أخطأ علم الأعصاب لسنين طويلة باعتقاده أنّ الدماغ البشريّ يبقى بُنيةً ثابتة لا تتغير، خاصة مع التقدم في العمر ووصول مرحلة البلوغ، إذ كانت الفكرة السائدة أنّ الخلايا أو الأعصاب لا يمكن تعويضها في حال موتها أو تعرّضها لإصابةٍ أو مرض، كما تبقى على حالها الذي وصلت عليه بعد مرحلة البلوغ أو بعد انتهاء ما يُطلق عليها في علم الأعصاب بمصطلح الفترة الحرجة “critical period“، والمقصود بها المرحلة التي إذا اجتازها الكائن ولم يتطوّر خلالها بالشكل الكافي فسيكون من الصعب عليه بعدها أن يُصلح الخلل التطوّري، وتكون هذه المرحلة في بداية الطفولة
جزء كبير من قدرة الجسم على التعافي بعد الأضرار التي لحقت بالدماغ يمكن تفسيرها بأنها نتيجة اللدونة العصبية، أي القدرة على تشكيل اتصالات عصبية جديدة بين خلال الدماغ
ومع تقدّم أساليب البحث والدراسة، أصبح واضحًا وجليًّا أنّ أدمغتنا لا تتوقف أبدًا عن التغيرّ واكتساب الخبرة، إذ تمرّ بمراحل مستمرة من إعادة تنظيم الخلايا العصبية فيها وتعديل الاتصالات بينها على مدى حياة الفرد، وتُعرف تلك القدرة على التغيّر بمصطلح “اللدونة العصبية” أو “brain plasticity“، والتي بدونها فإنّ أي دماغ، وليس فقط الدماغ البشري، لن يكون قادرًا على النمو من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ أو التعافي من أيّ إصابات قد يتعرّض لها الدماغ.
إذن فجزء كبير من قدرة الجسم على التعافي بعد الأضرار التي لحقت بالدماغ يمكن تفسيرها بأنها نتيجة اللدونة العصبية، أي القدرة على تشكيل اتصالات عصبية جديدة بين خلال الدماغ، ففقدان الشعور باللمس قد يجعل من تلك الاتصالات الجديدة تؤدي إلى تعزيز الشعور بالراحة، وفقدان القدرة على الرؤية بإحدى العينين قد يؤدي إلى تقوية الرؤية في العين الأخرى، أو أنّ فقدان البصر كليًّا يمكن أنْ يزيد من فعالية الحواسّ الأخرى خاصةً السمع. وبكلمات أخرى، فإنّ هذا يشير إلى أنّ فقدان شعورٍ أو وظيفةٍ معينة قد يؤدي إلى توجيه والتركيز على غيرها.
يعمل تنشيط أو زيادة عدد الاتصالات الموجودة فعليًا بين الخلايا العصبية على تعزيز سريان المعلومات والبيانات بينها، الأمر الذي يرفع من كفاءتها وقدرتها على أداء وظائفها المختلفة والمتنوعة
يتم تشكيل الهيكل الأساسي للدماغ قبل ولادة الفرد بناءً على جيناته الخاصة، ولكن التطوّر المستمر يحدث بناءً على عملية اللدونة تلك، الأمر الذي يعتمد أساسًا على قدرة الدماغ على التعلّم والاستفادة من المعطيات الجديدة الممكنة التي قد يواجهها. حيث يحدث ذلك مثلًا عندما نتعلم شيئًا جديدًا مثل مهارةٍ ما، أو عندما نحفظ معلومات لم نكن قد حفظناها من قبل.
ولنفهم كيف تعمل اللدونة العصبية بشكلٍ أكثر وضوحًا، يمكننا القول أنّ تنشيط أو زيادة عدد الاتصالات الموجودة فعليًا بين الخلايا العصبية يؤدي إلى تعزيز سريان المعلومات والبيانات بينها، الأمر الذي يرفع من كفاءتها وقدرتها على أداء وظائفها المختلفة والمتنوعة. أمّا في حال قلّت تلك الاتصالات كأنْ يتم تثبيطها نتيجة الكسل أو عدم الاستخدام أو كأنْ تتعرّض لإصابةٍ ما، تقلّ فعالية سريان المعلومات بينها، فيحدث العكس.
إلا أنّ اللدونة أو المطاوعة الدماغية لا تعني أنّ أدمغتنا هي أعضاء بلاستيكية تمامًا، يمكن تغييرها وإعادة تشكيلها بشكلٍ سلس في أيّ وقت، لكنها تعني أنّ الدماغ بمرونته ولدونته ستكون دومًا لديه القدرة على التكيّف مع الأوضاع الراهنة التي يمرّ بها، عن طريق إعادة تنظيم ذاته لاستيعاب تلك الأوضاع والقيام بالوظائف التي تتطلّبها. وبطريقةٍ أخرى، يمكننا القول أنّ الاتصالات بين الخلايا العصبية تقلّ مع الوقت لكنها لا تتوقف.
ومن هذه النقطة نستطيع الاستنتاج الأسباب التي تجعل من عمليات التعلّم بأشكالها المختلفة أكثرَ مرونةً وفعالية كلّما صغر عمر الفرد، خاصة حينما يتعلّق الأمر بالمهارات والمواهب واللغات. فبعد مرحلة البلوغ تصبح أدمغتنا أقل بلاستيكيةً ويصبح من الصعب شيئًا فشيئًا تعلّم أشياء جديدة، من الحركة إلى اللغة إلى السلوك الاجتماعي، وهذا يفسّر كثيرًا لماذا يكون الطفل قادرًا بشكلٍ أسرع أو أكثر احترافية على اكتساب لكنةٍ معينة لإحدى اللغات مقارنة بكبار السنّ أو البالغين. إضافةٍ لصعوبة فقدانهم تلك اللكنة أو اللغة بغض النظر عن المكان الذي قد يستقرون فيه لاحقًا.
تشكل اللدونة العصبية أساس قدرتنا على ترميز واستبقاء الذكريات وتخليص الدماغ من حالاته السلبية كالخوف والاكتئاب والقلق والهواجس، إضافةً للذكريات السيئة التي لا نرغب في تذكرها
الأمر ذاته تمامًا فيما يتعلّق بالذاكرة، ففي اللحظة التي تحاول فيها إدخال شيءٍ ما أو معلومات معينة لدماغك، وتعمل على تذكرها لاحقًا، فهذا يعني أنّ ثمة لدونة عصبية قد تكوّنت أو حدثت، أيْ أنّ هناك اتصالات عصبية جديدة بين الخلايا قد تشكّلت ومن ثمّ تحفّزت أثناء محاولة التذكّر.
إذن، فآليات اللدونة الدماغية هي التي تشكل أساس قدرتنا على ترميز واستبقاء الذكريات. والقاعدة المنتشرة بين علماء الأعصاب تقول أنّ حُزم الخلايا العصبية التي تُستثار معًا للعمل، يرتفع عدد الوصلات فيما بينها (Cells that fire together wire together). ولتبسيط القاعدة بشكلٍ أفضل، فيمكننا القول أنّ التواصل بين الخلايا العصبية يحدث عن طريق تكوين الفروع بينها أو من خلال إطلاق المواد الكيميائية والنواقل العصبية، وعندما تتواصل تلك الخلايا بشكلٍ أكبر تقوى العلاقة بينها.
وعملية تداول الرسائل أو المعلومات بين خلايا الدماغ مرارًا وتكرارًا تصبح أسرع كلما زادت مراتها، إلى أنْ تصل لمرحلة يصبح التكرار فيها كافيًا فتبدأ مرحلةً من التلقائية. فتكرارك لقصيدة أو فقرة معينة من كتاب، سيعزّز من نشاط خلاياك العصبية وبالتالي من تذكّرك لها.
كما لا يمكن إهمال دور اللدونة العصبية في تخليص الدماغ من حالاته السلبية كالخوف والاكتئاب والقلق والهواجس، إضافةً للذكريات السيئة التي لا نرغب في تذكرها، فيعمل الدماغ على التحرّر منها من خلال إضعاف الاتصالات بين الخلايا العصبية المسؤولة عن تلك الذكريات أو تلك العواطف السلبية، وهنا أيضًا يمكننا فهم تلك القاعدة العصبية التي ذكرناها سابقًا.
ولعلّ اللدونة العصبية واكتشاف العلم الحديث لها هي أحد غرائب الدماغ البشريّ وألغازه الكبيرة، التي ستبقى تطرح العديد من الأسئلة حيال كيفية تشكّل أدمغتنا وعواطفنا وذكرياتنا ومهاراتنا وقدراتنا الإدراكية، وكيفية تأثير طفولتنا وتنشئتنا على ما قد نصبح عليه لاحقًا، وحيال دور جيناتنا وعواملنا الوراثية في ذلك. وبكلماتٍ أخرى أكثر فلسفيةً، تقودنا اللدونة العصبية لسؤال أنفسنا “من نحن؟” وكيف تشكّلنا وكيف سنصبح مع كلّ تلك التغيرات الهائلة التي تحدث في أدمغتنا.