ضمن سابقة قانونية وُصفت بـ”التاريخية”، صادق القضاء الفرنسي على مذكرة توقيف بحق رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعد إدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الهجمات الكيماوية في سوريا.
يأتي هذا الحكم الذي استطاع إزالة حصانة الأسد الشخصية كمقدمة لإجراء محاكمة ضده في فرنسا، لا سيما أن المصادقة على مذكرة التوقيف تعدّ أول مذكرة توقيف صادرة عن محكمة أجنبية ضد رئيس دولة ما زال يمارس الحكم ضمن منصبه.
حسب وكالة “فرانس برس” التي نقلت عن محامين، فإن القضاء الفرنسي صادق على المذكرة بحق الأسد بشأن هجمات كيماوية في سوريا، بعد أن نظرت غرفة التحقيق في مايو/ أيار الفائت بطلب مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا، المتعلق بإلغاء هذه المذكرة باسم “الحصانة الشخصية” التي يتمتع بها رؤساء الدول في مناصبهم أمام المحاكم الأجنبية.
وبهذا القرار تكون غرفة التحقيق رفضت طلب مكتب المدعي العام، الذي أكد أنه “بالإجماع يعتبر حتى الآن” أن الاستثناءات للحصانة الشخصية لرؤساء الدول في مناصبهم مخصصة للهيئات القضائية الدولية فقط مثل المحكمة الجنائية الدولية وليس محاكم الدول الأجنبية، دون أن يشكّك بوجود عناصر تثبت تورط الأسد في الهجمات الكيماوية.
الهجمات الكيماوية تدين الأسد
منذ العام 2021، وبعد أن بادر ناجون من الهجمات الكيمائية إضافة إلى المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وبدعم من مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح وغيرها، يحقق قضاة تحقيق من وحدة الجرائم ضد الإنسانية في محكمة باريس القضائية، في التسلسل القيادي الذي أدى إلى هجمات كيماوية ليلة 4-5 أغسطس/ آب 2013 بالقرب من دمشق، وهجمات يوم 21 من الشهر نفسه في الغوطة الشرقية، ما أسفر عن مقتل أكثر من 1000 شخص.
في نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، أصدر قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيون 4 مذكرات توقيف بحق كل من بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة، والعميد غسان عباس مدير الفرع 450 التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، والعميد بسام الحسن مستشار الأسد للشؤون الاستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية، بتهمة استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد مدنيين.
جاء ذلك بعد استناد المكتب المركزي لمكافحة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الكراهية في تحقيقاته إلى تحليل شامل لتسلسل القيادة العسكرية السورية، وبرنامج الأسلحة الكيماوية للنظام السوري، إضافة إلى الصور ومقاطع الفيديو والخرائط المقدمة من الأطراف المدنية، وشهادات ناجين ومنشقين عن الوحدات الأمنية والعسكرية.
ومنذ انضمامه إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية عام 2013، فشل نظام الأسد في الوفاء بالتزاماته القانونية الأساسية بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية. وعلاوة على ذلك، ووفقًا للنتائج الموثقة التي أثبتتها تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، استمر نظام الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين الأبرياء في سوريا، حتى بعد تفكيك مخزوناته من الأسلحة الكيميائية عام 2014.
رفع الحصانة عن الأسد
تُعرف “الحصانة الشخصية” بأنها حماية من المحاكمة أمام المحاكم الوطنية الأجنبية التي يتمتع بها بعض مسؤولي الدولة، بسبب صفتهم ووضعهم الرسمي في الدولة وهي حصانة مطلقة، بمعنى أنها تشمل جميع الأفعال المرتكبة سواء بصفة رسمية أو خاصة قبل وأثناء تولي المنصب.
وترتبط هذه الحصانة بعدد من المناصب العليا في الدول، مثل رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، فيما تتوقف حماية الحصانة الشخصية بمجرد مغادرة الفرد لمنصبه، حتى بما يتعلق بأفعال قام بها عندما كان في المنصب.
وعلى عكس المحاكم الدولية، تعدّ الحصانة الشخصية أمام المحاكم الأجنبية الوطنية قائمة، فحتى في حال ارتكاب رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية انتهاكات جسيمة ضد القانون الجنائي الدولي، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة، فهؤلاء يستغلون اعتبارًا قانونيًا وهو أنهم ما زالوا في مناصبهم ويتمتعون بحصانة شخصية مطلقة من الملاحقة الجنائية أمام تلك المحاكم الوطنية الأجنبية.
محاكمة الأسد غيابيًا لن تتم حتى النصف الثاني من عام 2026 أو في عام 2027، بسبب وجود جدولة مسبقة لمحاكمات أخرى متعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حتى منتصف عام 2026
ووفق موقع “Justice Info“ المتخصص بتغطية محاكمات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، فإن هذه المذكرة هي أول مذكرة توقيف تصدرها محكمة فرنسية ضد رئيس دولة في منصبه، ولا توجد أي سوابق قضائية مشابهة.
كما تفيد محاميتا الجهة المدعية، كليمانس ويت وجان سولزر، أن “الاعتراف حسبما يؤكد مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب، بأن بشار الأسد يستفيد من حصانة سيكون بمثابة تأمين حماية له من أي ملاحقة قضائية في فرنسا، وسيخلق حالة من الإفلات من العقاب”.
ورأت المحاميتان أن “الخطورة غير العادية للوقائع من الناحية التي تتمثل بارتكاب هجمات كيميائية متكررة ضد شعبه، وصلابة ملف التحقيق الذي يثبت المشاركة المزعومة للرئيس من ناحية أخرى، أمور تدعو إلى اتخاذ قرار يسمح أخيرًا للضحايا الفرنسيين والسوريين بالوصول إلى العدالة”.
من جهته، قال المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، في حديث صحفي، إن التصديق على مذكرة التوقيف يعني أن القضاء الفرنسي سيقوم بمحاكمة بشار الأسد غيابيًا، كما حصل مع علي مملوك وباقي الضباط المتورطين بقضية الدباغ، مشيرًا إلى أن محاكمة الأسد غيابيًا لن تتم حتى النصف الثاني من عام 2026 أو غالبًا في عام 2027، بسبب وجود جدولة مسبقة لمحاكمات أخرى متعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حتى منتصف عام 2026، إذ تجري في كل عام 3 محاكمات من هذا النوع في فرنسا.
ومن المتعارف عليه وجود اتفاقيات دولية تعطي حصانة لرؤساء الجمهورية من الملاحقة القضائية، لكن هذه الاتفاقيات تنسحب على الجرائم العادية، وبالمقابل فإن هذا النوع من الجرائم يمنع الحصانة عن أي إنسان، خاصة أن هذا النوع من الجرائم يرتكبه رؤساء الجمهورية فقط، وبالتالي لا يمكن إعطاؤهم حصانة حسب تعليق رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية المحامي أنور البني، أحد القائمين على هذه القضية، مضيفًا أن قرار محكمة الاستئناف أسّس لخطوة تاريخية على مستوى العدالة في العالم، لأنها حجبت الحصانة عن رؤساء الجمهورية عند الملاحقة بجرائم ضد الإنسانية أو استخدام أسلحة كيميائية، ما يعني أنه لن يكون جزءًا من مستقبل سوريا أو من الحل السياسي كونه ملاحقًا دوليًا.
تفاعل إيجابي
لاقى قرار القضاء الفرنسي أصداء واسعة في الأوساط السورية المعارضة، باعتباره خطوة نحو تعزيز العدالة وأهمية المساءلة القانونية على الجرائم الدولية، ورسالة قوية إلى المسؤولين عن هذه الجرائم بأنهم لن يتمكنوا من الاختباء خلف مناصبهم أو التمتع بحصانة تحميهم من المساءلة.
وأصدرت رابطة المحامين السوريين الأحرار بيانًا رأت فيه أن القرار يعكس التزام المجتمع الدولي بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، ويؤكد أن المساءلة عن الجرائم الدولية تتفوق على أي ادّعاءات بالحصانة، بما في ذلك حصانة رئيس دولة حالي على رأس عمله، واصفة القرار بأنه يمثل سابقة قانونية هامة تبرز أن الحصانة الدبلوماسية والسياسية لا يمكن أن تكون ملاذًا آمنًا للمسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى أنه تحوُّل ملموس في المواقف الدولية تجاه النظام السوري، إذ يعزز من الضغط السياسي والدبلوماسي ويزيد من عزلة النظام السوري دوليًا.
كل الدول الموقعة مع فرنسا اتفاقية تبادل مجرمين ستمتنع عن استقبال الأسد، فالسعي قائم لتفتيت الحصانة الخاصة بالأسد وقدرته على الإفلات من العقاب، إن كان من خلال القضاء الاستراتيجي أو محكمة لاهاي أو عبر القضاء الفرنسي
أما المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، فقد رأى أن القرار يبعث برسالة واضحة بأن المجتمع الدولي لا يمكنه التهاون في موضوع الإفلات من العقاب على الانتهاكات الفظيعة مثل استخدام الأسلحة الكيميائية، إضافة إلى أن مذكرات التوقيف تمثل اعترافًا طال انتظاره بخطورة الجرائم المرتكبة ضدهم، وخطوة حاسمة نحو العدالة بالنسبة إلى الضحايا والناجين من الهجمات الكيميائية على الغوطة الشرقية ودوما. معتبرًا على لسان مديره مازن درويش، أن عصر الحصانة كدرع للإفلات من العقاب قد ولّى.
ماهر الأسد أيضًا
لم تستثنِ مذكرة التوقيف ماهر الأسد شقيق بشار الأسد، القائد الفعلي للفرقة الرابعة أخطر المنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية، والتي تعدّ أيضًا وحدة نخبوية مقاتلة من الطائفة العلوية، استخدمها النظام في عمليات عسكرية لإخماد الثورة السورية إلى جانب الميليشيات الإيرانية التي تشكّل معها توأمًا عسكريًا.
وكانت مجلة “دير شبيغل” ومحطة “دويتشه فيله” الألمانيتان قد حصلتا على محاضر تحقيقات أجرتها وحدة جرائم الحرب الألمانية في الهجوم الكيماوي في الغوطة الشرقية لدمشق يوم 21 أغسطس/ آب 2013.
وأكدت التحقيقات التي نُشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 مسؤولية ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري عن هذا الهجوم، بعد أن اعتمدت التحقيقات على وثائق تثبت أن شقيقه الرئيس بشار الأسد فوّضه بتنفيذ الهجوم باستخدام غاز السارين المحرم دوليًا، وأن ماهر الأسد هو الذي أعطى الأمر الرسمي “على مستوى العمليات” بالهجوم على مواقع المعارضة في الغوطة وبإشراف مباشر منه شخصيًا.
في حديثها لـ”نون بوست”، رأت ياسمين المشعان، عضوة رابطة عائلات قيصر، أن المذكرة شيء هام جدًّا تم تحقيقه والسعي ما زال قائمًا لتنفيذها بناءً على الأدوات القانونية المتوفرة، مشيرة إلى أن العدالة لا يمكن أن تأتي بالضربة القاضية أو بقرار من مجلس الأمن بإحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية أو إنشاء محكمة خاصة بسوريا، لأن مجلس الأمن دائمًا معطَّل بالفيتو الروسي والصيني، عدا عن كون سوريا غير موقّعة على اتفاقية روما وبالتالي من الصعب جرّ النظام إلى محكمة الجنايات الدولية.
وحسب المشعان، فإن كل الدول الموقعة مع فرنسا اتفاقية تبادل مجرمين ستمتنع عن استقبال الأسد، فالسعي قائم لتفتيت الحصانة الخاصة بالأسد وقدرته على الإفلات من العقاب، إن كان من خلال القضاء الاستراتيجي أو محكمة لاهاي أو عبر القضاء الفرنسي بالمذكرة الأخيرة، وبالتالي تضييق الخناق عليه وعلى شقيقه من خلال العمل أيضًا في دول أخرى لتحذو حذو القضاء الفرنسي، لأن الأسد مجرم وتمّ إثبات جريمته من خلال منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ومجلس الأمن.
تختم المشعان حديثها بالقول: “أنا كشخص فقدَ خمسة من أفراد أسرتي على يد قوات الأسد، أريد أن أرى الأسد بساحات دمشق وهو محاسَب على جرائمه من قبل شعبه وليس من دولة أخرى، لكن هذا المتوفر حاليًا بين أيدينا، وهذه الأدوات القانونية التي نستفيد منها، والأهم من ذلك أن المذكرة يمكن أن تمنع أي رئيس دولة أخرى يفكر بارتكاب جرائم ضد شعبه”.
ختامًا، لا بدَّ أن السؤال الأهم سيبقى حاضرًا في الأذهان، وهو هل تساوي المذكرة قيمة الحبر الذي كُتب به، لا سيما أن تأثيرها سيبقى معدومًا أمام الأسد الذي يعيش متقوقعًا في قصره منذ أكثر من عقد؟ فيما تعود الذاكرة إلى الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عام 2009 مذكرة توقيف بحقه، بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع المسلح في دارفور، إذ بقي طليقًا منذ ذلك العام إلى حين إقالته من الحكم في أبريل/ نيسان 2019 ونقله إلى السجن.