شهدت المناطق التي كانت تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قبل اندحاره، بعمليات “درع الفرات”، تهميشًا وتشويهًا فكريًا وتعليميًا كبيرًا جدًا، خاصةً في المناطق التي كانت تشهد معارك كر وفر بشكل يومي وتغير قوة السيطرة بها خلال ساعات وتعرضها للقصف بشكل مستمر.
افتقدت تلك المناطق للتعليم بشكل كبير، كما كان التنظيم يحارب المتعلمين الذين لم ينضموا لصفوفه، أو لم يتقيدوا بأفكاره الفاسدة، مما أجبر العديد منهم على النزوح لخارج مناطق سيطرته، كما سعى التنظيم جاهدًا لإكساب المنطقة بريفي حلب الشمالي والشرقي طابع خاص، كما يبرز نفسه من خلال تعليم أفكاره وإكساب نفسه أحقيةً أولوية نظرًا لأهمية المنطقة واحتوائها على بلدة “دابق” التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه باسم “مرج دابق”، ونظرته الفكرية الفاسدة وأنه الخلافة الإسلامية كما يدعون، هي بعيدة كل البُعد عن الإسلام.
وبعد سيطرة الجيش السوري الحر على مدن ريفي حلب الشمالي والشرقي، خلال عمليات “درع الفرات” المدعومة من القوات التركية، واجهت تلك المناطق زخمًا فكريًا متشددًا التمس لدى الكثير من الناس في البلدات المتأثرة بفكر التنظيم وعقائده السيئة، كما أن الانقطاع عن التعليم لفترات متعددة انعكس سلبًا على معطيات الواقع، فقد تجد مئات الأطفال الذين حرموا من التعليم خلال انطلاقة الثورة السورية وتحرير المناطق من قوات النظام، وتعرضها للقصف حرم الأطفال مدارسهم، كما أن خلال فترة سيطرة التنظيم التي امتدت لثلاثة أعوام، تجد العديد من الأطفال دون الخمسة عشر عامًا لا يجيدون القراءة والكتابة، إلا أنهم اكتسبوا الكلام من خلال تعاملهم مع المجتمع حولهم.
الأطفال الذين انضموا إلى المدارس التعليمية بعد تحررهم من قيد التنظيم المحكم وأفكاره المنحرفة، وجدوها بالأمر الغريب؛ فهي مركز للأمان والاطمئنان تعلمهم وتعتني بهم ليكونوا ذخرًا للمستقبل
التأثر الفعلي بالتنظيم وأفكاره في المناطق التي كانت تخضع لسيطرته بات ملتمسًا من أرض الواقع، فالأطفال لم يبقوا أطفالًا، فقد افتقدوا لمعنى الطفولة في حياتهم اليومية، وأصبح الطفل الذي ينضم لصفوف التنظيم، يحق له أن يكفر أبيه وربما يجلده أو يذبحه، فهذا ليس بالأمر الغريب كما تقول إحدى روايات شهود عيان، فالأطفال لم يعتادوا إلا لباس التنظيم الأسود الذي أكسب عقولهم الظلام وخلع عنهم ثوب الطفولة، وذلك الجلاد الذي يظهر في ساحة القرية يجلد المدخن والثاني الذي يذبح المرتد، كانت تلك الأفكار دامغة في عقولهم لا تختلف كثيرًا عن إرهاب التنظيم وتعامله الشرس معهم.
إلا أن الأطفال الذين انضموا إلى المدارس التعليمية بعد تحررهم من قيد التنظيم المحكم وأفكاره المنحرفة، وجدوها بالأمر الغريب؛ فهي مركز للأمان والاطمئنان تعلمهم وتعتني بهم ليكونوا ذخر المستقبل، على عكس ما كان يفعل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي استخدمهم كذريعة عسكرية في جبهاته ومفخخاته التي كانت تستهدف قوات المعارضة.
كما أن النزوح والتهجير المستمرين في المناطق التي كانت تشهد عمليات عسكرية من كلا طرفي النزاع كالتنظيم وقوات المعارضة هو الأبرز لأن الكثير من المهجرين آنذاك اتجهوا نحو الحدود السورية التركية، ولم يتمكنوا من التعلم بسبب البحث المستمر عن الأساسيات وهي تدبر أمور العيش لا غير، تاركين خلفهم التعلم والتعليم رغم أنه كان متوفرًا لكن بشكل ضئيل جدًا، حيث تجد العائلة لا تهتم سوى بلقمة العيش والأمان النسبي فقط لا الكلي.
وخلال الحرب التي دارت في الفترات السابقة خلال سيطرة التنظيم على مناطق ريف حلب، لوحظ انتشار كبير للأمية بين الأطفال لابتعادهم عن مقاعد الدراسة لفترات طويلة، مما يزيد من دور المعلمين الذين استلموا زمام الأمور في تلك المدارس.
كما قال أستاذ عبد الله وهو معلم للصف الأول الابتدائي ببلدة أخترين إنهم يواجهون أطفالًا فقدوا طفولتهم قبل أن يصبحوا أطفالاً، ناهيك أنهم لم يتمكنوا من تعلم شيء، لصعوبة تلقيهم المعلومات، فقد ارتكز فكرهم بالحياة الاجتماعية دون العلمية، وأضاف: “نحن نبذل ما بوسعنا، فقد وضعنا أطفالاً في عمر العشر سنوات في الصف الأول، وآخرين في الصفوف الإعدادية أعدناهم إلى الصفوف الدنيا كالابتدائية، في حين التمسنا لهم عذرًا لانقطاعهم عن التعليم وتعرضهم للنزوح والقصف وما شابه ذلك”.
وحاولت المدارس التي أعيد افتتاحها خلال عام 2017، أن تغير في السلوك الأخلاقي السيء لدى الكثير من طلابها إلا أنهم يواجهون صعوبة في ذلك، فقد تأثر المجتمع الطفولي في الأمور العسكرية وركائزها البعيدة عن التعلم والفكر السوي القويم، فاتجه العديد من الأطفال للانضمام إلى صفوف القوات العسكرية لأسباب عدة منها حماية مناطقهم من خطر العدو، أو لأسباب مادية أخرى.
وهذه المواجهات تقع على عاتق العملية التربوية في إقدام المعلمين في المنطقة على بذل الجهود القصوى للنهوض بمجتمع متحضر بعيدًا عن الأفكار المتنائية الفاسدة، كما أن التعليم هو غرس لصرح حضارة تحمل في طياتها المجتمع السوري للنهوض.
تبني التربية التركية للمعلمين وإعادة تأهيل المدارس
مع انطلاقة العملية التربوية التعليمية التي كانت تواجه انقطاعًا طوال السنوات السبعة الماضية، كان التعليم يتجه نحو الأفضل خاصة بعد الدعم التركي الذي تبنى رواتب المعلمين في المنطقة، كما خضع المعلمون خلال العطلة الصيفية السابقة لدورات تربوية مكثفة، شملت جميع المعلمين الذين كانوا يدرسون سابقًا قبل انطلاقة الثورة السورية ضد الأسد.
دمار البنى التحتية في المناطق المحررة التي تعرضت للنهب والقصف شكل عائقًا في العملية التربوية، والمدارس التي لم تدمر لا تتسع للكم الهائل من التلاميذ
قالت مديرية التربية في مدينة مارع: “قمنا بدورة تربوية لإعادة تأهيل المعلمين من جديد دُرس فيها طرائق التدريس وأهم مبادئ العملية التربوية، لمدة عشرة أيام متتالية كانت كفيلة بإعادة تأهيل المعلم بعد انقطاعه عن عمله لفترات طويلة”، كما خضع للدورة 6000 معلم ومعلمة لدورات تربوية في مناطق درع الفرات كافة من خلال محاضرين سوريين مقيمين في تركيا، بمراكز داخل كل منطقة، وبإشراف التربية التركية، حيث تم وضع منهاج مخصص للدورة، وبعد دراسته من المعلمين أقيم اختبار لهم، وتم منحهم شهادة تمكنوا من ممارسة عملهم التربوي في مدارس منطقة درع الفرات، كما أنهم دخلوا في سجلات التربية التركية.
دمار البنى التحتية في المناطق المحررة التي تعرضت للنهب والقصف شكل عائقًا في العملية التربوية، لأن المدارس التي لم تدمر لا تتسع للكم الهائل من التلاميذ بسبب الزخم السكاني الكبير وخصوصًا بعد الاستقرار الأمني الذي حصلت عليه المنطقة بعد الوصاية التركية، كما حملت على عاتقها التربية التركية بتبني تأهيل المدارس المتضررة خلال السنوات الفائتة، وافتتاحها من جديد أمام الطلبة، مما جعل سير العملية التعليمية نحو الأفضل بعد اهتمام كلي من قبل التربية التركية، وبإشراف ولايتي كلس وغازي عنتاب؛ حيث تولت الأولى منطقتي إعزاز ومارع وأريافهما اللتين لم تخضعا لسيطرة التنظيم، والثانية تولت مناطق الباب وجرابلس، وأريافهما اللواتي خضعن لسيطرة التنظيم لعدة سنوات.
حيث رممت من المدارس، فيما أنشئت غرف صفية مسبقة الصنع إلى جانب المدارس التي تدمر فيها غرف صفية ولأنها لا تكفي لعدد طلبتها، كما تم طباعة المنهاج على عدد الطلبة في المنطقة، لسد ثغرات النقص العلمي الذي حل في المنطقة، خلال الحرب الفكرية آنذاك.
والمهمة هنا ما زالت في بدايتها، يجب علينا كسوريين حث أبناءنا على التعلم، وكمعلمين أداء واجبنا تجاه طلبتنا والحرص على تقديم المعلومات الصحيحة بعيدًا عن تقديس الحاكم وإذلال النفس له، فالعلم والتطور الفكري والعقلي يمكنه أن يحقق أملًا فقد من أهداف السوريين لأربعين عامًا.