لم يكن الاقتصاد أبدًا علمًا تحتكره الأرقام والمالية والحسابات الاقتصادية فحسب، بل شمل العديد من الجوانب الحياتية المؤثرة في اتخاذ القرارات، أكد هذا فوز العالم الاقتصادي ريتشارد ثالر بجائزة نوبل للسلام في علم الاقتصاد قبل بضعة شهور من الآن من أجل أبحاثه فيما يُعرف بعلم “الاقتصاد السلوكي” الذي يردم الفجوة بين علم الاقتصاد وعلم النفس.
ريتشارد ثالر هو أحد مؤسسي علم الاقتصاد السلوكي، وهو العلم الذي يرتبط بالتفضيلات الاجتماعية وضوابط النفس التي تؤثر على القرارات الفردية ونتائج السوق، عبر دمج الافتراضات الواقعية النفسية وتأثير العوامل غير العقلانية في التحليلات المتعلقة بصنع القرار الاقتصادي، ولكن ما علاقة هذا كله بتأثير الاقتصاد على العلاقات العاطفية؟
لقد كان شكل العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة مختلفًا بشكل جذري قبل الثورة الصناعية عما هو عليه الآن، فاعتاد أغلبية السكان في مختلف مدن العالم العيش في المدن الصغيرة بالقرب من الحقول والمزارع، فكانت وسيلة التعارف بين الرجل والمرأة غالبًا ما تتم من خلال وسيط عائلي أو مناسبة أو حدث ما في الأماكن المغلقة في المنازل بشكل كبير، إلا أن الثورة الصناعية جاءت لتغير ذلك بشكل جذري.
واجه العالم حركة ضخمة من الهجرة من القرى والمدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة، ومن البلاد النامية إلى البلاد التي هيمنت فيها الحركة الصناعية محليًا لتصدرها دوليًا إلى العالم الخارجي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فبدا من المألوف أن يتعارف الرجل والمرأة في الأماكن العامة، إذ بدأ الاختلاط بين الجنسين في المصانع ومن ثم في الأماكن العامة بالمدن، ولم يعد هناك حاجة في كثير من البلاد، تحديدًا الغربية منها وما تبعها، لوسيط عائلي للتعرف على المرأة، حينها بدأ اقتران التعارف بين الجنسين بإنفاق الأموال.
ارتباط إنفاق المال من أجل التعرف على المرأة
انتقل الأمر تدريجيًا من الحياة البسيطة بين الجنسين في الماضي إلى ارتباط وثيق بإنفاق الأموال، وفي بعض الأحيان كثير من الأموال، من أجل أن يتعارف الرجل على المرأة وأن يجمعهما رباط الزواج في المدن الكبيرة، ومن هنا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد، حيث كان على الرجل أن يبهر المرأة بقدرته على إسعادها ورضاها من خلال شراء الهدايا ودعوتها للأماكن العامة مثل المطاعم والمقاهي ودور السينما.
وضع علماء الاقتصاد الحب والعلاقات الزوجية تحت ميكروسكوب دراساتهم بخصوص علم “الاقتصاد السلوكي”، وعلى الرغم من أن الاقتصاد يبدو أسلوبًا يبعد تمامًا عن الرومانسية في دراسة الحب والزواج، إلا أنه لا يقل أهمية أبدًا عن دراستهم من خلال علم النفس، بل قد يفوق أهمية الأخيرة في بعض الأحيان كونه له التأثير الأكبر على قرارات الناس المصيرية.
يقول البعض إن أردت وضع سعر للحب فسيكون هذا السعر هو الزواج، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة من عدمها، استنتج كثير من علماء الاقتصاد دراسات تربط العوامل الاقتصادية بالعوامل النفسية في اتخاذ قرارات بشأن الزواج والحب في كثير من الحالات المختلفة، كان من بينها تزايد تأخير زواج أرامل الحروب ممن راح أزواجهم ضحايا في الحرب العالمية الأولى والثانية بالتزامن مع زيادة مقدار المعاش الممنوح لأرملة الحرب، فكلما زاد المبلغ زادت قدرة المرأة الأرملة على الاعتماد على نفسها دون الحاجة للاعتماد على زوج.
هل سأل أحدكم نفسه كم سيخسر من المال إن أقدم على الزواج، وأيهما أفضل ماديًا العزوبية أم الزواج؟ يبدو هذا السؤال شديد المنطقية بالنسبة للاقتصاديين، حيث حلل الاقتصاديون في علم الاقتصاد السلوكي سلوك البشر في النفور من الخسارة، بطبيعة الحال يحب الناس كسب المزيد على خسارة الكثير، وعليه فإن كانت العلاقة العاطفية مستمرة في جعل الرجل أو المرأة يخسرون ماديًا، من المحتمل جدًا أن ينفر أحدهما أو كلاهما من العلاقة برمتها.
مع انتشار الرأسمالية حول العالم تحول الناس من مجرد أفراد إلى مستهلكين في بحثهم عن الحب، فصار البحث عن الشريك كما لو كان البحث عن سلعة أو منتج، وهو ما تسبب في انتشار مواقع وتطبيقات المواعدة مع انتشار الإنترنت
ربط علماء الاقتصاد السلوكي ذلك بنسب البطالة المتزايدة التي لوحظ خلالها في دراسات الاقتصاد السلوكي ازدياد نسب الخيانة وقلة أعداد المتزوجين، وتأخير قرار الإنجاب بالنسبة للمتزوجين في المجتمع.
الاقتصاد العصبي وثقتنا في صاحب المال
إذا اجتمع علم النفس مع علم الأحياء والاقتصاد معًا في علم واحد فسيكون هذا العلم هو “الاقتصاد العصبي” أو (Neuroeconomics) وهو العلم الذي يدرس كيفية اتخاذ القرارات الاقتصادية داخل الدماغ نفسه، وهو العلم الذي أثبت أن الناس لن تتصرف على النحو الذي يتوقعه الاقتصاد دومًا إذا أغفل الأخير الجانب النفسي والعصبي المؤديين إلى السلوك أو الفعل نفسه.
اكتشف علم الاقتصاد العصبي الحديث في دراسات علمية العلاقة بين هرمون “الأكوسيتوسن” المعروف بهرمون الحب والقرارات الاقتصادية، كما يُعرف هرمون الأوكسيتوسن بهرمون الحب بشكل عام، لأنه يُفرز عند العناق أو بين المرأة ومولودها في أثناء الولادة والرضاعة ليساعد بارتباط المولود بها، إلا أن الهرمون يُعرف أيضًا بهرمون الثقة، وهو أحد الهرمونات التي تساعد على ثقة الطرفين ببعضهما البعض، ولكن هل يلعب هذا الهرمون دورًا مهمًا حينما يتخذ قرارًا له عوامل اقتصادية أو مالية؟ أثبت العلماء أنه المسؤول بدرجة كبيرة عما يدور في أدمغة البشر حينما يتخذون قرارًا اقتصاديًا.
إذا اجتمع علم النفس مع علم الأحياء والاقتصاد معًا في علم واحد فسيكون هذا العلم هو “الاقتصاد العصبي” أو (Neuroeconomics) وهو العلم الذي يدرس كيفية اتخاذ القرارات الاقتصادية داخل الدماغ نفسه
فسرت أبحاث الاقتصاد العصبي علاقة وطيدة بين مستوى الثقة بين الأفراد ومستوى الرخاء الاقتصادي، من هنا حلل علماء الاقتصاد السلوكي الذي يعتبر الاقتصاد العصبي جزءًا منه، العلاقة بين هرمون الأوكسيتوسن المحفز للثقة، والقرارات الاقتصادية، حيث يساعد مستوى الرخاء الاقتصادي على تحفيز إفراز هرمون الأكوسيتوسن في الدماغ، وعليه يزيد مستوى الثقة بين الطرفين ويساعد على تقوية الرباط بينهم بالضبط كما يحدث بين الأم ومولودها.
السعودية، الإمارات، الكويت، قطر من بين أكثر الدول العربية التي تنفق الأموال على “الاستهلاك الرفاهي”
ومع انتشار الرأسمالية حول العالم وما تبعها من الاستهلاكية والاستهلاكية الرفاهية (Luxury Consumption)، تحول الناس في علاقاتهم الاجتماعية من مجرد أفراد إلى زبائن أو مستهلكين، وهو ما جعل كثير من الباحثين في علم الاقتصاد السلوكي وصف منظومة الزواج الحديث بأنها “مسمومة” بما تتضمنه من شروط مادية بين الجنسين لإتمام عقد الزواج، وتسبب في تحول البحث عن العلاقات العاطفية أو البحث عن الحب بشكل عام وكأنه البحث عن منتج أو سلعة، وهو ما تطور مع الوقت وانتشار الإنترنت إلى ما يُعرف الآن بمواقع وتطبيقات المواعدة “Datign apps” الموجود منها النسخة الإسلامية أيضًا للمواعدة بين الرجال والنساء المسلمين.
مزيد من الحب.. مزيد من الاستثمار
أثبت هذا الاكتشاف عكس نظرية العقلانية التامة في اتخاذ القرارات الاقتصادية، فالعوامل النفسية، كما يُفسرها الاقتصاد السلوكي، لها تأثير محوري في عملية اتخاذ القرار الاقتصادي، فهي تنبع من تأثيرات هرمونات معينة في أدمغة البشر تؤثر على طريقتهم في التفكير واتخاذ القرار.
يعتبر الحب في لغة الاقتصاد السلوكي “تأمين”، يتشاركه الطرفان وهما على ثقة أن كل منهما سيؤّمن الآخر في وقت المرض ووقت الضعف ووقت الحاجة
للأغنياء قدرة أكبر على الشعور بالحب والثقة أكثر من أصحاب الدخول المتوسطة والمتدنية بحسب دراسات لمعهد البحث “بروكينجز“، حيث ورد في تقرير المعهد أنه كلما تضاعف الدخل تضاعفت فرصة الفرد أربعة مرات للشعور بالحب، كلما زاد دخل المرء كان لديه وقت للعثور على الحب، بحسب استنتاج أبحاث معهد “بروكينجز”.
يعتبر الحب في لغة الاقتصاد السلوكي “تأمين”، يتشاركه الطرفان وهما على ثقة أن كل منهما سيؤّمن الآخر في وقت المرض ووقت الضعف ووقت الحاجة، وهذا بالضبط ما يحدث في دعم شركات التأمين الضخمة أو الحكومات أو البنوك أو المؤسسات المالية أو الاستثمارية، فكلما كان مستوى دعم المؤسسة أكثر، خاطرت المؤسسة أكثر واستثمرت بشكل أكبر.
الاستثمار في العلاقات العاطفية من أهم العوامل التي تبنيها، من محاولات الطرفين بناء العلاقة على المستوى العاطفي والاجتماعي والمادي سويًا، وفي لغة الاقتصاد، كلما زادت الثقة بين الطرفين على أنهما سيستطيعا تأمين كل منهما للآخر في وقت الحاجة والضعف والمرض، كان مدى استثمارهما في العلاقة أكبر، وبالعودة لمسألة هرمون الأكوسيتوسن فإن الرفاه الاقتصادي سيؤدي بالتبعية إلى مزيد من الثقة ومزيد من الحب وبالتالي مزيد من الاستثمار بشكل أكبر من المجتمعات الفقيرة أو أصحاب الدخول المتدنية.
لا تعني هذه الدراسات والأبحاث بالضرورة أنه يمكن شراء الحب بالمال، إلا أنها لا تحاول تجاهل العوامل النفسية والعاطفية في اتخاذ القرارات الاقتصادية التي بالضرورة تتضمن قرارات لها علاقة بشريك الحياة في المستقبل، وهذا ما يحاول الاقتصاد السلوكي طرحه، وهو محاولة التنبؤ بقرارات وأفعال الناس من خلال تحليل العلاقة بين الاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب.