترة، هذا إلى جانب الجزر الحلو البرتقالي الذي كانت ألوانه أشبه بألوان قوس قزح من البنفسجي إلى الأحمر إلى الأصفر إلى الأبيض، وبهذا نستنتج أن أطعمة المطبخ القديم كانت أكثر مرارة من الأغذية الحديثة.
عادات المائدة في الحضارات القديمة
كانت الأطعمة تقدم على شكل قطع صغيرة أو طرية حتى يسهل تقطيعها وتناولها على المائدة بالأيدي، وكان يتم تناول الأطعمة في أثناء وضعية الاتكاء وليس الجلوس، لكن هذه الطريقة اختلفت تدريجيًا، فلطالما كان الجلوس بانتصاب الطريقة الأكثر تهذيبًا للأكل، ولكن بحلول القرن السابع قبل الميلاد، بدأ الأثرياء يتمددون على أرائك في الوجبات غير الرسمية، واستبعدت النساء من حفلات الأكل في اليونان، وفي حال حضورهن في أي حضارة كن يجلسن ولا يتمددن على الأرائك، وفيما بعد أصبح الأكل بطريقة الجلوس في الحضارة الرومانية والإغريقية دليل على الدونية.
العراقيون والمصريون القدماء فضلوا الموائد الصغيرة المحمولة التي تتسع لشخصين، أما روما فعرفت بغرف الولائم الرسمية وكانت عبارة عن أريكة على شكل حرف “اليو” بالإنجليزية
بالنسبة إلى الموائد وطاولات الطعام، فالعراقيون والمصريون القدماء فضلوا الموائد الصغيرة المحمولة التي تتسع لشخصين، أما روما فعرفت بغرف الولائم الرسمية وكانت عبارة عن أريكة على شكل حرف “اليو” بالإنجليزية، بحيث تتسع كل أريكة إلى ثلاثة أشخاص يتناولون طعامهم من مائدة بالوسط.
وفيما يخص عدد الوجبات فكانت وجبة الفطور الأكثر شيوعًا بين الحضارات وتكون عبارة عن بقايا عشاء الأمس، ووجبة الغذاء سريعة لانشغال الناس بأعمالهم، وأما عشاء الأغنياء فكان يجرى في حفلات ليلية مترفة مليئة بأنواع الطعام والشراب.
ماذا قدم مطبخ حضارة بلاد الرافدين لموائد العالم القديم؟
امتدت أراضي بلاد الرافدين لتشمل أجزاء من تركيا وإيران والشام واتسعت لتضم مزيجًا مختلفًا من المجموعات العرقية مثل السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، وتميزت الحضارة العراقية القديمة بعناصر معينة، مثل اعتماهم بشكل كبير على الحنطة والشعير، والتمور كنوع من الفواكه مثل التفاح والتين والعنب وكانت فواكه أخرى تستعمل بكميات أقل مثل المشمش والكرز والتوت والإجاص، وبالنسبة إلى الخضار اعتمدوا على البصل والثوم وعلى الأشكال القديمة للخس والشمندر والبازلاء واللفت والعدس والخيار.
اعتبرت الأفران الحجرية واحدة من أهم الإنجازات التي طورها السومريون، أفران حجرية يمكنهم فيها أن يخبزوا أرغفة الخبز
بالنسبة إلى اللحوم، فلقد استهلكوا أكثر من خمسين نوعًا من السمك وبرعوا في تقنيات حفظه سواء مملح أو مخلل أو مجفف أو مشوي، مع العلم أنه كان من المحرمات على الكهنة، واشتهروا بحبهم للحم الأغنام والماعز رغم اعتقادهم أن الحليب غذاء للطبقة الدنيا، أما لحوم الأبقار فلقد كانت تخصص للمعابد والقصور والاحتفالات العامة، وبمرور الزمن أصبحت لحوم الخنازير تقترن بالطبقات الوسطى والمعدمة، ودليلًا على ذلك المثل السومري الذي يقول: “اللحم بالدهن جيد جدًا! اللحم مع الشحم جيد جدًا! ماذا سنعطي للأَمَةِ لتأكله؟ فلتأكل فخذ الخنزير”، ونهاية اعتبروا الجراد وجبهة شهية وغنية.
كما لم يعرف العسل في بلاد الرافدين إلا في الألفية الأولى ما قبل الميلاد، لكنه كان يستورد للنخبة الاجتماعية، وكان دبس التمور التحلية الأكثر شيوعًا في ذاك الحين، واعتبرت الأفران الحجرية واحدة من أهم الإنجازات التي طورها السومريون، أفران حجرية يمكنهم فيها أن يخبزوا أرغفة الخبز.
كيف خدمت ثقافة المطبخ طبقات المجتمع المختلفة في بلاد الرافدين؟
بحسب الكتاب، تناولت النخب الحضرية أربع وجبات يوميًا، وجبتين رئيسيتين، إحداهما في الصباح، والأخرى مع الغروب، مع وجبتين خفيفتين، أما العمال أو بخاصة الفلاحين فلا يتناولون سوى وجبتين في اليوم.
واشتهرت تلك الحقبة، بموائد العشاء الليلية التي كانت تزين بالمصابيح الزيتية والأضواء الباهظة، وكانت تمتلئ الموائد بالأكواب والكؤوس الأنيقة المصنعة من بيض النعام والأحجار شبه الكريمة والفضة، وكان يدهن الضيوف بالزيوت المعطرة ويشعل البخور لهم، واعتاد هؤلاء الضيوف الجلوس في أماكن مخصصة لهم بحسب ترتيبهم الوظيفي أو مكانتهم في القصر أو أصلهم العرقي، واعتبر من المهين أن يأكل أحد أفراد النخبة مع الفقراء أو الخدم، أو رفض الحضور إلى العزائم الرسمية.
الأدب السومري ذكر أن الحليب كان يقدم في أوعية من مرمر للآلهة في المعابد، وهذا ما أصاب المؤرخون بالشك بشأن مكانة الحليب في بلاد الرافدين، فمن المرجح أنه إذا اعتلت مكانة الحليب دينيًا أن يجد له متسعًا في قصور الأمراء
مثال على ابزخ هذه الولائم، وليمة الملك الآشوري آشور ناصربال الذي أراد الاحتفال باعمار مدينة كلخو وباتخاذها عاصمة له، فأقام حفلًا لمدة عشرة أيام مستضيفًا آلاف الضيوف، حيث نقشت المواد التي استهلكت في ذاك الوقت على عمود حجري وجد عام 1951 ومن بين الأطعمة المقدمة ألف ثور علفة الشعير ومئتي ثور وألف من الأبقار الصغيرة وألف من الأغنام الصغيرة وألف وأربعمائة من الاعتيادية وألف من المسمنة، وغيرها بالآلاف من الغزلان والظباء والأسماك والجراد.
وجبات الآلهة
من المعتقدات الدينية القديمة لسكان بلاد الرافدين أن للآلهة احتياجات مماثلة للمتطلبات البشرية، لذلك حظي الملوك البابليون أو الآلهة كما يطلق عليهم بأربع وجبات يومية، ولتلبية هذه الاحتياجات كانت القصور والمعابد تجمع الضرائب من الناس على شكل حبوب وحيوانات ومواد أخرى، ومن ثم يقدمها الكهنة في أوعية وأقداح مزينة، ويتركونها على موائد كبيرة متحركة ويسدلون ستائر من الكتان لتأكل الآلهة، ثم تقدم البقايا إلى المقيمين في القصر الملكي وأبنية المعبد، وقد توزع على السكان كصدقات.
ورغم اقتران الحليب بالطبقة المعدمة، فإن الأدب السومري ذكر أن الحليب كان يقدم في أوعية من مرمر للآلهة في المعابد، وهذا ما أصاب المؤرخون بالشك بشأن مكانة الحليب في بلاد الرافدين، فمن المرجح أنه إذا اعتلت مكانة الحليب دينيًا أن يجد له متسعًا في قصور الأمراء وأصحاب الأملاك.
تنقلنا هذه التفاصيل إلى فكرة أعمق عن تاريخ المطابخ في الأزمنة القديمة التي كانت تشكل قيمة اجتماعية ودينية لدى مختلف الشعوب، إذ تميز كل منها بنوع وأسلوب معين اقترن باسمها حتى هذه اللحظة، مما زاد فضولنا بخصوص مطابخ الحضارات الأخرى وهذا ما سنتابعه في تقرير لاحق.