قد تتصور أنني مجرة صخرة، استقر ساكنة على الأرض، أنا لست كذلك، أنا بعض هذه الحياة، أنا أعيش للآخرين، أنا هنا لمساعدتهم.
هكذا تقول قصيدة لممارسي إحدى أقدم الظواهر الدينية، بينما تقول عقيدتهم إن السماء هي عرش الخالق، والأرض هي بيتهم، والطبيعة بكاملها معبد مقدس، فهم الشامانيون، وشامانيتهم – كما يقولون – هي حب واحترام التقاليد واللغة.
ومن التعريف بالشامانية والتدقيق في محتوياتها ومقارنتها بالشعوذة والسحر، إلى وصف طابعها الأنثربولوجي مرورًا بآثارها المعاصرة، نرسم في السطور التالية لوحة مكتملة عن إحدى الظواهر الغامضة.
ديانة أرضية شكَّلها البشر
هل الشامانية أحد أشكال الديانات القديمة؟ هل هي مسعى روحاني خاص بنخبة معينة أم ممارسة سحرية مفتوحة للجميع أم أنها فقط مقولة خاطئة تولَّدت عن تصورات أنثربولوجية صارت اليوم متجاوزة؟ وهل تقتصر على النخبة أم مارسة سحرية متاحة للجميع؟
هذه الأسئلة وغيرها تدعو للتعرف على الخلفية التاريخية لهذه الأقوام ومناطق نزوحها وترحالها وما آلت اليه أحوالهم، ومن ثم الخوض في معنى الديانة الشامانية وأصولها والمنطلقات العقائدية التي جاء بها المعتقدون بها.
في البداية، تعود كلمة “شامان” في أصولها إلى كلمة “صامان”، وهي مشتقة من كلمة “صا” أي المعرفة بلغة “التونغوس” التي تعد جماعة لغوية منغولية تنتشر في سيبيريا الشرقية وحتى حدود الصين، لكن البعض يعود بالكلمة إلى جذر يحمل معنى الحركة والقفز والرقص.
وفي كثير من بقاع العالم، يُنظر إلى الشامانية باعتبارها ظاهرة دينية قديمة، انتشرت في دول عديدة من العالم، خاصة في دول آسيا الوسطى، وتأثرت بمذاهب آسيوية كبرى أمثال الميزوباتية والبوذية واللامية، دون أن تفقد بنيتها الخاصة، وأجمع خبراء عالميون على أن مروج هولون بوير (شمال شرقي الصين) المنبع الرئيسي للثقافة الشامانية القديمة في العالم.
ومع اختلاف النظر إلى الشامانية، يقترح عالم الإثنولوجيا والباحث في الأساطير ميشال بيران، في كتابه “الشامانية فلسفة للحياة”، تعريفًا للشامانية يعتبرها من خلاله فلسفة تقدم تصورًا خاصًا للإنسان وللعالم يقوم على أساس وجود صلة بين البشر والآلهة.
ما زالت الشامانية قيد الممارسة حتى الآن في العديد من أرجاء العالم، تحت مسميات مختلفة كثيرة
وهناك أنواع من الشامانية، تنحصر بين كونها نوع من التواصل مع اللامرئي حيث يتمكن ممارسوها من معرفته ورؤيته، وكونها ذات وظيفة اجتماعية تقوم على الاعتراف الاجتماعي بالشاماني كمتلق للعالم الآخر بناء على طلب، هذا الشاماني لا يقوم بعمل خاص به بل يتدخل لمعالجة وإبعاد المصيبة من خلال التأثير على روح المصاب واستخلاص العنصر الخبيث من جسمه.
وما زالت الشامانية قيد الممارسة حتى الآن في العديد من أرجاء العالم، تحت مسميات مختلفة كثيرة، على سبيل المثال: “سانگوما” هو المصطلح المستخدم من بعض سكان جنوب إفريقيا، وحتى في يومنا هذا، تعتمد الكثير من المناطق على المداوي التقليدي لمعالجة المرض، وقد يلجأ شعب إكسهوزا للسانغوما من أجل المساعدة.
الشامانية بين عالمين
في كل مكان تقريبًا، تصاحب وفاة الشامانات طقوس خاصة، ومصيرهم في العالم الآخر ليس نفس مصير الناس العاديين، وتعكس هذه الطقوس والمواقف التصورات التي يحملها كل مجتمع عن شخص الشامان، والطرق التي كان الشامان يتواصلون بها مع العالم الآخر، والسلطات المخولة له.
في كوريا الجنوبية، استطاعت جيندو، جزيرة الآلهة والموسيقى، الحفاظ على طقوسها القديمة وتقاليدها الفولكلورية نتيجة نأيها عما حولَها، حيث الطقوس الشامانية تمارس إلى اليوم عند وفاة أحدهم، لتساعد روحه على شق طريقها بأريحية أكثر إلى العالم الآخر.
لم يسبق أداء هذه الطقوس بأصالتها في أوروبا، لكن على مقربة من القارة العجوز، تقع منطقة جنوب سيبيريا موطن الطقوس الشامانية بشكلها النقي، وفيها تُجرى محاولات شفاء المرضى من كل أنواع الأمراض، من خلال جلسات تشبه جلسات السحر وتحضير الأرواح.
للشمانية أيضًا وجود في ديانة الشنتو في اليابان، كما توجد في الهند الصينية، وهي تهتم بشكل رئيسي بمعالجة المرضى عن طريق الرقص والموسيقى، حيث يقطع راقصون وموسيقيون محترفون مسافة كبيرة من جزرهم النائية، بهدف الحفاظ على هذا التقليد.
ومن المرجح أن الغبطة قبل الانتشائية قد كوّنت واحدًا من مصادر الشعر الغنائي، لما يحصل في أثناء رعدة الشامان من ضرب الطبول، ودعوة الأرواح، ومخاطبتها بلغة غامضة أو بلغة الحيوان والصراخ والاهتزاز والإيقاعات.
جدل الشامانية
الطقوس التي تتداخل بين عالمي الموسيقى والأرواح دفعت ميشال بيران -وهو آخر من كتب عن الشامانية – إلى طرح مجموعة من الأسئلة المهمة عن طبيعة هذه الفلسفة ووظيفتها والموقف منها، وفي المقدمة سؤال يتعلق باعتبارها شكلًا من أشكال التدين أم طريقة خاصة لإدراك المصائب ومعالجتها.
المثير أن منظمة الصحة العالمية اعترفت عام 1980 بالشامانية كوسيلة لعلاج الأمراض النفسية بمستوى علاج الطب التقليدي، وهذا ما أدى إلى زيادة الاهتمام بوسائل الشامانية لعلاج العديد من الأمراض
وجد بيران أن مواقف الدارسين توزعت على موقفين متناقضين يرفض الأول منهما اعتبار الشامانية دينًا لأنها تفتقر إلى المعتقدات الخاصة بها ولا تتضمن أي طقوس، في حين يذهب الطرف الآخر إلى اعتبارها دينًا إحيائيًا توحيديًا تعدديًا من التواصل مع المافوق طبيعي.
كذلك تغيرت النظرة للشامانيين، فقد اعتبرهم البعض مشعوذين، بينما نظر آخرون إلى تصرفاتهم على أنها سلوكيات مرضية ارتبطت بخصائص عرقية أو شروط مناخية صعبة.
المثير أن منظمة الصحة العالمية اعترفت عام 1980 بالشامانية كوسيلة لعلاج الأمراض النفسية بمستوى علاج الطب التقليدي، وهذا ما أدى إلى زيادة الاهتمام بوسائل الشامانية لعلاج العديد من الأمراض، كما جعل بعض الأطباء يستفيدون من وسائل الشامانية لشفاء بعض المرضى.
في عالم الأرواح، تتم طقوس الشامانية على مراحل: أولًا يتم دعوة أرواح أفراد العائلة بالأغاني؛ لأنه لا بد من وجود الأرواح عندما تذهب روحٌ جديدة إلى العالم الآخر، ثانيًا، يتم تحرير الروح المغادرة من جميع ما لديها من مرارة واستياء، وأخيرًا تقوم نساء الشامان بإعادة الانسجام الذي عكره الموت، إلى المجتمع عن طريق الموسيقى.
أن تصبح شامانيًا.. الاختبار الصعب
يؤدي الشامان دورًا رئيسًا في الحياة الدينية والاجتماعية للجماعة، لما له من قدرات على شفاء الأمراض وطرد الشياطين والأرواح الشريرة ومحاربة السحر الأسود والتنبّؤ والتبصّر والدفاع عن التكامل النفسي للجماعة، وبصورة عامة فالشامان يدافع عن الحياة والصحة والخصب وعالم النور ضد الموت والمرض والعقم وسوء الحظ.
ونظرًا لأن المنطق الشاماني يستدعي من العالم الآخر أن يقدم للشامان روحًا أو عدة أرواح مساعدة فإن هناك ثلاثة طرق للوصول إلى الشامانية، حيث يصبح المرء شامانًا إما بإلهام عفوي (الدعوة أو الاختيار الإلهي أو العفوي دون إرادة ظاهرة من الشخص)، أو بانتقال إرثي للصفة الشامانية (التناقل العائلي)، أو بقرار شخصي، أو بإرادة القبيلة في بعض الحالات النادرة.
إذا أخفق المرشح لمنصب الشامان في تجاوز هذه المراحل التلقينية، فإن الشياطين والأرواح الشريرة تتمكن منه، ويصبح عرضة للمشكلات الحياتية الروحية منها والجسدية
ومهما كانت طريقة الاختيار فلا يعترف بالشامان إلا بعد تلقيه تعليمًا مزدوجًا من نظام وجدي (أحلام، رؤى، ارتعاشات)، ومن نظام تقليدي (صياغات شامانية، أسماء ووظائف الأرواح، أشكال وأسماء الآلهة، وعلم أنساب القبيلة، واللغة السرية، أسرار الصنعة، وغير ذلك).
ويتمثل الجانب المهم في عملية الاصطفاء في أن هذا الاختيار نادرًا ما يكون فجائيًا، ففي السابق كانت العلامات تتراكم إلى أن تحصل القطيعة التي تشير إلى أن الشخص قد تم اختياره من طرف العالم الآخر.
وتعتبر الأحلام والرؤى والأمراض والنفور من الأكل من علامات الاصطفاء أو الموهبة، كذلك يصبح الشاب غريب السلوك، عصبي المزاج، ويلجأ إلى الغابات، ويتغذى بقشور الأشجار، ويلقي بنفسه في الماء والنار، ويجرح نفسه بالسكاكين، ويكون له تبصرات رؤوية، وجميعها علامات دالة.
أما إذا أخفق المرشح لمنصب الشامان في تجاوز هذه المراحل التلقينية، فإن الشياطين والأرواح الشريرة تتمكن منه، ويصبح عرضة للمشكلات الحياتية الروحية منها والجسدية.
ويبقى وجود الشامان أمرًا ضروريًا في مجتمعه لعلاج جميع مظاهر الشرور، العلاج الذي يعتمد على تنشيط القوى الذاتية لتحقيق التوازن مع القوى الكونية الشاملة، وعندئذ تُرفع عن المرء اللعنة الأبدية، هكذا يرون.