اليمين المتطرف يستعد للوصول إلى السلطة في فرنسا.. ما عواقب ذلك على المسلمين؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

أحدث قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المفاجئ بحلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) في أعقاب هزيمته المهينة في الانتخابات الأوروبية موجات صادمة في المشهد السياسي بأكمله خارج فرنسا. وتتنافس الآن ثلاث كتل متناقضة جذريًا في الانتخابات التشريعية الخاطفة غير المتوقعة يومي 30 حزيران/ يونيو و7 تموز/ يوليو، مع احتمال ضئيل لانتقال أصوات كبيرة من أحد التحالفات إلى التحالف الآخر بين الجولتين.

لعلّ أكثر تطور مفاجئ لم يكن أحد يتوقعه بما في ذلك ماكرون هو إعادة الأحزاب الأربعة الرئيسية للمعارضة من اليسار توحيد صفوفها بسرعة تحت الجبهة الشعبية الجديدة: الاشتراكيين (ما يقارب 14 بالمئة في الانتخابات الأوروبية)، فرنسا الأبيّة (ما يقارب 10 بالمئة)، الخضر (5.5 بالمئة)، والشيوعيين (2 بالمئة). وبالنظر إلى الحسابات الانتخابية، لم يكن هناك سوى خيارين أمام أحزاب اليسار: إما أن يتحدوا ويحصلوا على فرصة للفوز وهزيمة ماكرون واليمين المتطرف – عدوهم التاريخي اللدود – أو أن يظلّوا منقسمين ويخسروا عند صناديق الاقتراع. 

بنسبة متوقعة تتراوح بين 20-23 بالمئة، يحتل تحالف ماكرون “معًا” المركز الثالث، الذي يوصف في كثير من الأحيان بأنه يميني وسطي ولا يملك أي فرصة للفوز. وبنسبة تتراوح بين 25 و30 بالمئة، ظلت الجبهة الشعبية الجديدة منذ البداية متقدمة على كتلة ماكرون لكنها حتى مع زخمها الحقيقي لا تزال تتخلّف كثيرًا عن التجمع الوطني الذي تتراوح نسبته بين 33 و35 بالمئة

باحتساب التحوّلات المحتملة لأصوات الجولة الثانية إلى جوردان بارديلا من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى مثل حزب “الاستعادة” لإيريك زمور (5.5 بالمئة في الانتخابات الأوروبية) وانتقال كبير مضمون للأصوات من حزب المحافظين “الجمهوريون” (7.25 بالمئة) قد يصل رصيد اليمين المتطرف من الأصوات أو يتجاوز 40 بالمئة.

إن الحسابات الانتخابية دامغة. ويظل التجمع الوطني بمفرده متقدمًا على كل من تحالفات اليسار ويمين الوسط، ومن المحتم أن يصبح أكبر قوة سياسية إلى حد بعيد في الجمعية الوطنية المقبلة، تليه الجبهة الشعبية الجديدة. 

التداعيات على غزة

يعني حكم فرنسا من قبل رئيس وزراء وحكومة من التجمع الوطني تخلي السلطة التنفيذية عن قضية فلسطين بشكل كامل. وموقف بارديلا حيال هذا الشأن كان وسيبقى واضحًا: هوجمت إسرائيل بوحشية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ومن حقها الدفاع عن نفسها، بينما حماس هي الجاني الوحيد ونحن نقف بحزم إلى جانب إسرائيل؛ ولن يتحدثوا حتى عن الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

بالنظر إلى أصول حزبها، من المفارقات أن جزءًا رئيسيًا من استراتيجية “التطهير” التي تتبعها مارين لوبان تمثلت في إعادة تقديم نفسها كحزب مؤيّد لإسرائيل واليهود. إلى جانب تقديم الحزب في حلة أكثر ملاءمة لموقفه التطبيعي، مكّن هذا أيضًا التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) من شيطنة رموز الكراهية الرئيسية (المسلمون واليسار) بشكل أفضل باعتبارهم أسوأ المعادين للسامية في فرنسا. بعبارة أخرى، تُستخدم معاناة اليهود كوسيلة لنشر الإسلاموفوبيا بشكل أكبر، وعادةً ما يكون ذلك تحت ذريعة محاربة “الإسلاموية” أو “الإسلاموية اليسارية”، تمامًا مثلما تُستخدم إسرائيل من قبل الصهاينة الغربيين في كثير من الأحيان كسلاح دولة لإبقاء الدول العربية تحت السيطرة وقمع سكانها ذوي الأغلبية المسلمة. 

لسوء الحظ، كانت هذه الاستراتيجية السيئة للإغواء الساخرة ناجحة للغاية، وخدعت الكثيرين.  فقد أعلن سيرج كلارسفيلد نفسه، صائد النازيين الشهير والناجي من الهولوكوست، للتو أن اليمين المتطرف الفرنسي لم يعد عدوًا وأنه إذا كان عليه الاختيار بينهم وبين “فرنسا الأبية” فإنه سيصوت لليمين المتطرف

ومن المفارقات أن حزب “فرنسا الأبية” اليساري هو الذي يتم تصويره الآن بنجاح مرة أخرى على أنه حزب معادٍ للسامية لمجرد بضعة تصريحات خرقاء لزعيمه جان لوك ميلانشون مثل أن “معاداة السامية في فرنسا محدودة”. فرفضه في البداية وصف حماس بأنها “منظمة إرهابية“، واختياره ريما حسن للانتخابات الأوروبية، وإدانته القوية لفظائع إسرائيل، ومواقفه الحازمة المؤيدة لفلسطين والحركات الطلابية، كل ذلك منحه سمعة راسخة حتى داخل الجبهة الشعبية الجديدة بأن حزبه يساري متطرف وخطر، وربما يساري إسلامي “معادٍ لليسار الفرنسي” نفسه، ومعادي للسامية بشكل متهور، ومتعاطف مع إرهاب حماس.

نتيجة لذلك، تدهورت صورة الحزب الوحيد البارز المؤيد لفلسطين بشكل خطير لدرجة أن لا أحد، حتى في الجبهة الشعبية الجديدة، يريد ميلانشون رئيسًا للوزراء. ويبدو أن حزب “فرنسا الأبية” قد أدرك ذلك، كما يتضح من حقيقة أن ريما حسن – التي أصبحت لأسابيع الوجه الإعلامي الرئيسي في الحزب – لم تعد تظهر في الصور الفوتوغرافية للانتخابات، ولم يكن لها أي ظهور في الإعلانات الكبيرة عن إنشاء الجبهة الشعبية الجديدة. كما أنه لم يعد هناك أي حديث أو ذكر لفلسطين خلال هذه الحملة، حتى بين قادة فرنسا الأبية.

مع ذلك، فإن ترويج حزب فرنسا الأبية للقضية الفلسطينية ولشخصية مثل ريما حسن كان ناجحًا وساعدهم على زيادة رصيدهم الانتخابي في أوروبا إلى 10 بالمئة تقريبًا بزيادة بنسبة 3 بالمئة بفضل تعبئة الشباب المؤيد لفلسطين من أحياء الضواحي.

مجبرون على تقديم تنازلات

منذ إنشائه في سنة 2017، كان حزب “فرنسا الأبية” الصوت السياسي الفرنسي الأقوى – بل الوحيد – ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا. كما أنه الحزب الوحيد الذي يجرؤ على الحديث عن العنصرية الممنهجة وعنصرية الدولة وإدانتها، والوحيد الذي اقترح إلغاء “قانون مناهضة الانفصالية الإسلامية” سيئ السمعة – وهو جزء رئيسي من “سياسة العرقلة الممنهجة” التي ينتهجها ماكرون.

ويكمن الخطر الآن في أن حتى حزب “فرنسا الأبية”، الذي تم تمييعه كجزء من تحالف أكبر، قد يخفف من حدة خطابه القوي المعادي للإسلاموفوبيا أو يلجأ إلى تخفيف أو موازنة مواقفه الضرورية، أو يضطر إلى تقديم تنازلات خوفًا من نشوء خلاف داخل الجبهة الشعبية الجديدة.

زعيم حزب “فرنسا الأبية” جان لوك ميلانشون يتحدث خلال اجتماع لدعم مرشحي الانتخابات التشريعية لسنة 2024 في مونبلييه في 23 حزيران/ يونيو 2024.

مع ذلك، يتضمن برنامج الجبهة الشعبية الجديدة العديد من مقترحات “فرنسا الأبية”، بما في ذلك “إنهاء دعم الحكومة الفرنسية لحكومة نتنياهو اليمينية المتعصبة”، و”تحرير السجناء السياسيين الفلسطينيين”، و”حظر مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل” (من بين عقوبات أخرى)، و”الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية”، و”تنظيم انتخابات فلسطينية حرة تحت إشراف دولي”. وكلها أمور غائبة بشكل واضح عن برامج الأحزاب الأخرى. كما يقترح إلغاء العديد من القوانين الأخيرة المعادية للأجانب التي تستهدف سكان الجنوب (وخاصة المسلمين) مثل ميثاق الهجرة واللجوء، مع تسهيل الحصول على الجنسية الفرنسية. 

وغني عن القول، في كل هذه القضايا، تقترح الجبهة الوطنية مقترحات عكس ذلك تماما مستمدة إلى حد كبير من برنامج مارين لوبان الرئاسي لسنة 2022، في حين أن حلفاءها اليمينيين المحتملين في الجمعية الوطنية مثل حزب إيريك زمورالاستعادةأكثر تطرفًا في استهدافهم البغيض والعنصري للأجانب والمهاجرين من الجنوب والمسلمين والإسلام.

مثيرة للقلق بالنسبة للمسلمين

يبدو أن الدافع الحقيقي الذي يتخفى، كما هو معتاد الآن، تحت غطاء “محاربة الإسلام من أجل الدفاع عن القيم الجمهورية – خاصةً العلمانية“، خلق مجتمع أصلي ومتجانس من البيض (أو غالبته بيضاء) من المواطنين الذين تم تطهيرهم من التنوع العرقي والديني والثقافي، كجزء من مشروع خيالي قائم على نظرية “الاستبدال العظيم”.

إلى جانب مقترح “إنهاء التوطين السكاني [اقرأ: الهجرة] وقوانين لم شمل الأسرة” وتعزيز “التفضيل الوطني” وعدد كبير من التدابير الصارمة المتعلقة بالجريمة والقانون والنظام، يتضمن برنامج التجمع الوطني مقترحات جذرية مثل إنهاء حق الأرض، المعمول به منذ القرن السادس عشر للأطفال المولودين من أبوين أجنبيين، وقمع معظم أشكال المساعدة التي تقدمها الدولة للأجانب، بما في ذلك المساعدات الطبية الطارئة، من أجل وقف “غزو المهاجرين”.

يتمثل الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمسلمين في أن حزب لوبان وبارديلا يخطط أيضًا “لإغلاق جميع المساجد المتطرفة”، و”حل جميع الجمعيات من اليسار المتطرف [اقرأ: كل من يعتبرهم بارديلا “إسلاميين”] واليمين المتطرف”، و”حظر الأيديولوجيات الإسلامية“، وحظر ارتداء النقاب والحجاب الإسلامي بالقانون في كل مكان، بما في ذلك الشارع. 

بحكم الواقع السياسي، بما في ذلك الواقع الاقتصادي، بات بارديلا بعد أن أصبح على أعتاب السلطة في فرنسا المفلسة أساسًا، مجبرًا على التخلي بالفعل أو تأجيل معظم وعوده الاجتماعية والاقتصادية الكبرى لمساعدة الطبقات الشعبية. وما سيزيد الطين بلة أنه سيميل نتيجة لذلك إلى إبراز الأجزاء الثقافية والهوياتية من برامجه وإعطائها الأولوية أكثر فأكثر، مثل العلمانية (من النوع المزيف والمسلح) و”الإسلامية” و”الانفصالية” و”الاندماج” والهجرة، كوسيلة لصرف الأنظار عن عجزه عن الوفاء بوعوده الاقتصادية.

بالنسبة للمسلمين والأقليات الأخرى، فإن الأجواء في فرنسا هي بالفعل الأسوأ في الغرب، ومنذ سنوات هناك هجرة صامتة ولكن هائلة للأدمغة المسلمة. ومع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، سيصبح الوضع أسوأ.

المصدر: ميدل إيست آي