بعد 4 أشهر تقريبًا من دخول العلاقات السعودية اللبنانية نفقًا مظلمًا إثر أزمة استقالة رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري، من الرياض، واتهامات الأخيرة بدفعه لذلك وسط ظروف غامضة، فيما قامت السلطات اللبنانية بحملة دبلوماسية للمطالبة بعودته بعدما اعتبره الرئيس ميشال عون “محتجزًا” رغم إرادته في المملكة، ها هي بوادر انفراجة تلوح في الأفق مجددًا في أعقاب دعوته لزيارة السعودية، ووعده بتلبيتها في “أقرب وقت”.
الحريري تسلم، أمس الإثنين، دعوة رسمية لزيارة الرياض سلمها له المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، موفد الملك سلمان بن عبد العزيز، خلال زيارة رسمية إلى لبنان تستغرق عدة أيام، التقى فيها الرئيس ميشال عون وبعض كبار رجالات الدولة.
الزيارة قال عنها الحريري في تصريحات للصحفيين عقب لقائه بموفد العاهل السعودي، إنها كانت “ممتازة” مضيفًا أنه سيلبي الدعوة لزيارة السعودية في أقرب وقت، من دون تحديد موعد لذلك، مما أثار عددًا من التساؤلات عن دوافع المملكة طرق الأبواب اللبنانية مجددًا في هذا التوقيت، بعد الأزمة الأخيرة التي تصاعد فيها منسوب التوتر في العلاقات بين البلدين وسط تلاسن وتراشق إعلامي وسياسي متبادل.
الزيارة ودلالة التوقيت
نقل العلولا تحيات العاهل السعودي وولي عهده للرئيس اللبناني، مشيدًا بما وصفه “القيادة الحكيمة” لعون في إدارة شؤون بلاده، منوهًا بأن أول زيارة رسمية قام بها عقب توليه منصبه كانت للسعودية، وهي دلالة واضحة على عمق العلاقات بين البلدين الشقيقين حسبما نقلت وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية.
الموفد السعودي التقى بالأمس بجانب الرئيس اللبناني، رئيس حكومته، كما عقد عدة لقاءات ثنائية مع بعض مسؤولي الدولة، ومن المقرر أن يستكمل نشاطه اليوم بلقاء رئيس مجلس النواب (البرلمان) نبيه بري، بالإضافة إلى شخصيات من قوى “14 آذار” الحليفة السعودية داخل الأراضي اللبنانية.
التراجع الملحوظ لقوى الرابع عشر من آذار، الحليف السعودي لبنانيًا، فسره البعض بأنه نتاج لتخلي الرياض عن مشروعها السياسي هناك، غير أن آخرين استبعدوا هذه الفرضية
تأتي هذه الزيارة قبل أيام من الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في السادس من مايو/آيار القادم، التي تعد الأولى منذ 2009، وذلك بعد تمديد البرلمان الحاليّ ولايته لمرتين خلال السنوات الماضية، وهو ما يضعها تحت مجهر الاهتمام، محليًا وإقليميًا، في ظل الظروف والمستجدات التي تشهدها الساحة في الآونة الأخيرة.
الانتخابات البرلمانية اللبنانية ربما تعد الفرصة الأخيرة أمام الرياض لاستعادة ما فقدته من نفوذ داخل لبنان خلال السنوات الأخيرة، دخلت فيها العلاقات بين البلدين كهوفًا من التوتر وأنفاقًا من التلاسن، لعل آخرها أزمة الحريري التي تعد الأقوى خلال العقد الماضي التي كادت أن تقضي على ما تبقى من شعرة معاوية لولا تدخل باريس على خط الأزمة في اللحظات الأخيرة.
وفي المقابل لا يمكن القول إن فقدان المملكة لنفوذها لبنانيًا يعني سحب مشروعها هناك بالكامل، فالمليارات التي أنفقتها الرياض طيلة السنوات الماضية لتأسيس بنائها القوي داخل الأراضي اللبنانية، عبر تدشين تحالف قوى “14 آذار” الذي كان بمثابة الذراع السعودية في مواجهة حزب الله والنفوذ الإيراني، ويضم كبار الأحزاب والحركات السياسية التي ثارت على الوجود السوري في لبنان بعيد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري 2005، لا يمكن أن تلقي بها المملكة في البحر دون ثمن.
التراجع الملحوظ لقوى الرابع عشر من آذار، الحليف السعودي لبنانيًا، فسره البعض بأنه نتاج لتخلي الرياض عن مشروعها السياسي هناك، غير أن آخرين استبعدوا هذه الفرضية، خاصة أن دوافع بقاء هذا المشروع والمتمثلة في مناهضة وتطويق النفوذ الإيراني وتحجيم دور حزب الله لا تزال قائمة، ولعل هذا ما دفع المملكة إلى محاولة طرق أبواب بيروت مرة أخرى.
لقاء موفد العاهل السعودي مع الرئيس اللبناني في بيروت
كسر جمود العلاقات
تسعى السلطات السعودية إلى محاولة كسر جمود العلاقات بين البلدين خاصة بعد الأزمة الأخيرة، وهو ما حرص عليه موفد الملك سلمان في تصريحاته المتكررة مع مسؤولي لبنان، التي تمحورت معظمها حول التأكيد أن “السعودية تقف إلى جانب لبنان وتدعم سيادته واستقلاله، وتتطلع إلى مزيد من التعاون بين البلدين في المجالات كافة”.
محاولة استغلال الانتخابات القادمة لاستعادة بعض النفوذ السعودي المفقود ربما تصطدم بأزمة الحريري الأخيرة ما لم يكن هناك مخرج دبلوماسي يعفي الجميع من الحرج
في مجملها، العلاقات السعودية – اللبنانية علاقات تاريخية متميزة، رسميًا كان أو شعبيًا، فالرياض كانت دومًا الداعم الأول للشقيقة بيروت في جميع المحطات السياسية والأمنية والاقتصادية التي واجهتها خلال الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول بأن القرار اللبناني يصاغ داخل أروقة الديوان الملكي في الرياض.
ورغم مغازلة الرياض لبيروت عبر تراجعها عن سياستها التصعيدية الممارسة قبل سنوات على رأسها رفع تجميد المساعدات المقدمة للجيش اللبناني التي فرضتها المملكة قبل ذلك، أو عبر تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، في محاولة لتجميل صورة السعودية لدى الشارع اللبناني، إلا أن محاولة استغلال الانتخابات القادمة لاستعادة بعض النفوذ السعودي المفقود ربما تصطدم بأزمة الحريري الأخيرة ما لم يكن هناك مخرج دبلوماسي يعفي الجميع من الحرج، ولعل هذا ما تسعى له الرياض خلال دعوتها الأخيرة لرئيس الوزراء اللبناني لزيارتها.
الحريري.. الأزمة والمخرج
بعيدًا عن المقابلة التي أجراها الحريري، في الـ12 من نوفمبر الماضي، على تليفزيون المستقبل، من قلب العاصمة السعودية الرياض، بعد 8 أيام تقريبًا من تقديم استقالته في الـ4 من الشهر ذاته، والتصريحات التي أدلى بها حينها، فإن لغة الحريري المستخدمة – لفظيًا وجسديًا – التي كللت ببكائه على الهواء مباشرة فضلًا عن بعض التفاصيل الأخرى كانت الشغل الشاغل لكثير من المحللين ممن رأوا أن حواره قطع الشك باليقين لدى الفريق الذي كانت تساوره بعض الشكوك بشأن احتجازه ووضعه تحت الإقامة الجبرية وأن كل ما قاله في هذا الحوار كان بضغط من السلطات السعودية.
وبعد مرور ما يزيد على 3 أشهر من هذه المقابلة، يخرج رئيس الحكومة اللبنانية ساعيًا لتبرئة ساحة السعودية من الاتهامات التي نسبت إليها، ليكشف عن دوافع استقالته من رئاسة الوزراء التي كادت أن تصل بالعلاقات بين البلدين إلى طريق مسدود، حيث قال خلال حلقة خاصة مع الأطفال عبر قناة MTV”“: “استقلت لأنني رأيت أن هناك خطرًا كبيرًا يهدد لبنان وكان هدفي أن أخلق صدمة إيجابية، وبعد الاستقالة حصلت الوحدة التي نحتاجها”، وأضاف ردًّا على سؤال عن سبب استقالته من السعودية قال: اخترت أن تكون الاستقالة من السعودية لتكون “دراماتيكية أكثر”.
https://www.youtube.com/watch?time_continue=2&v=ka2urseiI3E
وأكد أن “عدم زيارته للسعودية منذ عدوله عن الاستقالة لعدم توفر الوقت”، وأضاف: “لم تأت فرصة حتى الآن كي أزور السعودية لكن هناك مؤتمرات ستأتي في السعودية وسأذهب إليها”، وتابع: “علاقتي بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز جيّدة وهناك اتصالات دائمة معه ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان”.
من الأمور اليقينية أن السعودية لم تسقط يومًا من حساباتها مشروعها السياسي داخل لبنان، مهما أصابه من موجات مد وجذر، صعود وهبوط، ومهما اعتراه من وهن وضعف في كثير من الأحيان
حديث في الكواليس يدور عن صفقة ربما تعقدها السلطات السعودية مع الحريري، يستعيد بمقتضاها نفوذه المالي داخل المملكة عبر شركته “سعودي أوجيه” بعد تسوية مالية وإدارية تعيدها للسوق مرة أخرى، بخلاف توفير الدعم لتيار المستقبل الذي يرأسه، في مقابل إحياء دور الحلف السعودي لبنانيًا، ومحاولة استعادة نفوذ المملكة مرة أخرى في مواجهة حزب الله والأذرع الإيرانية هناك، خاصة بعد تمدده في الآونة الأخيرة مستغلاً غياب الدور السعودي وتراجعه.
على أي حال، فمن الأمور اليقينية أن السعودية لم تسقط يومًا من حساباتها مشروعها السياسي داخل لبنان، مهما أصابه من موجات مد وجذر، صعود وهبوط، ومهما اعتراه من وهن وضعف في كثير من الأحيان، خاصة مع بقاء دوافع استمراره التي تزيد يومًا تلو الآخر، وهو ما قد يدفع الرياض إلى إسراع الخطى نحو لملمة أوراقها المبعثرة لبنانيًا، في محاولة لتشكيل جبهة قوية تستعيد بها بعضًا مما فقدته، وتبقى الأيام القادمة وحتى قبيل الانتخابات هي المحك الأساسي لاختبار الدبلوماسية السعودية وقدرتها على إصلاح ما أفسدته طيلة السنوات الماضية.