تغرق مناطق شمال غربي سوريا بالبضائع والمنتجات المستوردة من مختلف دول العالم عبر المعابر الحدودية الفاصلة مع تركيا، ما يؤدي إلى تهميش المنتجات المحلية التي تواجه صعوبات جمة في الوصول إلى مرحلة الإنتاج والتصريف، في ظل واقع يفتقر إلى الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ورغم أن المعابر الحدودية تُعد شريان حياة للسكان، إلا أنها أصبحت عبئًا على العاملين في قطاعي الزراعة والصناعة خلال السنوات الأخيرة، نتيجة السياسة الاقتصادية الفوضوية المتبعة في مناطق حكومتي السورية المؤقتة في شمال حلب، وحكومة الإنقاذ في إدلب.
منتجات تغرق الشمال
تُعتبر أسواق الشمال السوري سوقًا مفتوحًا أمام مختلف المنتجات المستوردة من دول العالم، ورغم أهمية هذه الواردات في تلبية احتياجات السكان اليومية، إلا أنها تعد ضررًا للمنتجات سواء المحلية أو القادمة من المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد أو قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
وتعد المواد الغذائية الأكثر استهلاكًا في الأسواق المحلية، نظرًا لتركيز سكان المنطقة على توفير احتياجاتهم المعيشية الأساسية، حيث يستورد التجار كميات كبيرة من هذه المواد، مثل الزيوت والسمنة النباتية، السكر، مشتقات القمح، الأرز، العدس، الفول، الحمص، الفاصولياء، وحليب الأطفال المجفف.
إضافة إلى ذلك، تنتشر في الأسواق المعلبات والمشروبات الغازية والطبيعية، والمواد الغذائية والمثلجات والمكسّرات، وغيرها من المأكولات والمشروبات العالمية، بينما في سوق الخضروات والفاكهة، تختلف المصادر باختلاف فصول السنة، حيث تُستورد من دول مختلفة مثل إيران ومصر وتركيا.
في قطاع المنظفات، وعلى الرغم من تواجد عشرات الأنواع التي تنتجها الشركات المحلية بجودة عالية، وأخرى تُصنع في ورشات صغيرة بجودة أقل، إلا أن الأسواق تغرق بالمواد المستوردة من ماركات عالمية متنوعة مثل “أريال” و”برسيل”.
ولا يختلف الحال في سوق الألبسة الجاهزة والأحذية والإكسسوارات، التي تستورَد جميعها من الأسواق التركية والأوروبية، مما يضعف من حظوظ المنتجات المحلية في المنافسة.
كما تسيطر الماركات التركية على سوق الأدوات الكهربائية ومعدات المطابخ مثل “فيستل” و”سومكس”، بينما يسجل حضور ضعيف للماركات السورية التي تُعرف بأسعارها الأقل مقارنة بنظيرتها التركية.
وفي أسواق معدات الصيانة والكهربائيات المنزلية والطاقة الشمسية، تطغى المعدات الكهربائية الصينية والأوروبية المستوردة على السوق المحلية.
وفيما يتعلق بقطاع البناء يستورد التجار الحديد الروسي والإسمنت التركي ومواد الإكساء التركية والإيرانية، أما في قطاع السيارات، تُستورد السيارات الأوروبية وقطع غيار السيارات الجديدة والمستعملة (الأوروبية)، إضافة إلى الدراجات النارية. كما تشمل الواردات المحروقات والزيوت.
وبرزت في أسواق الشمال ظاهرة استيراد التجار للبضائع المستعملة (الأوروبية) وخاصة في قطاعي الألبسة والأحذية، والتي تتميز بانخفاض سعرها مقارنةً مع نظيراتها الجديدة، مما يجعلها ملاذًا لسكان المنطقة في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، حيث يعتمد العديد من الأهالي على هذه البضائع لتلبية احتياجاتهم اليومية بأسعار معقولة، مما يخفف من الأعباء المالية عليهم ويوفر لهم خيارات متنوعة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.
ويؤكد التجار الذين التقت بهم “نون بوست” لمعرفة أنواع ومصادر المنتجات، أن الأسواق في مناطق شمال غربي سوريا تغرق بالمنتجات المستوردة، والتي تتوافر بكميات كبيرة رغم ضعف القدرة الشرائية للسكان، تزامنًا مع نشاط واسع في حركة الاستثمار التجاري في المنطقة، حيث تنتشر المولات والمطاعم والمقاهي والمنتجعات بشكل ملحوظ.
أرقام واحصائيات
هذه المنتجات والبضائع السابقة تُستورَد من خلال خمسة معابر حدودية تربط مناطق شمال سوريا بالأراضي التركية، تُدير الحكومة السورية المؤقتة أربعة منها وهي باب السلامة والراعي والحمام وجرابلس، بينما تدير حكومة الإنقاذ في إدلب معبر باب الهوى.
وبلغة الأرقام والإحصائيات، فإن عدد الشاحنات التي دخلت مناطق شمالي حلب في 2023 من المعابر الأربعة التي تديرها السورية المؤقتة، بلغ نحو 79 ألفًا و16 شاحنة محملة بالبضائع والمنتجات، وتزن قرابة مليون و800 ألف طن، بحسب مدير إدارة الجمارك في الحكومة السورية المؤقتة، العميد عثمان هلال.
وأكد هلال لـ”نون بوست” أن المعابر تسمح باستيراد مختلف المنتجات والبضائع باستثناء المنتجات الروسية والإيرانية والإسرائيلية، والمواد المخدرة والمشروبات المسكرة.
أما معبر باب الهوى التي تديره حكومة الإنقاذ، قال مدير العلاقات العامة في المعبر، مازن علوش، إن حجم الاستيراد العام الماضي بلغ نحو 87 ألف شاحنة محمّلة بمليوني طن من البضائع المختلفة، بينما بلغ حجم التصدير نحو 16 ألف شاحنة محملة بوزن 420 ألف طن فقط.
وأضاف علوش لـ”نون بوست” أن المعبر يسمح باستيراد مختلف البضائع باستثناء المواد المحرمة، مثل الدخان والمخدرات ومنتجات بعض الدول، مشيرًا إلى أن المعبر لا يتبع بشكل مباشر إلى حكومة الإنقاذ السورية ويعمل بالتنسيق الإداري معها.
وخلف الاعتماد على الاستيراد بشكل كبير وانخفاض مستوى التصدير، حالة كساد في السوق المحلية، لا سيما في القطاعَين الزراعي (القطاع الأبرز في المنطقة) والصناعي الناشئ، والذي يعتمد على الصناعات التحويلية والمواد الأولية القادمة عبر الأراضي التركية.
القطاع الزراعي ضحية الاستيراد
ويُعد القطاع الزراعي من أبرز القطاعات الخاسرة نتيجة الاعتماد الكبير على الاستيراد في الشمال السوري، حيث يعاني الإنتاج المحلي من غياب التصدير وانخفاض مستواه عند توفرها، ما يعرّض المزارعين إلى الخسارة والعزوف عن الزراعة والعمل وفق آلية العرض والطلب المحلية.
عبد الغني غنو، وهو أحد المزارعين في منطقة إعزاز شمالي حلب، أوضح لـ”نون بوست” ضرر المزارعين من السياسات الاقتصادية غير المدروسة، مؤكداً أن العاملين في زراعة محصول البطاطا يتضررون في كل عام السماح للتجار في استيراد المادة من تركيا أو مصر.
وقال غنو لـ”نون بوست”: “في الموسم الماضي كان الإنتاج جيدًا، لكننا تعرضنا للخسارة نتيجة إدخال البطاطا التركية والمصرية من معبر باب السلامة تزامنًا مع الموسم، ما اضطرنا إلى وضعها في برادات التخزين وتحمل تكاليف إضافية ومرهقة، أو البيع في أقل من الكلفة”.
وأضاف أن “محصول البطاطا صنف من أصناف متعددة ينتجها المزارعون، فالحبوب والبندورة والخيار والكوسا والباذنجان والفاصولياء جميعها تستورد في أوقات المواسم، ما يتسبّب في انخفاض أسعارها، وبالتالي يؤدي إلى تضرر المزارع، والعزوف عن الزراعة نتيجة الخسارات المتكرر”.
ويشكل استيراد المنتجات الزراعية التي يمكن إنتاجها في مناطق شمال غربي سوريا، إلى جانب معوقات الزراعة الناتجة عن الظروف المناخية غير المستقرة وارتفاع الكلفة الزراعية، سببًا رئيسيًا في خفض النشاطات الزراعية والإنتاجية، ما يؤثر بشكل كبير على شريحة واسعة من السكان الذين يعتمدون على القطاع الزراعي كمصدر رئيسي للدخل، مما يزيد من التحديات الاقتصادية التي يواجهونها.
وتقدم الحكومة المؤقتة إعفاءات من الضرائب والرسوم الجمركية للمنتجات الغذائية والدوائية والمواد الأولية للصناعات المحلية، ما يحقق انخفاض أسعار بعض المنتجات المستوردة، الأمر الذي يشكّل ضغطًا على المنتجات المحلية الناشئة.
ويضطر العاملون في الصناعات التحويلية والورشات الفنية إلى التوقف عن العمل لفترات متقطعة، بسبب منع التصدير ومراعاةً لسياسة العرض والطلب في ظل توافر المنتجات المستوردة في الأسواق التي تنافس المنتجات المحلية.
ومن بين العمال محمد نعمة صاحب ورشة خياطة في المنطقة الصناعية بمدينة مارع شمالي حلب، الذي قال لـ”نون بوست”: “أضطر إلى إغلاق ورشة الخياطة (تشغل نحو 40 عاملًا) لفترات متقطعة في كل عام، بسبب عدم القدرة على تصريفها محليًا أو خارجيًا، فمحليًا تتوافر البضائع المستوردة وخارجيًا نواجه معوقات عديدة أبرزها شهادة المنشأ، وعدم القدرة على تصريفها بالسوق التركية والاعتماد على أربيل وليبيا”.
وأضاف أن “عدم قدرة السلطات المحلية على إيجاد مجال للتصريف المحلي والخارجي للكمّ الإنتاجي، يتسبّب في خفض النشاط الصناعي والتجاري في المنطقة ولا يمكن حصرها في نوع واحد، وقد تشمل مختلف المنتجات المصنعة محليًا، ويصعب تصريفها في السوق المحلية والخارجية”.
من جانبه، أوضح عبد الحكيم المصري، وزير المالية والاقتصاد في الحكومة المؤقتة، أن “نسبة التصدير منخفضة جدًّا مقارنة مع نسبة الاستيراد، بسبب المعوقات التي تواجه التصدير أبرزها شهادة المنشأ”، مشيرًا إلى أن المناطق التي تصدَّر إليها منتجات المناطق المحررة تقتصر على أربيل العراق، وليبيا وألمانيا، والمغرب والخليج، وأنواع محددة فقط.
واعتبر المصري لـ”نون بوست” أن ارتفاع نسبة الاستيراد طبيعية بسبب انعدام الاستقرار الذي يزيد مخاطر الاستثمار الصناعي، ما يدفع التجار إلى الاستثمار في العمل التجاري لاسترداد رأس المال بشكل مباشر.
وأشار إلى أن الحكومة تعمل على حماية المنتجات المحلية، من خلال إيقاف تصديرها أو استيرادها، لكن القرارات لا تعطي نتيجة.
فوضوية الملف الاقتصادي
رغم المساعي الحثيثة والمشجّعة على الاستثمار الصناعي في مناطق شمال غربي سوريا بشكلها الظاهر، إلا أن تعدد الجهات الإدارية من جهة والسطوة الفصائلية من جهة أخرى وغياب الرؤية الاقتصادية الواضحة، أفسح المجال أمام الاعتماد على السوق الخارجية، التي تسبّبت في تضرر المنتجات المحلية الرئيسية.
ويكشف حجم الاعتماد على الاستيراد وغياب التصدير عن الإدارة الفوضوية للملف الاقتصادي، لا سيما فرض أصناف وأنواع من المنتجات في السوق، على حساب المنتجات المحلية التي تخلق فرص عمل ومصادر دخل تنشيط الحركة التجارية داخليًا وخارجيًا.
ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر أن آلية الاستيراد والتصدير يجب أن تقوم لاعتبارات موضوعية ووفقًا لمصلحة الاقتصاد العام، بما يشمل مصالح المنتجين والمستهلكين، دون ترك المجال والحرية للتجار في الاستيراد والتصدير وفقًا لمصالحهم الشخصية التي تتعارض مع المصالح الاقتصادية للدولة.
وقال السدي عمر لـ”نون بوست” إن “مناطق شمال غربي سوريا تواجه نوعًا من الفوضى في التجارة الخارجية، بسبب ضعف السلطة الاقتصادية وعدم قدرتها على فرض نظام اقتصادي واضح، وهذا ما يلاحظ من خلال استيراد مواد لا يحتاجها السوق، وغالبًا ما تلحق الضرر بالمنتجين بشكل مباشر وبالمستهلكين بشكل غير مباشر”.
وأضاف إن “تأثير الاستيراد على الإنتاج المحلي لا سيما الزراعي، يؤدي إلى إغراق السوق، وبالتالي تدني الأسعار وخسارة المنتجين، وهنا قد يعتقد البعض أن هذا الأمر يصبّ في مصلحة المستهلكين، لكن هذا غير صحيح، فخسارة المنتجين تعني خروجهم من السوق، وبالتالي ندرة المادة في السنوات القادمة، ما يعني ارتفاع سعرها بشكل كبير، فإغراق السوق يعني خسارة للمنتجين والمستهلكين على حد سواء”.
وأكد أن فوضى إدارة الملف الاقتصادي ناتجة عن غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة، فضلًا عن عدم وجود مؤسسات اقتصادية تتعامل مع الملف الاقتصادي ككلّ متكامل، وتدرس أثر الاستيراد على المنتجين وعلى المستهلكين.
وأشار إلى ضرورة إدارة ملف الاستيراد بشكل أكثر فاعلية، ولا بدَّ من توزيع الإنتاج بحيث لا يكون هناك عجز في منتج محدد وفائض في آخر.
ورغم توافر البضائع في الأسواق واختلاف مصادرها إلا أن أسعارها متفاوتة ومرتفعة مقارنة مع مصادر الدخل المتاحة للسكان
وأكد السيد عمر أن الظروف الاقتصادية والمعيشية السائدة تجعل المواد غير الأساسية للمعيشة هي كمالية، أمثال الأدوات الكهربائية والتقنية، ويعدّ استيراد تلك المواد هدرًا لرصيد العملة الأجنبية، ما يؤثر على الاستقرار النقدي في المنطقة.
وأشار إلى أن سطوة الفصائل وسيطرتها على بعض مراكز القرار قد تكون من أسباب فتح باب الاستيراد لمنتجات لا تحتاجها المنطقة، وتراعي مصالح فئات بعينها، لافتًا إلى أن انفتاح المناطق المحررة تجاريًا مع العالم أتاح الفرصة أمام التجار للاستثمار في القطاع التجاري، بغرض كسب المال بسرعة، وتبييض الأموال من قبل شخصيات محسوبة على السلطات والفصائل.
ورغم مساعي السلطات المحلية في شمال حلب وإدلب على تشجيع الاستثمار في القطاع الزراعي والصناعي والتجاري، إلا أن الاعتماد على استيراد مختلف المنتجات بما فيها الصناعات التحويلية والزراعية مع انخفاض نسبة التصدير يحدّ من القدرة على استمرار الاستثمار، ويضع الصناعيين أمام العديد من المخاطر أبرزها كساد البضائع وعدم قدرة تصريفها محليًا في ظل توفر المستورد بجودة أفضل نسبيًا.